خطاب الثورة

الأربعاء 09 آذار 2011

بقلم أسامة طلفاح

نظرة لما بعد الثورة

لا زالت الثورات العربية مستمرة، وستبقى قائمة ما دام هنالك شعور بالظلم واشتياق لكرامة وحرية افتقدناها كثيراً، لكن اليوم وبعد أكثر من شهرين على “ثورات الشعوب العربية” تشكل لدينا خطاب معاصر من المفروض أن يتماشى ومقتضيات العصر، ذلك الخطاب فنّد الكثير من النظريات وعرّى الأنظمة العربية بكافة تجلياتها، البوليسية منها والسياسية والاجتماعية وحتى الدينية، فباتت تلك الأنظمة اليوم بالمعنى الحقيقي المنظور فاقدة للشرعية، لأننا بتنا على يقين أن الشرعية اليوم تحددها الشعوب دون اللجوء إلى نظريات تلك الأنظمة.

وعرّت تلك الثورات بعض أحزاب المعارضة التي شكلت صورة قاتمة على مدار السنوات السابقة، فبينت أن تلك الأحزاب لا تختلف عن الأنظمة في قمعها للرأي والرأي الآخر، وأن تلك الأحزاب في معظمها تشكل حزب “الشخص الواحد” والفكرة الواحدة التي من المستحيل أن تكون قابلة للتداول مثل السُلطة لدى الأنظمة. بل وبينت هذه الثورات مدى انتهازية الكثير من تلك الأحزاب التي لم تكن فاعلة بما يكفي لتكون أحزاباً وطنية بامتياز تعمل من أجل الوطن والمصلحة العامة، بل كان سعيها للسلطة بطريقة منفرة للآخر. تلك الأحزاب معارضة كانت أو موالية مع تحفظي على “الموالاة والمعارضة” عملت لتنفذ توجهات الأنظمة ذاتها مع اختلاف الصورة بالظاهر وتشابهها بالمضمون. ولنا أن نسوق مثالاً واضحاً على فشل تلك الأحزاب وانتهازيتها وهو ما يحدث اليوم في الساحة العربية، فتلك الثورات التي أسقطت المثال والتمثال لم تكن تنظيمية بالمعنى الواضح ولم يكن معظم الذين قادوها مسيسين أو ينتمون لأحزاب، فلم يكن لأي تنظيم أو حزب أو جهة أو حركة علاقة مبدئية بثورة الشباب العربي.

كما وبين ذلك الخطاب أن الخلل الأساسي كان في العقلية العربية، فاليوم في عالمنا العربي نحن بحاجة لتجاوز مرحلة تتبع أخطاء تاريخ مزور قد انتهى، فكل ما نعيشه اليوم في الوسط العربي من تخبط هو نتيجة طبيعية، وإفراز منطقي لواقع المجتمع العربي المخلخل في بنيته، إذ أننا بحاجة لدراسة واقعنا العربي بكل متعلقاته، وبحاجة لتقديم نقد جذري للعقلية العربية، وللذهنية التي تحكم منطلقاتنا للحياة، ومقارباتنا للوجود.

فلا زالت معظم الأنظمة العربية الأخرى التي لم تطلها حُمّى الشعوب غائبة وبعيدة عن ذلك الخطاب الذي فرضته اليوم إرادة الشباب.
فهل هي مصادفة أن تكون كل الانظمة العربية متشابهة إلى حد التطابق؟ وأن يكون معظم الزعماء نماذج متشابهة وكأنها نسخ “كوبي وبسيت،” مع اختلاف في طريقة الأداء؟

وهنا مشكلة، لا بُدّ أن نتجاوزها اليوم، هذه المشكلة لا تكمن في الأنظمة فحسب، بل تكمن في العقلية العربية التي أفرزت نماذج لا زالت تتبنى منظومة فكرية بدائية، تستند إلى إيدلوجيات متخلفة وستفرز دوما نفس النماذج إذا ما بقي الحال على ما هو عليه.

ما أعنيه هو أننا بحاجة لدراسة الحالة العربية بوصفها ظاهرة تتسق ضمن صيغة واحدة، تستند إلى مرجعيات مشتركة تخص العقلية العربية، لا بوصفها حالات فردية، فلن ينفعنا كثيراً تتبّع ممارسات زعماء الأنظمة العربية (مثلاً) بوصفهم أفرادا يمارسون طقوس القمع على مواطنين “عاجزين.”

ونتيجة لهذا الخطاب المعاصر أيقنت الشعوب العربية أخيراً أن ثمة خللاً في المنظومة المعرفية بكل ما يتعلق بها من حيثيات، وتحاول الشعوب العربية أن تقدم نقداً حقيقياً “للمتفيزيقيا” العربية وأوهام المرجعيات الدينية لأنهم أدركوا أن المشكلة تكمن في طريقة التفكير، وفي طرق التعاطي مع الواقع، لذلك استطاعت شعوب تونس ومصر واليمن وليبيا وغيرها اليوم أن تخرج من حكم تلك السلطات لتتشكل التصورات التي ستعيد كتابة التاريخ من جديدْ.

واختم بمقولة جبران خليل جبران “لن تنجح الملايين من الجداول الصغيرة في اختراق الصحراء، فمياهها ستختفي في أعماق الرمال. ولكن اذا جُمعت معا فإنها تصبح نهرا كبيرا يكفي لعبور الصحراء.”

[email protected]

8 responses to “خطاب الثورة”

  1. Rula says:

    مقال رائع يفصل واقع الخطاب العربي في ظل الثورات اليوم
    شكرا اسامة

  2. ولد إبراهيم says:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    والتحية كل التحية للكاتب الأستاذ أسامة طلفاح

    الحقيقة وجدت الكثير في هذا المقال ما يحتاج للنقاش المفصل والمتعمق
    وسابدأ بأهم فكرة وردت في هذا المقال وبعد الإنتهاء منها ننتقل بإذن الله لغيرها من الأفكار الواردة في هذا المقال

    رأيت ولعلي مخطئ أن زبدة المقال تكمن هنا ( إذ أننا بحاجة لدراسة واقعنا العربي بكل متعلقاته، وبحاجة لتقديم نقد جذري للعقلية العربية، وللذهنية التي تحكم منطلقاتنا للحياة، ومقارباتنا للوجود.
    (

    ولدي سؤال أوجهه لأستاذ طلفاح المحترم وهو

    ما هي القاعدة العقلية التي تراها صالحه ليتم بناء عليها نقد العقلية الحالية ومراجعتها ،وما هي المعاير التي رتاها مناسبة لبناء عقليه ( ذهنية ) وتكون صالحه ؟

    كل الإحترام والتقدير ولي عودات بإذن الله فالمقال يستحق الكثير

    • أسامة طلفاح says:

      أخي العزيز، أشكرك على مداخلتك الجميلة
      إن الحديث عن “العقلية العربية” حديث يطول شرحه ولعلّي سأقوم على طرحه ضمن قراءة خاصة مستنداً لقراءاتٍ عدة لكثير من أساتذتنا وكتاب عرب معاصرون طرحوا كثيراً ما يخص العقلية العربية، إذ أن تلك الملاحظة لا يمكن أن تقدم في سياق موضوعي على هذا النحو المختزل، لكنني هنا وفي الحديث عن العقلية العربية استذكر اللحظة مقولة الفيلسوف العربي مالك بن نبي الذي قال ” إن المجتمع لا يولد ولادة فعلية إلا بالتخلص من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار”. وأطرح مثالاً على التحول الديمقراطي في أوروبا،حينما كانت خاضعة للسلطة بكل تجلياتها لم يكن أن ينفعها أن تنتقد ممارسات لويس السادس عشر، ثم وعت أن ثمة خللاً في المنظومة المعرفية وهنا باب القصيد، فتحولت أوروبا بشكل غير مسبوق إلى نظام إصلاح فكري شمولي، وهنا مثلاً لا يمكن لنا أن نقارن بين دكتاتورية الأنظمة العربية مثلاً وديمقراطية الأنظمة الغربية، لأن ديمقراطية الغرب وحرية المواطن هناك ليست محصلة لمواصفات الأنظمة، بل هي نتيجة طبيعية أفرزتها عقلية المجتمع الأوروبي بعدما تخلص من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار ..وكذا الحال بالنسبة لنا في الوسط العربي، فكل ما نحن عليه هي محصلة طبيعية للعقلية العربية المخلخلة في بنيتها المعرفية والفكرية .. وهنا بالضرورة أتحدث عن “التاريخ العربي الحديث” إذا جاز التعبير …
      أخي الحبيب أشكرك جزيل الشكر على مداخلتك القيمة التي دعتني للبحث بشكل أكبر حول هذا الموضوع، ولعل محمد عابد الجابري وغيره قد قدموا نقداً حقيقياً لما يتعلق بالعقلية العربية، إضافة لإشارات مالك بن نبي في كثير من كتبه حول شروط النهضة عند العرب والمسلمين … وإن شاء الله سأقدم لاحقاً قراءة منفصلة تخص هذا الموضوع

      • Matalkh says:

        التحية كل التحية لأخي الأستاذ طلفاح وبعد
        أوافقك بأن التغيير لا يحدث إلا إذا كان أساسه نهضة فكرية
        فالمثال الذي أعطيته عن النهضة الأوروبية مثال صحيح على أن النهضة والتغيير لا يكون إلا بالنهضة الفكرية ولا غير
        وسنأتي بإذن الله على النهضة الأوروبية وهل هي نهضة صحيحة أم غير ذلك فيما بعد
        أما الآن أخي الأستاذ العزيز أريد جوابا على سؤالي الذي طرحته عليك وهو ( قد يتغير اللفظ إنما الجوهر واحد )
        اي المعاير التي تراها صالحه ليتم بناء العقلية العربية وفقها ؟
        بمعنى على ماذا سنعتمد في صقل هذه العقلية ؟
        وما هي القاعدة الأساسية التي ستبنى عليها بقية القواعد الفكرية ؟
        وبما أننا نتكلم عن أنظمة فأي مبدأ تراه صالح لينبثق عنه النظام ؟
        هذه أسئلتي أخي العزيز
        وأما بخصوص الدكتور الجابري فقد نأتي على ما قال به بالتفصيل بإذن الله
        لك كل الود والمحبة والتقدير
        ولد إبراهيم

      • Matalkh says:

        التحية كل التحية لأخي الأستاذ طلفاح وبعد
        أوافقك بأن التغيير لا يحدث إلا إذا كان أساسه نهضة فكرية
        فالمثال الذي أعطيته عن النهضة الأوروبية مثال صحيح على أن النهضة والتغيير لا يكون إلا بالنهضة الفكرية ولا غير
        وسنأتي بإذن الله على النهضة الأوروبية وهل هي نهضة صحيحة أم غير ذلك فيما بعد
        أما الآن أخي الأستاذ العزيز أريد جوابا على سؤالي الذي طرحته عليك وهو ( قد يتغير اللفظ إنما الجوهر واحد )
        اي المعاير التي تراها صالحه ليتم بناء العقلية العربية وفقها ؟
        بمعنى على ماذا سنعتمد في صقل هذه العقلية ؟
        وما هي القاعدة الأساسية التي ستبنى عليها بقية القواعد الفكرية ؟
        وبما أننا نتكلم عن أنظمة فأي مبدأ تراه صالح لينبثق عنه النظام ؟
        هذه أسئلتي أخي العزيز
        وأما بخصوص الدكتور الجابري فقد نأتي على ما قال به بالتفصيل بإذن الله
        لك كل الود والمحبة والتقدير
        ولد إبراهيم

      • Matalkh says:

        التحية كل التحية لأخي الأستاذ طلفاح وبعد
        أوافقك بأن التغيير لا يحدث إلا إذا كان أساسه نهضة فكرية
        فالمثال الذي أعطيته عن النهضة الأوروبية مثال صحيح على أن النهضة والتغيير لا يكون إلا بالنهضة الفكرية ولا غير
        وسنأتي بإذن الله على النهضة الأوروبية وهل هي نهضة صحيحة أم غير ذلك فيما بعد
        أما الآن أخي الأستاذ العزيز أريد جوابا على سؤالي الذي طرحته عليك وهو ( قد يتغير اللفظ إنما الجوهر واحد )
        اي المعاير التي تراها صالحه ليتم بناء العقلية العربية وفقها ؟
        بمعنى على ماذا سنعتمد في صقل هذه العقلية ؟
        وما هي القاعدة الأساسية التي ستبنى عليها بقية القواعد الفكرية ؟
        وبما أننا نتكلم عن أنظمة فأي مبدأ تراه صالح لينبثق عنه النظام ؟
        هذه أسئلتي أخي العزيز
        وأما بخصوص الدكتور الجابري فقد نأتي على ما قال به بالتفصيل بإذن الله
        لك كل الود والمحبة والتقدير
        ولد إبراهيم

  3. أسامة طلفاح says:

    شكراً للمداخلة
    كنت قد كتبت تعليقاً على ما ورد بمداخلة الأخ ولد ابراهيم والمفروض أن يكون قد نشر لكن يبدو أن خللاً قد حدث أثناء كتابة التعليق، أخي ولد ابراهيم كنت قد أشرت أن الحديث عن قاعدة عقلية بحاجة لقراءة خاصة بهذا الشأن سأعمل على نشرها لاحقاً، لكن يحضرني الآن مقولة للمفكر العربي الراحل مالك بن نبي الذي أشار “إن المجتمع لا يولد ولادة فعلية إلا بالتخلص من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار” وهذا بذاته ما افتقرت إليه العقلية العربية الحديثة إذا جاز التعبير، لذلك يجب أن نتبنى منظومة معرفية تعتمد على العقل مرجعاً ووسيلةً لإعادة بناء مؤسسية الدولة العربية الحديثة بناء على منظومتها المعرفية، وكنت في تعليقي مساء أمس أشرت إلى مثال التحول الديمقراطي في أوروبا عندما تخلص من حكم لويس السادس عشر كمثال، ومثال آخر يرفض المقارنة بين الأنظمة الغربية كأنظمة ديمقراطية والعربية بوصفها “دكتاتورية” لأن ديمقراطية الغرب وحرية المواطن هناك هي محصلة طبيعية لواقع المجتمع الأوروبي بعد ذلك التحول .. وكذلك الأمر بالنسبة للواقع العربي اليوم…
    أشكرك على مداخلتك وقريبا سأقوم بنشر قراءة خاصة تتعلق بالعقلية العربية مستنداً إلى عدة مراجع لكتاب أثاروا من خلال دراساتهم ما يخص العقليية العربية أمثال الجابري وهشام غصيب وغيرهم …

  4. ولد إبراهيم says:

    وسأنتظر بشوق هذه الدراسة أخي العزيز ليتم لنا النقاش بالشكل الصحيح بحيث نبدأ بالأساس

    كل التحية

    ولد إبراهيم

Leave a Reply

Your email address will not be published.