خيمة .. معتصمون .. واثنا عشر يوماً

الخميس 12 شباط 2009

 

قيس الحنطي

“بدأ المخيم فعليا يوم الاثنين 29/12/2008 قرب السفارة الإسرائيلية في منطقة الرابية في العاصمة الأردنية عمّان.. كان الاحتجاج على العدوان الإسرائيلي على غزة والمطالبة بالكرامة الوطنية الدافعين الأساسيين لهذا الاعتصام .. والمطالب كانت واضحة .. أبرزها طرد السفير الصهيوني وإغلاق سفارة الاحتلال وإلغاء معاهدة وادي عربة .. انتهى الاعتصام يوم الجمعة 9/1/2009 .. قدمنا شكوى في المركز الوطني لحقوق الإنسان يوم الأحد 11/1/2009 .. وعدنا لنعتصم يوم الثلاثاء 13/1/2009 .. ويوم الأربعاء 14/1/2009 منعنا من الاستمرار رغم مفاوضات اليوم السابق والتي أفضت إلى اتفاق على أن يستمر الاعتصام يوميا من الساعة 16:00 وحتى 22:00”

اثنا عشر يوما .. آلاف من البشر .. صمود .. إباء .. كرامة .. إبداع .. فن وثقافة .. إيمان بالتغيير .. وقلوب تحلم بالمستقبل .. بالأردنّ كريما وأبيا .. وبغزة عنوان للتحرير .. من أجل كرامتنا كان الشعار .. والنهاية كانت تقترب …

جمعة أولى عصيبة .. مرت بسلام بعد خسائر في الرئتين، ودموع سكبت قسرا .. لكن لم تقهر خمسة أيام أولى .. صمدت خيمتنا .. وكرامتنا صمدت حتى حين

جمعة أخرى .. لكنّ شرايين الأرض ستنحر هذا اليوم .. وستمضي خيمتنا بجناحين من الأرواح المقهورة .. لكنّ كرامتنا باقية .. وسيبقى الأردن عزيزا .. وستبقى الروح فلسطين

اثنا عشر يوما مرت من قبل أن يغتال الليل عصافير الصبح .. كان الحلم جميلا .. لكنّ الواقع كان أليماً .. عشنا المأساة مع أهلنا الصامدين .. كان ليلهم باردا، وكذا كان ليلنا .. كان زادهم قليلا، وكذا كان زادنا .. كانوا محاصرين ومهددين بالاقتلاع من التراب .. وكذا كنا .. لكنهم صمدوا أمام الطائرات .. ولم نصمد أمام الهراوات ومسيل الدموع منتهي الصلاحية … سامحونا يا أهل غزة .. لكن أعدادهم فاقت أعدادنا .. وعتادهم فاق عتادنا .. ولم يكن عتادنا إلا صدورنا العارية

راهن الجميع على يأسنا واستسلامنا للبرد والمطر وطول السهر .. كانت ليلتنا الأولى عصيبة .. مطر وطين .. لا شيء يسترنا من السماء سوى السماء .. ساهرون حتى الصباح .. صامدون رغم كل شيء .. وكذا كانت ثاني ليالينا .. صعبة .. باردة .. طويلة .. كانت أهازيجنا ونيران الحطب زادنا وغطاءنا .. لم يأل أي منا جهدا في سبيل المخيم .. بدأنا بخيم تسرب إليها الماء فسهرنا خارجها .. ويوما تلو يوم كان المخيم يبعث حيا .. فُرشت الأرض بالحصى .. وامتدت خيمة كبيرة أُنيرت بداية بكرم أحد ساكني المنطقة .. لم يلبث هذا الكرم أن انقطع مجبورا .. ففعل الخير بات ممنوعا وبالقانون .. في دولة القانون !!! من بعدها كان مولد الكهرباء يعمل ساعة ليرتاح قليلا ثم يعمل من جديد .. وكأن المخيم كان يريد أن يشارك غزة حتى في انقطاع الكهرباء وانعدام الماء .. بل وزد على ذلك انعدام دورات المياه أيضاَ!!!كاانت إضاءة الشموع والهتافات والأهازيج طقوسا يومية تبث الروح في المخيم وفي رواده الذين كانوا يتحلقون حول نيران الحطب .. فالدفء كان أهم من تجنب رائحة احتراق الحطب في أبرد أيام السنة ..

شعراء .. أدباء .. نواب سابقون .. نواب حاليون .. عرب وأجانب .. أحرار جاؤوا من كل مكان في الأردن … تواجد الحزبيون .. لكنْ غابت الأحزاب .. فالكل هنا أردنّ .. والكل هنا فلسطين .. وغير علميهما لم يرتفع باستثناء العلم الأسود .. دارت النقاشات هنا وهناك .. وانطلقت أفلام تروي تاريخ المأساة .. حاضرها .. والمستقبل كان أمام الأعين … كانت الثقافة تفيض في كل ركن .. وكذا تدفق الفن إبداعا في كل مكان .. فلسطين ترسم بالشموع وقت انقلاب السنة .. والكل حولها ينشد “فدائي فدائي” .. والكل حولها يدعو العزيز لينتصر .. جداريات ترصد شعبنا بصموده ونضاله .. وحنظلة الصغير مازال يقاوم على جدران خيمتنا وعلى الصدور .. شواهد القبور اصطفت كما لا نعرف أن نصطف بطابور الخبز .. وأغاني الثورة تصدح كل مساء ..

هذا كان مخيمنا .. لم نرمي حجرا .. لم نرجم صنما أو شيطانا بالغيب .. كان نداؤنا أن الأردن حر .. والسفارة احتلال .. فلا سفارة .. ولا سفير .. مطلب بسيط لم يتحقق إلا في أقاصي الدنيا !!! فكيف لو طالبنا بالجيوش؟؟!!! كيف لو طالبنا بالجهاد؟؟!!! ما أروع أن نحلم .. ما أصعب أن نحيا الواقع …

ثلاث ساعات بعد صلاة الجمعة .. كان الموقف امتحانا للصبر .. صبر المتظاهرين .. وصبر من سيقمع المتظاهرين .. ويقمعنا .. كنا نحمي الخيمة مصطفين زندا بزند متعاهدين على الثبات .. فالحتميّ أن الهدوء سيُكسر في أي لحظة .. والحتمي أن المتظاهرين سيهربون ويُضربون .. ولن يبقى إلانا في هذا المكان .. ندافع عن خيمتنا .. ندافع عن كرامتنا .. ندافع عن أردنّنا أمام جيشه !!!

ونفذ الصبر أخيرا .. وانطلق الغاز .. وانطلقت معه الأرجل .. والهراوات راحت تبحث عن فرائس .. وصمدنا حول خيمتنا .. كان دفاعنا عنها دفاع الأم عن ابنها .. ودفاع الابن عن أمه .. حاصرونا بالغاز .. ضربونا .. ورشونا بالماء .. كل هذا كان تحت أنظار عائلاتنا التي كانت تشاهد التنكيل على شاشات التلفاز …

ثلاث ساعات من الصبر .. تلتها ثلاث ساعات من الضرب والاختناق .. وكانت النهاية أن البقية الباقية في الخيمة حوصرت من جميع الجهات .. ثم أمطرت الخيمة بالغاز المسيل للدموع (للتذكير: الغاز منتهي الصلاحية منذ يونيو 1995 !!!) ومُنعنا من مغادرة الخيمة تحت تهديد الهراوات .. كان الهدف أن يختنق الجميع !!! لكن مع الدفع الشديد من داخل الخيمة غادرناها كموجة بحر .. سقط بعضنا وداسه الآخرون .. فلا عين ترى، ولا رجل تدرك أين تخطو .. ورغم قصر المسافة بين الخيمة والجامع والتي لا تتجاوز العشرين مترا، إلا أنها بدت طويلة جدا بفعل الهراوات التي كانت تنتظر كل من اتجه إليه .. والكل اتجه هناك .. فلا مكان غيره .. ونالنا من الهراوات ما نالنا …

وسقطت الخيمة .. وارتفعت شارات النصر خارج المسجد

هل هكذا تنتصر الجيوش؟؟

عانينا بعدها ما عانينا .. من رضوض وكسور .. ومشاكل في الرئتين .. لكننا بقينا على العهد .. نسري في كل درب تفضي للجهاد وللصمود .. ولا جهاد كجهادكم .. ولا صمود كصمودكم يا شعبنا الجبار في غزة .. نجود بما نستطيع .. إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .. حاربنا التطبيع .. قاطعنا منتجات العدو .. نشرنا فكر المقاومة .. أمضينا أياما طوالاً نجهز المساعدات لتبلغ أهلنا في غزة .. نزرع الأمل في صدورهم .. وصدورنا .. قرأنا لنزداد قوة .. صلينا ودعونا .. قلنا ونقول: لا …..

نعم

سقطت الخيمة

أما نحن

فلازلنا نقاوم

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية