تحرير فلسطين مدنيا*: عائد إلى يافا

الإثنين 23 أيار 2011

بقلم بشار حميض/ باحث في مجال المقاومة المدنية والطاقة

أستوقفني ما قاله “أول عائد إلى يافا” الذي انتشر حديثه في المواقع الاجتماعية. فحسن حجازي فلسطيني يبلغ من العمر 28 عاما ويعمل موظفا في وزارة التربية والتعليم السورية، لكنه في 15 أيار 2011 تمكن مما لم تتمكن منه الجيوش العربية مجتمعة ومنفردة، ولا الفصائل الفلسطينية بعملياتها العسكرية والتفاوضية، معلنا نجاحه ومجموعة من رفاقه في اجتياز الحدود في الجولان المحتل ليصل إلى مسقط رأس أبيه في يافا التي هجر منه عام 1948، فاتحا باب الأمل للملايين من فلسطينيي الشتات للعودة إلى مدنهم وقراهم. مع ذلك، وفي نهاية حديثه قال : “هذا انتصار رمزي.. الانتصار الحقيقي يأتي عبر الجيوش”.

عندما تفقد الحرب مجدها لنتصور معا الآن لو أن الجيوش العربية بدأت بالفعل بالتحرك نحو الكيان الصهوني.. سيبدو الكيان في موقع الدفاع عن النفس وسيستخدم أعتى أسلحته وربما لن يتوانى عن استخدام قنابله النووية لضرب العواصم
العربية، وقد شاهدنا بروفة لذلك في حرب لبنان 2006، رغم أن القوة التي وجهها حزب الله كانت أقل مما يمكن وصفه بقوة جيوش، ورأينا ذلك في غزة أيضا، وفي الحالتين لم يؤد ذلك إلا إلى اتفاقيات لوقف العمليات العسكرية وعودة إلى المربع الأول، أو حتى ما قبل الأول. ولو تخيلنا أن إيران أو الباكستان ستتدخل لصالح العرب في هذا الصراع، هل يمكنها أن تطلق أسلحتها النووية أو حتى تهدد بإطلاقها مع وجود الملايين من الفلسطينيين المنتشرين على أرض فلسطين؟ في المقابل لن يكون هناك ما يردع إسرائيل من إلقاء الصواريخ على كل العواصم العربية والإسلامية.. هذا هو المنطق العسكري وهذه هي حدوده.

فالحرب “فقدت مجدها الباهر” كما قالت حنه أرندت التي توفيت عام 1975. والمفارقة هي أن اختراع القنبلة النووية نفسها أوصل العسكرة إلى درجة لم يعد من الممكن معها القول بأن ثمة غاية سياسية تناسب قوتها التدميرية أو تبرر استخدامها في الصراعات المسلحة. فالصراع العسكري وصل عن طريق القنبلة النووية إلى مدى يمكن أن يتسبب في قتل جميع على من الأرض في المحصلة الأخيرة. وقد تعززت هذه الرؤية بشكل واضح عام 1991، عندما انهار الاتحاد السوفيتي رغم امتلاكه ترسانة عسكرية متقدمة على رأسها قنابل نووية تكفي لتدمير العالم كله. (1) ولم يستطع الحزب الشيوعي الحاكم بكل جبروته وعلاقاته الدولية أن يقف أمام الشعوب المطالبة بالحرية والغرب الذي دعم هذه المطالب وأحسن استغلالها لمصلحته.

هل حان الوقت؟
إن استخدام الوسائل المدنية للتغيير أضحى أحد أهم الوسائل السياسية التي حققت نتائج تاريخية مذهلة. فسقوط نظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة عام 1964 لا يمكن تصوره دون المقاومة المدنية التي انتهجها مارتن لوثر كينغ ، كذلك فإن سقوط الاتحاد السوفيتي ووحدة ألمانيا الشرقية والغربية جاءت بعدما قامت الحركات السياسية المعارضة في ألمانيا الشرقية بمقاومة مدنية متواصلة لإسقاط النظام هناك كذلك الأمر في تونس ومصر. بكلمات أخرى فإن العالم كما نراه اليوم لا يمكن تصوره دون المقاومة المدنية. فنحن أمام مبدأ غير مرتبط بجغرافيا أو ثقافة معينة وأثبت أنه ناجع في تحقيق التغيير السياسي وإسقاط الأنظمة الظالمة القائمة على الفصل عنصري أو الدول ذات الطبيعة البوليسية.. ولكن هل حان الوقت لانتهاج هذه المقاومة ضد الكيان الصهيوني؟

في حوار أجريته مع رائد المقاومة المدنية في فلسطين، مبارك عوض (2)، في أغسطس/ آب 2009 قال “إذا حللنا الوضع الفلسطيني بشكل جيد فإننا سنرى أن الوقت الحالي هو الوقت الأفضل لبدء المقاومة اللاعنفية”. واليوم بعد اندلاع الثورات المدنية العربية وتحرك الشارع الفلسطيني ضد الانقسام وانطلاق المد الثوري من الشتات والداخل الفلسطيني تبين أن تقييم مبارك عوض صحيح تماما، بل أن الوضع الآن أصبح أكثر ملائمة مما كان عليه في 2009.

الصهيونية في تراجع؟
فزيادة على الوضع الفلسطيني الداخلي المواتي للمقاومة المدنية هناك الوضع العالمي وما يمكن ملاحظته من تراجع التأييد للفكر الصهيوني وتصدع في صورة إسرائيل عالميا. ففي مقابلة للكاتب الأمريكي توماس فريدمان مع القناة الثانية الإسرائيلية استخدم عبارات قلما تستخدم من كتاب إمريكيين مؤيدين للصهيونية مثله، حيث أشار إلى موقف الأمريكيين الذين “ملوا من إسرائيل” ووصفها بـ “الطفل المدلل” لأمريكا كما حزب الله الطفل المدلل لإيران، على حد قوله. . حتى على يهود أوروبا والولايات المتحدة أنفسهم بدأوا ينؤون عن المؤسسات الصهيونية التي طالما كانت تحتكر تمثيلهم، وبدأت مؤسسات يهودية بديلة بالظهور تدعم الحقوق الفلسطينية وتقدم رؤية بديلة عن الصهيونية السياسية، حتى أن الأمر وصل في أوروبا إلى قيام مؤسسات يهودية غير صهيونية بتنظيم سفن لكسر الحصار عن غزة. وقد أشار للتغير في المؤسسات اليهودية في الغرب تقريران نشرا في مجلة آفاق الستقبل أحدهما أعده البرفسور رشيد الخالدي والآخر ناشط حقوق إنسان قريب من الحراك اليهودي الجديد في أوروبا. في المقابل هناك تعاطف عالمي متزايد مع الثورات العربية ومطالبها ووسائلها المدنية، ولعل أبلغ دليل على ذلك قيام الناشطين الإسبان باستلهام أساليب الثورة المصرية ورفعهم للعلم المصري في اعتصاماتهم الأخيرة.

كثيرون لا يزالون غير متأكدين من جدوى المقاومة المدنية ضد الكيان الصهيوني في فلسطين. فكونه نظام احتلالي عسكري يجعل الكثيرين يظنون أنه لا يمكن مقاومته وإسقاطه إلا بالوسائل العسكرية. لكن هذه المسلمة تحتاج لإعادة نظر. فنحن في فلسطين أمام نظام مختلط، ما بين الاحتلال العسكري ونظام الفصل العنصري ذا الوجه الديمقراطي. لكن في كل الأحوال فإن تنوع وسائل المقاومة المدنية يجعلها فعالة لجميع وجوه هذا الكيان. فالمقاومة المدنية كانت صالحة لمقاومة نظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، كذلك كانت ناجعة في طرد الاحتلال العسكري في الهند ومصر، أما فعاليتها في إسقاط الأنظمة القمعية ذات الوجه الديمقراطي، فهي بلا منازع، وهنا تكمن أهمية التحركات الشبابية الجارية في أوساط فلسطينيي الداخل.

———————-

* هذه سلسلة مقالات منبثقة عن بحث حول استراتيجية للمقاومة المدنية لتحرير الإنسان على كامل أرض فلسطين. ستعالج المقالات بالترتيب المواضيع التالية: ماهية المقاومة المدنية وفلسفتها، العسكرة والمقاومة المدنية في التاريخ الفلسطيني، هل حان وقت المقاومة المدنية؟ فعالية المقاومة المدنية، أسس المقاومة المدنية في فلسطين، تمكين المقاومة بالثورة الخضراء والمدن والقرى المستقلة ذاتيا من حيث الطاقة والمياه والغذاء.

رابط للمقال الأول

رابط للمقال الثاني

رابط للمقال الثالث

رابط للمقال الرابع

 

هوامش:
• في العنف، حنة أرندت، طبعة 1992، ص 5
• ولد مبارك عوض عام 1943 في القدس وتوفي والده عام 1948 وهو طفل صغير وذلك خلال مواجهات مسلحة بين الفلسطينيين والصهاينة واضطر أهله لترك بيتهم وأصبحوا لاجئين في المدينة القديمة في القدس. في عام 1967 رفض عوض الحصول على الجنسية الإسرائيلية وأبقى على جنسيته الأردنية. ثم هاجر إلى الولايات المتحدة ليكمل تعليمه ويحصل هناك على الجنسية الأمريكية ويعود إلى فلسطين عام 1985 حيث أسس هناك المركز الفلسطيني للدراسات اللاعنفية الذي ساهم في تثقيف المجتمع بوسائل مقاومة غير عنيفة. نتيجة لنشاطاته هذه قامت القوات الإسرائيلية بإلغاء إقامته ونفته في النهاية إلى خارج البلاد عام 1988.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية