عمان في الثمانينيات

الثلاثاء 08 كانون الأول 2009
 

بقلم سعــاد نوفــل

 

أنا بنتُ عمان القديمة، نشأتُ وترعرعتُ في حي عادي كان فيه البقال حميدو وبائع الخضار أبو غالب وأم عبد الكريم هي الحاجة التي يتبارك بها أهل الحي، ودار ابو قاسم يبيعون كرابيج الحلب صباح كل يوم جمعة، حين كان يوم الجمعة هو يوم العطلة الوحيد في الأسبوع قبل ان يتم اتباعه بيوم آخر لنصبح من جماعة الـ weekend، ولطالما رسمتُ أحلامي الصغيرة على جدرانِ ذلك الحي حيثُ كان ابناءُ الجيران يتسابقون على كشِ الحمام. وطائرات ورقية تملأ سماء المكان.

 

 

Istiklal stairs ولعلَ أدراجَ عمان قد احتلتْ الجزء الاكبر من طفولتي وذاكرتي في الثمانينيات، لم تنسيني اياها العشرون عاماً التي تلتها، فكلما مررتُ بدرج الاستقلال الواقع على يمين مسرح البلد شعرت بحنين فائض عن الحاجة،  أعجز عن مقاومته وكنتُ اجهلُ كنهه وربما لم أكن لأعرف ماهيته أو مصدره لو لم ابدأ بكتابة حكايتي مع المدينة. فقد كنت على موعد دائم مع أدراج عمان كل صباح إذ كنتُ اذهب إلى مدرستي مشياً على الأقدام وكانت الطريق تستغرق 20 دقيقة وكان يلزمني أن أنزلَ درجين من أدراج عمان القديمة للوصول إلى مدرسة خالد بن الوليد قبل ان يتغير اسمها بعد سنوات! كنتُ انسجُ حكاياتي على تلك الأدراج وأرمي عليها ثقل يومي وما مرَّ معي من احداث، واستمتع بعد درجاتها درجة درجة، لم يكن مهماً أن احفظ عددها، ففي اليوم التالي كنت اعرف بأنني سأبدأ العد من جديد! وكنتُ حينها امارسُ هوايتي الأولى في اكتشافِ شوارع المنطقة والبحث الدائم عن طريق جديد وكنتُ دائما اختارُ الطريقَ الأكثرَ بعداً برفقة صديقات الطفولة سكينة ورهام اللواتي قضيتُ اكثرَ من عمرٍ بالبحثِ عنهن بلا جدوى!

 في عمان كم هو جميل ان تتذكر أول مرة نجحت فيها، واول مرة فشلت، واول مرة وقعت ثم نهضت، مدينة تعرف فيها كيف تحب وتكره. مدينة تشكل في داخلك ذاكرة للمكان، حيثُ كنتُ الطالبةَ المعاقبة بنسخِ الدرسِ 3 مرات على الدوامِ، وكانتْ أمنيتي آنذاك والتي لم اتمكن من تحقيقها في أن ابيع العنبر في المدرسة كما كان يفعل الأولاد! أذكرُ أول فيلم شاهدته في المرحلة الإبتدائية كان فيلم “عمر المختار” وحينها كانت السينما بالنسبة لطلاب الصف الرابع اكتشاف، وحين كانتْ التسلية الوحيدة هي الذهاب إلى مدينةِ ملاهي راس العين. كما أذكر تماماً أول مرة أتهمتُ فيها بأنني مذنبة حين اكتشفتْ شقيقتي الكبرى رواية عبير تحت وسادتي!

 مدينة تتفق مع الآخرين فيها وتختلف، مدينة التناقضات والمتضادات في آن، تختزل احياؤها وشوارعها بالقصص والحكايات، الجار المحافظ الذي تزعجه الموسيقى العالية، والمتحرر الذي ارسل بناته للدراسة في لندن، قبل ان نتعرفَ على اليساري والليبرالي  والعلماني.. أناسٌ عائدون من رحلة الحجِ، وأجراسُ الكنيسةِ تدقُ في أيام الأحد.  أذكرُ بأن ساندرا سواقد كانتْ هي أول شخص مسيحي اقابله في حياتي، وكانت صديقتي المقربة آنذاك، كانتْ تحبُ كعك العيد، وكانتْ تهديني البيضَ الملونَ في عيدِ الفصح، لم أكنْ اشعر بالإختلاف بيننا قط إلا حين كانتْ تغادرُ حصة الدين في المدرسة!

 عمان، تدهشك بتفاصيلها، مدينة تشارككَ أفراحكَ وتحملٌ معكَ احزانكَ وتعيشْ معك طفولتكَ لكن دون أن تشيبْ،

عندما كان التلفزيون الأردني هو الخيارُ الوحيدُ المتاح أمامنا قبل اكتشاف الساتلايت في مطلع التسعينيات، وكنا ننتظر حلول الساعة الرابعة ليفتح التلفزيون الأردني شاشته، لنتابع هيا إلى المناهل ونلتقي ابو الحروف والذي شكل جزءا هاماً من طفولةِ العمانيين في ذلك الوقت، ناهيكَ عن صاحبِ الظلِ الطويل الذي تركَ اثراً واضحاً على حياتي فيما بعد. مدينة تحترمُ طفولتكَ وتقدرُ ما أنتَ بحاجةٍ إليه وتقدمه لك على جرعات، كان هذا قبل أن نتعرفَ على المسلسلاتِ التركية التي باتت الهاجس العائلي الوحيد. وما زلتُ لا أفهم حتى هذه اللحظة ما الجديد الذي قدمهُ مهند ونور للعمانيين ولم يتمكن روحي الصفدي وعبير عيسى.. ربيع شهاب وحسن الشاعر من تقديمه حين كانت لدينا دراما اردنية!

 ما أجملَ عمان في الثمانينيات، حين كان وجه غالب الحديدي هو نشرة الاخبار الوحيدة المتاحة قبل أن نغرقَ بين عشرات المحطات الإخبارية! وحين كانتْ مشاهدةُ مازن القبج في البرنامج الزراعي “خضرا يا بلادي خضرا” من الطقوس (الأعراف الرسمية) المتبعة كل مساء، وصوتُ كوثر النشاشيبي في الإذاعة الأردنية قبل أن تتعرفْ والدتي على البي بي سي وقبل أن استيقظَ على مسجات وت وت الإخبارية كل صباح.

 ومما لا شك فيه أن علاقتي في والدي (1944-1989) كانت تحتل الصدارة في تلك الفترة تحديداً ولا زالت  ترتبط بذاكرتي بأمرين لا مفر منهما أغنية خالد الشيخ “يا معلق بحبل الحب إذ كنت ترتاح للغوالي مثالي” والعراق التي شكلتْ كذلك جزءاً من طفولتي حيثُ عملَ والدي ما بين عمان والعراق في أوائل الثمانينيات وكان يعود محملاً بالهدايا التي كانت تفوح منها رائحة بغداد، الكاشو المعلب  والمن والسلوى.

 وقد يكون السفر والإغتراب القصير عن المدينة بين حين وآخر، قد ساعدني على اكتشاف قيمة عمان كمدينة، والتي لم اكتشفها لو لم ابرح مكاني. ولعل أهمها هو رائحة المدينة والتي لا يمكن تمييزها إلا من خلال السفر، فلكل مدينة رائحة! ولم أكن لأمّيز رائحة عمان لو لم اشتم رائحة قلب دمشق وجنوب ايطاليا وأقصى المغرب. وينطبق الحال على علاقتي مع أدراج عمان والتي لم أكنْ لاكتشفها لو لم أبدأ كتابة حكايتي مع المدينة.

 جميع هذه العوامل مجتمعة ساعدتني على فهم المدينة، أحبُ بساطتها  وتعقيدها المعاصر، مميزةٌ هي شوارعُ عمان وعادية جداً في آن، وكلما احسستُ بالإغترابِ عن المكانِ، أثبتُ المحطة على التلفزيونِ الأردني، وما زلتُ افعلُ ذلك بشغفٍ!

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية