المجتمع وثقافة الكبت

الأربعاء 13 نيسان 2011

لوحة باسل عريقات | Basel Uraiqat - Oil on Wood

بقلم بسمة عبدالله

منذ 25 آذار وبعد ما شهدته عمان من أحداث تم التحدث عنها بشكل موسع من قبل معظم الفئات وأنا أحاول الوصول لفهم الأسباب الاجتماعية للعنف الفكري الذي شهدناه في الأسابيع التالية للأحداث من تكشف للأفكار العنصرية والاحتفالات الصاخبة في الشوارع وكثرة السيارات التي تجول العاصمة لتقوم بكسر جميع قوانين السير والآداب الاجتماعية في محاولة للتعبير عن انفعالاتها الإيجابية والسلبية. وقمت لهذا السبب بدراسة سيكولوجية بسيطة أود طرحها هنا في محاولة للوصول إلى استراتيجية للإصلاح الاجتماعي والذي أعتقد أنه ذو أهمية مطلقة.

فنحن نعيش في مجتمع يعتمد أسلوب تسلسل السلطة وفرض الرأي من الأعلى إلى الأسفل في سلم القوى باستخدام الترهيب والتهديد للوصول إلى الانضباط والسيطرة معتقدين أن في ذلك صلاح المجتمع وتفادي الفوضى. ويبدأ ذلك من المنزل الذي يفرض قوانينه على الأبناء باعتبارهم ممتلكات للآباء، إلى المدرسة التي تمارس الإرهاب الفكري لفرض الانضباط، إلى بيئة العمل التي يعمها استغلال المناصب والنفوذ، وإلى ما ذلك خروجاً إلى الشارع الذي أصبح المكان الوحيد للتنفيس عن الكبت الذي يعيش فيه الأفراد. فكلما جائت مناسبة تستدعي نوعاَ من التعبير عن المشاعر مثل مباريات كرة القدم أو نتائج التوجيهي أو الأفراح الوطنية أو الأعراس أو حتى الإحباط الاقتصادي أو السياسي يخرج الناس إلى الشارع لإثبات الوجود أو إطلاق العيارات النارية العشوائية أو التجول في السيارات بسرعة خيالية وبأجساد متدلية من الشبابيك تصرخ بأعلى صوتها. ومع الاعتراف أن التعبير عن الفرحة أو الغضب بتطلب نوعاً من العلانية في الغريزة الإنسانية الاجتماعية إلا أنها في مجتمعنا بدأت تأخذ منحى مؤذياً ومزعجاً وتجلى ذلك في رغبتها بالتعبير عن مواقفها السياسية فاتبعت نفس الأسلوب برفع الصوت واللهجة وإرهاب الشارع. مما أظهر أن الدافع الرئيسي لهذه الممارسات هو الكبت المستمر الذي يتعرض له الأفراد ضمن حياتهم اليومية.

فمن خلال الدراسة توصلت إلى نظرية للعالم النفسي الإنجليزي جون هيرون عن المجتمعات التي لا تمارس التعبير وتعتمد الكبت لمواجهة المشاعر الإنسانية (non-cathartic societies). ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات هو حاجته للتنفيس عما يضايقه وعن الضغوطات التي يقع تحتها في سير حياته اليومية. وهذا التنفيس قد يأخذ عدة طرق منها الفنون أو النشاطات الجسدية أو التعبير الكلامي أو الممارسات الروحانية أو أية طريقة يشعر الإنسان أنها تحقق له التنفيس اللازم. لكن بعض المجتمعات تعاني من مشكلة في الاعتراف في مفهوم التنفيس كجزء أساسي وضروري من الحياة وترى التعبير عن الضغوطات بطريقة عاطفية وعفوية كضعف شخصي ونقطة هشاشة في الوجود. فبالتالي تحاول هذه المجتمعات السيطرة على المشاعر الإنسانية منذ الصغر، فأول ما يتعلمه الطفل هو أن البكاء عيب وأن الضحك بصوت عال يدل على “المياصة” وأن التعبير عن الحاجات الجسدية أمر مبتذل، وأن الخروج مع الأصدقاء والاستمتاع بالوقت هو من الكماليات التي لا يمكن ممارستها إلا عندما ننتهي من كل همومنا، والتحدث عن العلاقات الشخصية أمر يؤدي إلى الفضيحة، والنشاطات الجسدية مثل الرقص والتعبير تؤدي إلى الرذيلة، وإلى ما ذلك الكثير مما جعلني أجد تطابقاً بين وصف المجتمعات المكبوتة وبين مجتمعنا.

من مميزات هذه المجتمعات بحسب النظرية هي تفضيل العقل والمنطق على العاطفة والمشاعر مما يؤدي إلى توجه الحضارة بأكملها نحو العلوم والتكنولوجيا التي يمكن السيطرة عليها بالمنطق والبعد عن الآداب والفنون التي لا تحكمها قواعد العقل بل المشاعر والرغبات الإنسانية، لذى نجد أن معظم الآباء يحاولون توجيه أبنائهم نحو الدراسات العلمية مثل الطب والهندسة والتي تحظى بالنصيب الأكبر من احترام المجتمع مقارنة بالفنون والآداب والفلسفة التي تخصص لها جامعاتنا المقاعد ذات العلامات الأقل في التوجيهي. يؤدي ذلك إلى ثقافة بعيدة عن التواصل مع النفس البشرية وإلى شلل حقيقي في القدرة على التعبير عن الحضارة والفكر على مستوى مجتمعي.

ومن مميزات هذه المجتمعات أيضاً اعتبار النفس البشرية مائلة للخطأ بشكل طبيعي ولا بد من فرض السيطرة لضمان الخير. تأصلت هذه الفكرة منذ الأزل في المعتقدات الدينية التي تحاول تسويق الإنسان كمسيء وأن المشاعرتؤدي بنا إلى الخطيئة، وأيضاً الأنظمة السياسية التي تعزز هذا الشعور لكي تظل في السيطرة وتبقى الحاجة إليها لكبح همجية المجتمع، والثقافة العامة التي يصور النفس البشرية كخطاءة ومستغلة، وبالتالي يتولد لدى الإنسان خوف دائم من نفسه ومن الآخرين في حال اختفاء السلطة وبالتالي نصبح أفراداً مهووسين بالحماية وغير قادرين على التصرف بشكل صحيح عند غياب السلطة. فنجد الطلاب يغشون في لحظة غياب نظرة المعلم، ونجد أن في الأطفال يقومون بعمل كل ما هو ممنوع في غياب الآباء، وبلحظة حصول تغيير في الروتين السياسي يبدأ الشعب بالصراخ في الشارع وإيذاء الأفراد والممتلكات كطريقة للتعبير عن إحباطهم من الظروف.

ومن الصفات أيضا لهذه المجتمعات اعتقادهاً هي أن الإنتاج المفيد لا يمكن أن يتحقق إلا بالمعاناة، أما السعادة والمتعة هي فقط مدعاة للفساد. فلذلك يجب أن تكون المدرسة مكان كريه والعمل نكد والمعاملة الحكومية عذاب، ويجب أن يشعر الفرد بالذنب عندما يستمتع بوقته لأنه في تلك اللحظة يوقف تقدم البشرية. وبذلك يفقد المجتمع إحساسه بالشغف تجاه العمل ويصبح سجين تعذيب الضمير الذي يدفع الأفراد للعنف الكلامي والجسدي كوسيلة دفاع.

كل هذه العوامل تؤدي إلى تكوين أفراد منفصلين عن هويتهم الشخصية مكبوتين ولديهم شعور دائم بأنهم ضحايا العالم الظالم. وتصبح السلطة مالكة للقوى المطلقة للسيطرة على الفوضى الكامنة في النفوس ويتشبث بها المجتمع على أنها المخلص الوحيد. وأيضاُ يتولد مجتمع مشلول ثقافياُ يرى الفنون على أنها كماليات للضعاف عاطفياً والفنون الجسدية مثل الرياضة والرقص والتمثيل والغناء على أنها ممارسات غير أخلاقية.

فأنا اعتقد أن لدينا مشكلة تتساوى في الأهمية مع المشاكل السياسية وهي في داخل أنفسنا. فعلينا التخلص من أشكال التمييز التي نمارسها على أنفسنا والمحيطين بنا. وذلك بالاحتفال بالحياة كرحلة وليس أهداف، وممارستها بقلوب مفتوحة ومدركة أنها مسيرة نمو وتغيير. وعلينا تحرير أفكارنا ومشاعرنا وفتح الباب للتعبير عن الهموم منذ الصغر لكي يتعلم الفرد التعبير عما يشغله بأسلوب حضاري يضمن حقوقه وحقوق غيره، أما ما رأيناه من “بلطجة” وعنف مجتمعي وفكري فهو مجرد مؤشر على الكبت الموجود داخل المجتمع وعلى الجهل التعبيري الذي نعيش فيه. فالرغبات الإنسانية والمشاعر هي ما يدفع الإنسان نحو البحث عما هو أفضل في الحياة وهي ما ينمي الفكر، والكبت النفسي والمجتمعي هو ما يولد أفراداً عنيفين ومتكلين وغير قادرين على الأخذ بزمام المسؤولية. القيام بتحرير المجتمع من ارهابه الشخصي أصعب كثيراً من تحريره من الطاغية الخارجي، لذلك فرحلتنا الإصلاحية طويلة ووعرة وتتطلب إصلاح أجيال وليس أفراداً. فلنبدأ الآن بتعزيز التفكير والحرية والتعبير بسلمية وخاصة في الأطفال والمدارس، ولنؤمن بقوانا الداخلية ولنعمل على خلق مجتمع حر ومنتج ولنتوقف عن إرهاب وكبت أنفسنا ومن حولنا لنكون مجتمع قوي وقادر على التقدم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية