حكايات جسر الملك حسين

الأربعاء 06 نيسان 2011

بقلم هادي

كثر الحديث في الآونه الاخيره عن جسر الملك حسين وعن ضرورة ذهاب الناس – خصوصا من لا يعجبه وضع البلد- اليه. لذلك قررت اليوم اصطحابكم في رحلة الى الجسر. أعتقد انه لايوجد أفضل منى ليكون دليلا في تلك الرحله بحكم خبرتي كمسافر مخضرم من حملة البطاقه الصفراء وممن كتب عليهم في كل عام ان يحجو الى تلك البقعه من وطني.

المسافه الأفقيه المباشره بين بيتنا في عمان وبيتنا في فلسطين لا تتعدى 40 ميلا. تستغرق هذه الرحله عبر الجسر 12 ساعه في المتوسط. لمن لا يعرف فالجسر ينقسم الى 3 مراحل. النقطه الحدوديه الأردنيه (جسر الملك حسين)، ومن ثم النهر، واخيرا النقطه الحدوديه غربي النهر (جسر اللنبي).

تبدأ الرحله بالاستيقاظ في الثانيه فجرا. فالجسر ليس كالمطار بل يعمل على مبدأ من يحضر اولا يخدم اولا. يصل التكسي الذي سيقلك وعائلتك الى منطقة تسمى بالكرامه في الشونه الجنوبيه، حيث جسر الملك حسين، وهي نفس المنطقه التي وقعت فيها معركة الكرامه. عندما ترى يافطة الجسر تتسارع نبضات القلب ويبدأ العد التنازلي. نفس المشهد دائما عند تلك النقطة. والدي يأخذ حبة الضغط وقد بدت علامات التوتر على وجهه. امي لا يفتر لسانها بالصلاه ليمضي اليوم على خير. السائق يدخن بشراهه وكأن هذه أخر مره يدخن فيها. المسجل يبث قراءة القرآن بصوت خافت. رائحة الفجر ممزوجة برائحة حرائق مزارع الغور تزكم الانوف. بعض الحشرات الفضولية من الحجم العائلي ترفرف حول التكسي. بائع قهوه من ابناء المنطقه يدخل رأسه داخل السيارة لعرض بضاعته وأملا في الحصول على نظره من حسناء “يتصبح فيها”.

جميع السيارات تقف في طابور له بدايه وليس له نهايه. وطبعا لايخلو الأمر من شخص بزي رسمي يسمح لبعض الاشخاص بتخطي الدور. بالإضافة الى بعض سائقي باصات الكيا ممن يتاجر بالركاب. هؤلاء السائقين هم من ابناء المنطقه الذين يذهبون كل ليله الى الجسر بسياراتهم الفارغه ويحجزون الادوار الاولى ثم يبيعونها الى المسافرين. تسمى هذه العمليه ببيع الركاب فالعائلة بأكملها تجلس داخل السيارة بانتظار سائق التكسي ليخبرها انه باعها برجالها ونسائها واطفالها وامتعتها الى سائق اخر مقابل 5 دنانير!

يفتح الجانب الاردني من الجسر أبوابه في السادسه والنصف صباحا. يبدأ التدافع وتعلو صيحات سائقي التكسي. ولا مانع من عراك بالايدي بين فتره والاخرى. تصل الى الساحه الداخلية حيث يتركك السائق وعائلتك وينسحب سريعاً لعله يلحق نقله اخرى من العبدلي. في هذه الساحه المطلوب أن تقف انت وعائلتك وامتعتك على الدور. ثم تبدأ رحلة جر الامتعه يدويا للدخول الى القاعه الرئيسه لختم الجواز. اكثر من 60 عاما وشعبي ما زال يجر حقائبه و”بكجه” يدويا. قبل الدخول إلى القاعة يجب ان تضع امتعتك على حزام متحرك ليقوم بنقلها اوتوماتكيا الى موقف الباصات بينما تنهي انت معاملاتك. المشكله اني لا اذكر على مدى عشرين عاما أن هذا الحزام كان يعمل. لذلك فانت مضطر الى رفع الحقائب بنفسك وجرها يدويا الى الساحه. الغريب في الامر ان هناك اكثر من عشرين عتالا لا يكلف احدهم نفسه ان يرفع شيئا الا بإكراميه. العتالين يعتاشون ايضا على معاناة البشر. يشترط عليك ان تدفع دينارين اكراميه عن كل حقيبه يرفعها لك على الحزام الذي يرتفع 60 سم عن سطح الارض بالرغم من ان وصفه الوظيفي هو عتال وبالرغم انه محاط بالشرطه التي يقتصر دورها على نهر المواطنين بضرورة الالتزام بالطابور.

ندخل الى القاعه الرئيسه. القاعه تتسع لحوالي الفي مواطن. وحقيقه هذه القاعه لها حكاية. في هذه القاعه الغير مكيفه تجلس انت وعائلتك على مقعد في انتظار رقمك ليقوم الشرطي بختم جواز السفر. في هذه القاعه يلتقي ابناء الشعب المعذب بجميع فئاته. فالجميع سواسيه. البعض من ابناء العائلات المخمليه ممن جار عليهم الزمن يجلس بعيدا عن الناس والبعض من ابناء المدن الاقل حظا يفترش الارض بانتظار دوره. كما اسلفت، القاعه تحوي في المتوسط الفي شخص جلهم من النساء والاطفال. طبعا الوضع الطبيعي ان تكون القاعه مجهزه لهكذا عدد من البشر. تحتوي القاعه على ثمانية دورات مياه نظام عربي، في العاده ستة منها مغلقه للصيانه. والاثنتين المتبقيتين لا تصلحان حتى للاستخدام الحيواني. لا يوجد كولر مياه شرب في القاعه بحجة ان الناس يمكن ان تسىء استخدامه، يعني ممكن يخطر على بال احد السيدات ان تحمم اطفالها بمياه الكولر. ما علينا. القاعة ايضا مزوده بماكنة بيع عصائر. ثمن “تنكة الكولا” او علبة المياه المعدنيه دينار ونصف. على الطابور يجب ان تقف الأسره بأكملها ليتأكد الشرطي من أن العائله اكملها موجوده. الشد العصبي هنا يصل الى الذروة، فأي خلل في اوراق اي فرد من العائله قد يعرضها الى عدم ختم الجواز. الاوراق تشتمل على الهوية الاردنية، الهوية الفلسطينية، تصريح الاحتلال، جواز السفر الاردني، دفتر خدمة العلم، شهادة الميلاد والبطاقه الصفراء. كل فرد من العائله حتى الاطفال يحمل اوراقه بيده.

بعد ختم الجوازات، تبدأ عملية تعليب الناس في الحافلات وارسالهم الى منطقة نهر الاردن لعبور الجسر الحديدي فوق النهر الجاف. طبعا كالعاده، انت مسؤول عن ايجاد حقائبك المتراميه على الارض في ساحة الحقائب. أرضية هذه الساحه سوداء قذره يملؤها الزيوت والشحوم التي تترك اثرا لا يزول على حقائبك وفي ذاكرتك. قال لي أحدهم ان العتالين يتعمدون توزيع حقائب العائلة الواحده على اماكن مختلفه من الساحه ليجبروهم على دفع الاكراميه لايجادها لهم.

تنطلق الحافله بعد دفع دينارين عن كل راكب. تسير الحافله لمدة ثلاثة دقائق باتجاه نهر الاردن. ثم تقف. هنا يبدأ الانتظار لمدة تتراوح من ثلاث إلى أربع ساعات. الحافلات تقف بالدور ويتم تمرير حافله كل ساعة. يمنع منعا باتا الخروج من الحافلة. الحافله وللامانه مزودة بمكيف هواء و دورة مياه. ولكن في العاده السائق يرفض فتح الحمام بحجة ان المفتاح ضائع ويرفض تشغيل المكيف بحجة انه يستهلك البطاريه. مع التبديل بين اشرطة ورده الجزائريه ونجاة الصغيرة، فهذا هو المهم للأطفال الان، الاستماع لورده الجزائريه. رائحة العرق تملىء المكان واصوات الاطفال تبكي من شدة الحر في تلك المنطقه وأمهات يدعون أن يفرجها الله علينا. تنظر في وجوه الناس لترى حكايات وطن ترويها تلك الوجوه. كل يشكي للاخر همومه وغربته ويترحم على ايام البلاد.

تنتهي المعاناه وتعطى الاشاره بالتحرك باتجاه الطرف الاخر من الجسر. في هذه اللحظه هدوء غريب مرعب يخيم على الحافله بمجرد أن تتحرك العجلات. هدوء حذر يملئه الترقب. الاطفال يتوقفون عن البكاء. قبل انطلاق الحافله يلتقط السائق المايكرفون مخاطبا الناس. الآن نحن مقبلون على الجهه الاخرى وهي خارج السيطره الاردنيه. نتمنى ان تكونو استمتعتكم معنا بالرحلة (التي تخللها 3 دقائق سير و 3 ساعات وقوف). مساعد السائق يذكر الركاب بضرورة إكرام السائق، نفس السائق الذي رفض ان يفتح دورة المياه للاطفال والذي رفض تشغيل المكيف. يسير الباص ويسير معه شعب كامل بأمتعته وأحزانه على وطن ضائع وآماله بفرج قريب.

ساتوقف هنا. هذه فقط هي نصف الحكايه. فبعد عبور النهر هنالك نصف اخر. يجهز على ما تبقى للناس من كرامة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية