حينما يكون الأردنّ أولاً

الإثنين 21 آذار 2011

بقلم د. ساندي سالم أبو سيف

إذا أمكن تقسيم الخطابات السّياسيّة التي ظهرت على المشهد الأردنيّ في الآونة الأخيرة ولا سيما الدّعوات نحو الإصلاح السّياسيّ إلى فئات؛ فيمكن أن نلحظ أربع فئات أساسيّة: الأولى – الحكومة ، الثانية – المعارضة، الثّالثة ما يمكن تسميتهم بـ “المتعنصرين”، الرّابعة أستطيع أن أطلق عليها “الفئة المقصاة” وأعني بها تلك الفئة الواقعة بين الحكومة والمعارضة والمتعنصرين، لا هي مع هذه ولا هذه ولا مع تلك.

فالحكومة وإنْ أظهرت توجّه نحو الإصلاح إلاً أنّه قد اتّسم بالمراوغة وعدم الجدّية والالتفاف، والمعارضة، والتي يتساوى فيها اليساريون والإسلاميون سواءً بسواء فإنّها قد نزعت نحو خطاب فئويّ مؤدلج و تسابقت لتحصيل مكاسب وقتيّة وتسجيل ترويجات إعلاميّة. والمتعنصرون، سواء أولئك الذين ينشدّون إلى غربيّ النّهر أو إلى شرقيّه، فإنّهم بدورهم يريدون أن يشدّوا البلد بأكمله إلى جانب يغيّب بالضّرورة الآخر، ويـُوقف المكاسب على جانب دون الآخر.

أمّا الفئة المقصاة، والمقصاة بالضّرورة من قِـبَـل الفئات السّابقة كلّها، فهي تلك التي ترى أنّ الوطن فوق الجميع، ومصلحة الوطن العليا هي التي يجب أن تفرض رؤيتها على الجميع، وهي بذلك تريد تحصيل مطالبها العادلة التي لا تنتمي ولا بأي شكل من الأشكال إلى أي مطالب فئويّة أو وقتيّة، تلك التي ترى أنّ الوطن منتهى الغاية، وتبعاً لذلك ترسم توجّهاتها وفق مرجعيّة وطنيّة عليا جامعة. هي التي تنتصر للأردنيّ البسيط سواء ابن العشيرة أو ابن المخيم، سواء ابن عمّان أو ابن وادي موسى، سواء ابن عبدون أو ابن الجوفة، سواء الفلاّح أو البدويّ، سواء شرقيّ أو غربيّ، شماليّ أو جنوبيّ، الأردنيّ البسيط، الأردنيّ – الجميع، الأردنيّ -الكلّ، الأردنيّ – الواحد، وليس ذلك الأردنيّ المتعدّد، المتشرذم، المنقسم، المفتّت، المؤدلج، الفئويّ، العنصريّ.

الأردنيّ الذي تستهدفه وتهدف إليه هذه الفئة هو (الكلّ الواحد الجميع) الذي يضمّ كلّ من هو على تراب الأردنّ دون تمييز أو إقصاء أو تهميش وتبحث في قضاياه الوطنيّة العادلة، دون فئوية أو تكسبيّة أو تعنصريّة، وتضع الأردنّ حقاً أولاً، أولاً بكلّ ما تحمله هذه من سبقٍ وارتفاع وترفّع عن كلّ الوطنيّات الزّائفة، وتنأى به عن وضاعة الانتماء لغير الوطن، هي التي تضع الأردنّ أولاً؛ أي على العشيرة وعلى المخيم، على الحزب وعلى الأيدولوجيا، تضع الأردنّ أولاً وقبل كلّ المكاسب الشخصيّة، والفتوات الإعلاميّة، والولاءات الضّيقة.

حينما يكون الأردنّ أولاً، أولاً حقّاً ، يمكن للجميع وأقصد هنا الجميع؛ أي الأردنّ بمجموعه باعتباره كلاً واحداً متفّقاً على أولويات لا تنازل عنها وهي (الوطن فوق الجميع)، أن يصدح بمشروعه التّحوّلي ، حينما يكون الأردنّ موصوفاً بهذا يمكن لنا الحديث عن مشروعات للإصلاح والتّغيير والتّطوير، ويمكن لنا أن نكون ذوي مطالب عادلة مشروعة حقّة تريد أن تنحّي كلّ شيء إلا (الجميع الكلّ الواحد). ويكون الأردنّ – الوطن – في قلب معادلة الإصلاح السّياسيّ ومحاربة الفساد والمحسوبيّة والواسطة، يكون الأردنّ أولاً، وليس الأردنّ المهمّش، المقصى، المبعد في زوايا الارتهان لولاءات وانتماءات منحازه عنه، وليس الأردنّ الذي يبدو برّاقاً في “الأغاني الوطنيّة” فيما هو منكفىء، متشظٍ، متناثر منقسم بين الفاسدين والمؤدلجين والمتعنصريين الشّرقيين منهم والغربيين، حينما يكون الأردنّ أولاً وحقاً وقبل كلّ شيء، في هذه الرّؤية المخلصة الواحدة الكليّة الشّاملة يمكن للأردنّ أن يكون بالفعل أولاً وليس ضرباً من ضروب التّغنّي والشّعارات الجوفاء ، يمكن للأردنّ أن يتقدّم ويتطوّر بكثير من الثّقة بأبنائه الذين يعملون له وينتمون إليه ، ويرون فيه المطلب الأوّل والغاية المثلى.

الأزمة في الأردنّ أنّ هناك الكثير من التّشظي في الولاءات والتي تنعكس بالضّرورة على أي خطوات جادّة في أي طريق نحو الإصلاح؛ فخطابات الإصلاح وإنْ تناقضت واختلفت إلاّ أنّها تشترك في نقطة واحدة ألا وهي غياب الأردنّ من حيث هو وطن واحد وشموليّ وكليّ، من حيث هو مرجعيّة عليا عن الغاية المفترضة من وراء دعوات المراجعة والإصلاح والتّغيير. في الأردنّ، نحن لا نريد استنساخ التّجارب، أو استنساخ الثّورات ولكننا في الوقت نفسه نريد اغتنام الرّياح إذا هبّت، ولكن حتّى هذه ينقصها الكثير من الوعي حتّى من أصحاب الدّعوة إليها ، ينقصها الكثير من التّدقيق في الأولويات وفي المصالح العليا، ينقصها أن تتواضع على خطاب شموليّ واحد واضح مُـحدَّد المطالب العادلة وينطلق من أسس المواطنة الحقيقيّة، وأن يضع الأردنيّ أياً كان ومهما كانت مرجعياته أو مواقعه في قمة رؤيته وبرنامجه الإصلاحيّ، وهذا ما لم نلحظه في أيٍّ من دعوات التّغيير التي تتكاثر على السّاحة الآن ولا سيما الأصوات الحزبيّة التي تسابقت في رفع أعلامها وتنافست في تأكيد حضورها أكثر ممّا تبارت في صياغة برنامج وطني أردنيّ يستهدف كلّ أردنيّ ، وليس ذاك الأردنيّ المفصّل حسب مقاييس أيدلوجيّاتها ورؤاها.

يبدو الأردنّ في المشهد الحقيقيّ وكأنّه وطن ضائع يتلمّس طريقه بين فئات تدّعي أنّه أولويّتها وهو في حقيقة الأمر آخر ما تستهدفه. في ظلّ هذه الرّؤية التي يمتاز بها الحراك الأردنيّ لا أعتقد أنّ شكل التّغيير الإصلاحيّ سيؤتي أكله الحقّة التي نريدها، وذلك لأنّ مطالب أو دعوات الإصلاح الموسومة بالتّناثر والتّشتت والانقسام في الأولويات والمصالح العليا لن يكتب لها الدّور التّغيريّ المطلوب. نحن أحوج إلى تحرّك مبني على أرضيّة واحدة مشتركة غير قابلة للتّقسيم والتّناثر، عدالة مطالب الإصلاح تحتاج إلى تغييب الذّات والذّات هنا الذّات الحزبيّة أو الذّات الفئويّة أو الذّات الإقصائيّة، مقابل تقديم الآخر الكليّ، مقابل تقديم المصلحة الوطنيّة العليا الجامعة للكلّ . مطالب الإصلاح العادلة تحتاج إلى الكثير من الإيمان بالوطن، الوطن الذي هو افتراضاً ووجوباً للجميع وليس لفئة على حساب الأخرى، وليس لجماعة تغيّب الأخرى.

ومن هنا فإنّ جديّة خطاب الإصلاح في الأردنّ ستظلّ رهناً بتحوّل جادّ هو الآخر نحو الانتماء الخالص للوطن، حيث يكون أولاً وقبل كلّ شيء، و عليه فإنّ الحديث عن الإصلاح والتّغيير سيأتي في سياقه الحقيقيّ أي في سياق “الوطن” وليس في سياق الحكومة أو الحزب أو العشيرة أو المخيم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية