في الدور السفلي

الأحد 21 شباط 2010

mourningبقلم يارا شعبان

يا لنا من تعساء، نُودِع بعضاً من أنفسنا في دموع من نحب، ومهما أدركنا أن الموت زائر لا محالة، فإن هبوبه ما يزال يأخذ من أفئدتنا قطعته المفضلة. ويبقى الزمن هو العدو والصديق معاً، نحاربه ونصلي من أجله.

ننتظر الآن الزيارة الأخيرة، زيارة البيت هي بروتوكول عائلي حسب ما شهدت. جميع الرجال والنساء هم من الدائرة العائلية المقربة. الرجال في صالون الضيافة والنساء في غرفة المعيشة الأكثر اكتظاظا.

أقدم عزائي لهن، غريب هو الحزن و الأغرب منه هو ذلك الاحساس بالفقدان، لكأنهن ينسين و يتذكرن فجأة، تختلط عليهن المشاعر و تتكاثر ثم تنسحب. النساء أدرى أن البكاء يغسل النفس و يخفف عبئها.

أكره الهيئة العامة لنسائنا في الحزن. فجميعنا نبدو كنسخ مقلدة لشخوص فنان لم يحسن استخدام اللون الأسود.

أراقب بحذر موضع التابوت. هذه زيارتي الأولى لها بعد أن تزاوجها مرضها الأخير وقدم لها سريراً فتابوتاً ثم قبراً. لم أستطع السماح لنفسي برؤيتها بهذا التخريب المتعمد، فطوال ذاكرتي وأنا أحتفظ لها بصورة لم تتغير؛ طريقة تصفيف الشعر وصوتها الهادئ. كيف لي أن أراها ملتصقة بأجهزة تدفع الحياة فيها رغماً عنها، أن أراها متعبة، مرهقة، أن أراها هزيلة و ممتلئة في أوقات متلاحقة. لا أحب أن أخوض معارك خاسرة.

تقفز في مخيلتي صورة أخرى للموت، فأرى الموت الآن طفلاً صغيراً كثير الأعذار: “متأسف لكن هذا الجسد لم يخلق لمثل هذه الحياة”، ” متأسف لكن هذا الجسد لم يحتمل سرعة هذه المركبة”، ” متأسف لكن هذا الجسد قد اعترض طريق رصاصة”، ” متأسف لكن هذا الجسد لا يحق له أن يفرض حقه قبل أن يسمح له”، “متأسف لكن ألا تعلمون أن هذا الجسد هو محارب محدود السلاح ومحدود المواهب!”

ها قد أتت. أُغلقت الأبواب فجأة أوهكذا أحسست. يفتح التابوت وتسرع جميع النساء للإحاطة به. يبدأ الترحيب مخلوطاً بالبكاء: “أهلاً فيك ببيتك”، “شرفت بيتك”، “احكيلك كلمة ياختي”.

أنا ليس عندي أخوات، على الأقل غير مذكورات في دفتر العائلة. كيف لأختٍ أن تخسر أختها؟ أحس أني محظوظة بعض الشيء؛ فتكاليف فراقي محدودة مقارنة بأخواتها وإخوانها العشر.

أريد أن أراها، أقترب ببطىء. الجسد منثورعليه بضعة أزهار، علامات الصليب مطبوعة على القماش الأبيض. أرى الآن وجهها من بعيد، شبح قد اعتصر قلبي . . لم أعرفها، لم أعرفها، لم أعرفها.

هل هذه هي ملامح الموت؟ رفضت، استنكرت، استقبحت. ما نفع كل هذا؟ جلست أستغيث وجه أمي، هل يدري الرب كم أخاف أن أبحث عن وجه أمي ولا أجده، أو أن أبحث عن صوت أمي ولا أسمعه.

ها هي أمي. أقبلها بنظراتي. أما هي فقلم من الدماء بدأ يبصر النور من منخرها. قد رسم المرض قصته على تقاسيم وجهها، وترك لنا و للموت ذكرى. هذه ليست هي، هذا فقط جسد.

أسمعهن يرددن: “شورها من شور أبوها” ويتبعها ” شورها من شور أخوها” بنغمة موسيقية. أهكذا تقاس حياة امرأة؟ هل هذا الوسام الشرفي لائق لتودع به؟ دعوني أعلن هنا، أن هذه المرأة كانت “موّجبة” وليس فقط هذا، فقد كانت مثال يحتذى فيه لحفظ الأصول والتقاليد واللياقة والأدب والكرم. لكني أعلم أيضاً أن هذه الحياة جلبت لها الألم والوحدة، وأن حمل تكاليف وهموم العائلة والسعي لراحة وسعادة جميع من حولها هو حمل ثقيل يكسر الظهور، وهو حمل لا يقدر عليه إلا امرأة مثلها. هل أستطيع أن أنحاز للنساء ولو في جملة؟ “الست اللي قد حالها” أعني المرأة التي هي بكامل أنوثتها هي التي “بتقعد وبتقَوِّم” وهي التي “بتشور وبتّاخد بشورها”.

قد أتى “أبونا” وبدأت صلاة المسبحة. تهدأ النفوس لهذا الترنيم المتراتب. وبهذه الصلاة ودّع هذا الجسد.

“الستات عند السلطية ما بيطلعوا عالقبور”. هي عادة بالية قديمة لكنها عادة على كل الأحوال. لكن تبعاً لأن الذهاب إلى القبور ثم العودة لأخذ النساء من المنزل ثم الذهاب إلى ديوان العزاء هو تكليف للوقت والجهد، فإن رجاحة العقل تقتضي أن تذهب النساء أيضاً إلى القبور. وهذا ما حدث.

تتقدمنا سيارة الموتى في طريقنا لمقبرة أم الحيران. إني أكاد أجزم بأن ذوقنا ومهارتنا وأخلاقنا على الطرقات دفعت بسائق مركبة الدفن أن يواظب بالدعاء على “زملائه وإخوانه السائقين” بأن يرقدوا في المقبرة التي هو متجه إليها. لا داعي للشرح، قليل من الإحترام فقط.

لا أخفيكم. أحب زيارة المقابر. فهي وإن كانت مكتظة بزائريها أو ساكنيها، تدفع في نفسي حنين وسلام. يعلم جميع من فقد أن شفاء الروح يبدأ حين يوضع الجسد في التراب، أما هي، فقد تلامس التابوت بقايا عهد زوج قد رحل من زمن ولم يبق منه سوى تراب شابه البياض. أهكذا يختفي الإنسان؟ يا له من سلام أبدي حقاً!

تنتهي الآن أية قدسية –سواء كانت ملصقة أو نابعة- للموت. وتبدأ مراسم تقديم العزاء التي يشارك فيها الجميع، والجميع بدوره مدعو للمشاركة فيها.
أمام مدخل الجمعية، استوقفنا للإشارة أنه هذا مدخل “الزلام” أم “الستات” فعليهن أولاً مراجعة هذه الخطوات الجريئة والطائشة والعودة من حيث ما أتينا ثم التوجه يميناً لملاقاة بداية درج جانبي يؤدي إلى القبو السفلي أقصد الطابق السفلي. وبين الفينة والأخرى يأتي رجل ليدل امرأة شاردة قد تاهت عن المدخل “الحقيقي” للنساء.

لماذا الدور السفلي للنساء؟ ولماذا تم بناء هذا الديوان الحديث بهذا التقسيم غير الأخلاقي –بنظري- في الأساس؟ الطابق السفلي أقل مساحة وأبسط من حيث التجهيزات، أما الطابق العلوي فهو مهيأ –مع قليل من المبالغة طبعاً- لاستقبال الملوك.

الرجال المعزون هم دائماً الأكثر عدداً و تشهد الإحصاءات العامة الأردنية بصحة ذلك ف 11.7% من النساء عاملات وهذه السيادة الإقتصادية تفرض سيادة اجتماعية وبالتالي تفرض مساحة “استقبال” أوسع وأكبر.

لن أقترح تساوي مساحة أو تجهيزات الطابقين، لست بهذه السذاجة أو السخافة. لكني أقترح بشدة الإبقاء على مدخل واحد للديوان. نعم المدخل مهم. جغرافية وفيزيائية المدخل مهمة، والتاريخ العمراني والإنساني يشهد لأزلية هذه الأهمية وأبعادها النفسية والإجتماعية. أما بعد المدخل يستطيع مصعد أو في هذه الحالة مهبط أن يقود النساء للطابق السفلي، وأنا أشهد أن جميع النساء سيسعدن بالنزول، فالنساء أدرى أن الطابق السفلي دافىء في الشتاء و لطيف في الصيف.

تقترب بضع نساء خجولات من مدخل الرجال، تستأذن أن ترى فلاناً أو فلان. هن زميلات عمل، يتحتم بروتوكول الزمالة تقديم العزاء، لكن هذا العزاء فقير وفقره موجع، فلا قهوة ولا مقعد، فقط بضع كلمات يتيمة وابتسامة عطف نسائية أجزم أنها أفضل من “ديوانات” الحوار السياسي والإجتماعي والرياضي التي تعقد في الداخل. والرجال الزملاء الأكثر ندرة ليس لهم نصيب كامل في مراسم تقديم العزاء أيضاً، فإما أن يهتدوا على أقرب رجل ليتقديم العزاء له. أو ينزل بعضهم محرجين يقفون على أبواب المدخل السفلي، أو تسرق بعض النساء دقائق تصرف معظمها في تسلق ونزول الدرج حتى تتمكن من شكرهم لقدومهم وتقبل عزائهم.

يبقى السؤال: بعد عقد أو عقدين من الزمن، هل نحفظ نحن دقائق هذه الأمور؟ ونتبع الشورة والتقليد والأصول والعادات بتلك النكهة، بنكهة أن العزاء سداد ودين؟ هل تبقى النساء هن “النساء” والرجال هم “الرجال”؟

الأهم من ذلك كله، ماذا يبقى بعد دلات القهوة والطعام على روح الفقيدة وصفحات النعي في الرأي؟ ماذا يبقى بعد سيل من الكلام والسجائر؟ بيت فارغ من صاحبته بلا شك، وفنجان قهوة لن يدعى لشربه، وصورة تعلق على الحائط، وكثير من الوحدة والقليل من الأصدقاء.

قد انتقصت محبتي وحرمت من قبلتين. لأستأذنك هنا عمتي وأودعك.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية