الإصلاح الذي نريد

الأحد 27 شباط 2011

إن أرشيف المقالات التي كتبت عن الموضوع يكفي لبيان عدد المبادرات الاصلاحية التي كلفت بها اللجان، والتي جاءت بأفضل التوصيات ثم لم يكتب لها الحياة. ونستطيع أن نذكر عشرات اللقاءات التي قيل أنها تختلف عن سابقتها ليأتي التقرير اللاحق ويصف وضعنا بأنه يشبه “مكانك سر”، ثم تشبعنا صحيفة يومية في زاوية “رأيها” بالآمال التي تعلقها على التصريحات الحكومية وما زلنا على ما نحن عليه ندور في حلقة مفرغة.

لا شك أن الاحتجاجات الأخيرة مختلفة، وسقف المطالب بالطبع أعلى مما يتوقع الناس من أقراني حيث لم نشهد من قبل مطالب بهذا السقف العالي، وكنا دوما نحذر من الخوض فيما هو أبسط من ذلك بكثير، ولكنني لا زلت أتساءل ان كنا اتفقنا على الاصلاح الذي نريد. فقد يعني الإصلاح للبعض “الملكية الدستورية والحكومة البرلمانية”، ويعني للبعض الآخر تعديل القوانين بما يضمن تمثيلا أفضل، وغيرها من المحاور التي يتبناها “أصحاب الأجندات الخاصة” الذين خلتهم من تبعات الخصوصية الأردنية ولكن تبين أنهم منتشرون في تونس ومصر وليبيا وغيرها من أقطار الوطن العربي!

في تصريحاته التي أعقبت حديثه عن “الملكية الدستورية” في وقت سابق من العام الماضي، صرح سياسي اسلامي أن المبادرة سوف تحفظ “للشرق أردنيين هيمنتهم على مؤسسات الدولة”، وفي مقابله، فإنني أنا شخصيا على الأقل أنتظر من الاصلاح أن يحقق المساواة وليس أن يمنحني مقعد اضافي على حساب غيري كما يحلو لقوى الشد العكسي أن تدعي. الاصلاح الذي أنتظره أنا سوف يعاملني وغيري من الأردنيين من كافة الأصول والمنابت على قدم المساواة، مما يعني أننا لا زلنا غير متفقين على أي خطة مستقبلية لأننا لا نزال محكومين بذات العقد التي عطلت الاصلاح مرارا.

ليس هذا وحسب، فإن المطالبين بالإصلاح يريدون محاربة الفساد، أو على الأقل فإن هذا هو المعلن، فما هو الفساد ومتى تصبح محاربته واجبا وطنيا “يستدعي حش كافة القوى”؟ هل يتساوى الفساد الذي أكون أنا طرفا فيه مع الفساد الذي يكون شخص آخر ذو نفوذ أوسع مني متهما فيه؟ هل أستفرد أنا “بمدخرات البلد” و”أسرق قوت المواطنين الضعفاء”، بينما غيري يكدس الأموال في جيبه ليحافظ عليها مثلا؟ هل يعني ذلك أنني لست مخولة بممارسة الفساد لأن مواطنتي مشكوك فيها، فهل يصبح الفساد حلالا إذا اجتزت اختبار المواطنة “الحقة” و”القانونية”؟

اذا كتب للإصلاح أن يولد هذه المرة، فمن المفترض أن يرى النور في البيئة التي تحترمه، وهو ما يستوجب العمل على “الحوار”، ولا أعني بالحوار ذلك الذي نشهده طوال الوقت ثم نعود لنتصرف وكأنه لم يكن، بل أعني ذلك الحوار الذي يجب أن يدور بين الناس العاديين، بين أصحاب الصور النمطية المسبقة، بين قوى الشد العكسي التي تتمسك برأيها وتلك التي تربط “الشهامة” بمدى مقاومة الاصلاح ولا أدري لماذا يعتبره البعض مضادا للأصالة.

يجب أن نبدأ عملية تصحيح للأفكار المغلوطة التي ينشرها البعض، فينشأ عليها العديد من الناس الذين يتشربون فكرا شوفينيا خالصا يريد شعبا نقي العرق، ولكنه فكر يٌستفز المروجون له عندما ينعتون بالعنصريين. يبدو أننا نملك تصورات مختلفة للتاريخ الحديث والأحداث التي مر بها الأردن المعاصر، وهو ما يخلق سوء الفهم الذي نعيشه في كثير من الأحيان، مع أن البعض يجادل بأن أصحاب هذه الأفكار هم قلة من المجتمع ولا يمثلون الأكثرية، إلا أنهم متنفذون ولديهم صوت مسموع وهم نشطون أيضا ويحشدون الناس من حولهم على مطالب مقلقة، ليس لأنها تضر بمصلحتي الشخصية كما يروج ولكنها تبعث على القلق على مستقبل الأردن.

أول هذه الأفكار هو موضوع “الجنسية” التي توضع في كف، ليقابلها في الكف الآخر “التجنيس”، فالكثير من الناس يخلطون بين الاثنين والفرق كبير. لا أدري لماذا لا نركز في مناهجنا الدراسية على أن الأردن وفلسطين شكلتا دولة واحدة في يوم من الأيام، وقد تم منح الجنسية الأردنية للفلسطينيين فأصبحوا مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، لا أدري لماذا يصر البعض على استخدام مصطلح “التجنيس” عند الاشارة إلى الجنسية التي يتمتع بها القسم الأكبر من الأردنيين من أصل فلسطيني بمعزل عن هؤلاء الذين “تجنسوا” بطلب من وزارة الداخلية. لا أدري لماذا لا ندرس أو نعرف كيف كان شكل الوحدة وكيف كانت الدولة الواحدة ولا نذكر الوحدة إلا عندما ندرس سطرا عن “مؤتمر أريحا” والذي جاءت الوحدة على أثره.

لماذا لا نتعلم عن أردن الخمسينات والستينيات والذي يقال لنا بأنه “غير الأردن الذين نعرف اليوم”؟ لماذا لا نتعلم في مدارسنا عن ذلك الوقت الذي كنا –بحسب الروايات- ننعم بوحدة اجتماعية أفضل من هذه التي نعيش ومن ثم نترك لأهواء الكتاب الأجانب الذين يكتبون لنا تاريخنا وقصصنا؟ لماذا لا يتعلم كل شخص مسكون بالشوفينية هذه الحقائق ويسمع القصص عن الناس التي كانت تعمل في عمان وتذهب لزيارة أهلها في القدس في الليل وعن العشائر التي كانت تذهب للعمل في فلسطين وعن الأصل الواحد؟ لماذا نغفل الحديث عن الوحدة التي قامت ونكتفي بالاشارة ومن ثم يشبعنا أصحاب المواقف المسبقة بالصور النمطية؟

كما أننا لا نفهم أن الجنسية ليست أمرا بهذه السهولة، ولا تمنح وتسحب بهذه البساطة، ولست أدري كيف يعتقد أي شخص عاقل بأن سحب الجنسية ليست له آثار جانبية وأن على الجميع أن يستمر بالشعور بذات الانتماء وهو يحس بالتهديد بسحب الجنسية! ويجب أن نلتفت إلى أن حامل الجنسية هو إنسان له حقوق وواجبات وليس مجرد شخص “صافف على الدور في المخبز وعامل أزمة” ومن ثم فإن سحب جنسيته “رح يريحنا شوي” كما برر أحد الناشطين الداعين إلى “الحفاظ على الأردن من المؤامرات” في لقاء عائلي بعيدا عن جمهور “الشرفاء” الذي ينتظر بياناته النارية.

ثم نأتي على التعميم، وهو ما يخلق الاصطفافات ويجعل منا فريق “احنا” وفريق “هم”. عند الاتهام، أوضع في خانة ثلاث ملايين مواطن آخرين فقط لأننا نتشارك في الأصل، ويفترض مني بالمقابل أن أقوم بردة الفعل المناسبة وأضع الملايين أيضا في خانة واحدة “لأنه كلهم هيك”! من الممكن أن يكون في العائلة الواحدة أو الأسرة النواة أيضا اختلافات لا تنتهي في الرأي، ولكن ثلاث ملايين لا يمكن أن يختلفوا؟ هل يقبل العقل بهذا المنطق؟ يجب أن نتعلم أن الشخص الذي أساء لنا لأي سبب كان لا يشبه بالضرورة كل من يشاركه الاسم الأخير أو البلدة الأصلية.

ومن الأفكار الأخرى أيضا أن ذلك “المتباكي على حقوقه” يضر بسمعة الأردن في الخارج وهي فكرة مغلوطة، لأن انتقاص الحقوق والشوفينية واالفساد وغيرها هي التي تضر بسمعة الأردن وليس الحديث عنها. يذكرني ذلك باللقاء الحواري الذي جمع طارق خوري والكاتب عبد الهادي راجي المجالي على قناة الجزيرة، فجاء الكاتب ليقول بأن جمهور “الوحدات هتف لرموز تعادي الدستور الأردني” وقصد بها حركة حماس، أي أنه برر ضرب الجمهور – قبل ظهور نتائج التحقيق التي لم تظهر حتى هذه اللحظة – بأنهم هتفوا لحماس، اذا كان طارق خوري يسيء لسمعة الأردن، لنسلم بذلك، فهل الكاتب الذي كان في الاستوديو للدفاع عن الأردن يحميها عندما يقول بأن الجمهور هتف لحماس فاستحق الضرب؟ هل يضرب في الأردن من يهتف بآرائه ويتم الحديث عن ذلك في الملأ من دون الشعور بالحرج ومن دون المس بصورة الأردن؟ ولنسلم برواية المجالي، فهل لا يضرب جمهور الفيصلي عندما يهتف لشارون لأن اسرائيل دولة صديقة ونرتبط معها بمعاهدة سلام؟

كل هذه الأسئلة يجب أن نجد لها جوابا حتى لا يكون الإصلاح مفرغا من المعنى، هذا ان شهدنا الاصلاح. وعلينا أن نتذكر بأن كل القصص التي نستطيع أن نتشاركها لنعبر عن أي ظلم نتعرض له، من الطرفين على حد سواء، يقابلها عدد مماثل من القصص لأناس من “الطرف الثاني للمعادلة”. فقد كررت طالبة في ذات الجامعة التي درست بها على مسامعي ذات القصص التي شهدتها بنفسي، غير أنها كانت من طالبة من أصل آخر لم تتمتع بأي امتيازات في القسم الذي درست فيه بل جاءها أساتذة لديهم درجة كافية من العنصرية ليعاملوها معاملة مختلفة، وكنا نتبادل القصص ذاتها والتعابير ذاتها والادعاء بالظلم ذاته، ثم نقول بأن هناك خاسر وهناك رابح بينما الأصح أن نقول أن المعاملة على أساس الأصل يخسر منها الطرفان وان اختلفت الظروف.

أتمنى أن نجد اعلام لا يجيد الاصطفافات، وأن لا يكون هناك كاتب لكل فئة ومتحدث باسم كل فئة، وأتمنى أن نتعلم أن نسأل عن الهوية وغيرها في المدرسة وفي مراحل مبكرة حتى لا نصل الجامعات ونجلس في مقاعد مخصصة لنا ونكون موزعين على “ساحة الشركس” ومقاعد “عشائر الجنوب” وغيرها من التقسيمات، وحتى لا نتعلم أن الحديث عن الهوية يدخل في التابوهات الممنوعة ثم نكتشف أنها تحكم الجامعات والسياسات وكل ما يدور حولنا وما زلنا لا نعي ما هو الوطن البديل! أتمنى ألا يلتزم البعض ممن يملك قوة التأثير الصمت حتى لا تتحول تلك الأقلية الشوفينية إلى أغلبية!

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية