على هوامش الطنطورية ومناقشة انكتاب

الخميس 15 أيلول 2011

بقلم ناصر أبو نصار

في بعضِ الاحيان تضخمُ الوقائع اليومية والذاكرة (الفردية و الجمعية) الأثر الروائي لتضيع الهوة بين الواقع والمتخيل. ماذا نفعل بكل تلك المصائر المحتشدة في الرواية إن كانت تقفز خارجة من دفتي كتاب لتعبث بمصائرنا الشخصية؟ لتقصف في أبداننا قنابلها وتقول .. “كنتَ هناك!”؟ للصدفة لا غير كنت أجوب محاكم جرش وعجلون في صبيحة يوم الثلاثاء 13-9-2011 وهو اليوم الذي يحمل مع مسائه اجتماع مجموعة فتية اطلقت على نفسها “انكتاب” يزيد عدد قرائها على الثلاثين قارئ، لنقاش رواية “الطنطورية” للروائية رضوى عاشور .

مع تعرجاتِ الطريق بين جبال عجلون وجرش تلوح الأحراش التي احتضنت في جنباتها و قممها أكثر من نزهات “الهش و النش” وباصات رحلات المدارس والعشاق المتخفيين والسياح والجوالين و شميمة التنر، تلك الاحراش المرتاحة بسكونها المهيب وصمتها الباذخ احتضنت قبلَ 40 عاماً ثورة شعبٍ باكملهِ! من كان يصدق أن العمليات كانت تنطلق من هذه التلال المهيبة لتحرير فلسطين بأكملها؟ وتماماً كما احتضنت هذه الجبال ثورة الفلسطينيين، أبى زملاء الدراسة الا أن يحتضنوني و يؤازروني في زيارتي الأولى لمحكمة مدينتهم (مراد وناجي ومصطفى فريحات وزكريا غرايبة) أولئك الجرشيون والعجلونيون الذي نال الفقر من مدنهم وبيوتهم لم ينل من أرواحهم، اولئك العماليق في مواقفهم، في ذاكرة آبائهم وأجدادهم آلاف من القصص عن وقوفهم إلى جانب الفدائيين والمقاومة والثورة الفلسطينية. وجدتني وأمام صمتِ الجبال أنسل بذاكرتي لرواية أخرى غير الطنطورية، أنسل لرواية “أسير عاشق” لجان جينية وأتساءل كما تسائل جان “هل كانت الثورة الفلسطينية مكتوبة في العدم؟ زخرفاً على عدم؟؟” ! من هنا من رواية جان من هذا السطر بالتحديد أعدت لملمة خيوط “الطنطورية” .

ما الذي أرادته رضوى من الطنطورية؟

لكل رواية شيفرة كودية لا يتاحُ لنا الكشفُ عن جمالها الحقيقي إلا متى تمكنّا من حل مفاتيحها السرية.” من هم شخوص الرواية؟ هل هم مجرد آدميين مثلنا تبادلوا أدوار الحياة والموت، العذاب والفرح، الهزائم والانتصارات؟ من هيَ رقية وهل كانت تروي سيرتها الشخصية؟ للإجابة أجدني مضطراً للرجوع إلى غسان كنفاني و روايتهِ “عائد الى حيفا”، هل كانت تروي قصة التشريد القصري للحيفاويين؟ هل كانت العودة التي رمى إليها غسان هي عودة سعيد وصفية بعد عشرين عاماً لزيارة منزلهم في حيفا للبحث عن وليدهم خلدون بعد استكمالِ احتلال فلسطين عام 1967؟ من هوَ خالد؟ هل كان ذاكَ الفتى الذي قرر الالتحاق بالمقاومة فقط؟ بالتأكيد لم تكن العودة الى حيفا هي تلك الزيارة المشؤومة للمنزل المسلوب وخلدون الذي كبر وصارَ جندياً في جيش الإحتلال! إنهُ خالد الذي حملَ البندقية! تلك العودة التي شقت طريقها في وعي غسان الروائي على أثر انطلاق الثورة الفلسطينية واشتداد زخمها انطلاقاً من النتائج الكارثية لحرب الايام الستة (نكسة 67)، ولو دققنا في الزمان، اي تاريخ كتابة الرواية، لوجدنا انها كتبت في عام 1969 أي في ذلك الوقت الذي كانت فيهِ المقاومة الفلسطينية تضرب في كلِ مكان، ناطقة بخيار الشعبِ الفلسطيني “المقاومة طريق التحرير والعودة”، وبذا يكون خالد ليس إلا خيار شعب بأكمله، خيار شبابهِ الذين ولدو في الشتاتِ، ولو استذكرنا مناجاة سعيد لنفسة حين كان يتسائل عن معنى فلسطين بالنسبة لخالد، خالد الذي لم يعرف حيفا، الذي لم يراها يوما، لوجدنا ما يؤكد هذا الاستخلاص. وبذلك يحوز خالد اسمهُ تخليداً للمعادلة المقاومة- التحرير – العودة! ودونَ أن أسهب و أستدلَ بنماذج أخرى أعودُ إلى الطنطورية .

تقفزُ رضوى بين فصول العذاب الفلسطيني .. وصولاً الى الهاتفِ بين رقية وحسن على اعتاب المصافحاتِ “التاريخية” في أوسلو عندما أجابها حسن “مطولة.. مطولة”، ناسفةً بتوكيدِ الجملة أماني المتحمسين للعملية السلمية. ولا عجب أن تذكر قانا مباشرة بعد اغلاقِ سماعة الهاتف، بما يتيحه الزمن الروائي من حيلة. وانا معكِ يا رضوى “مطولة.. مطولة”!

باختصار من البلادِ الى اللجوء الطويل، من الطنطورية الى الفرديس الى دمشق فصيدا فبيروت فأبوظبي، ثم الاسكندرية ثم إلى صيدا مجددا… تنتهي الرحلة على الأسلاك الشائكة امام ولادتين، هذه الرحلة هي التي تحكم مسار الرواية. تريد رضوى أن تقول سطراً واحد لا غير رغم تتابع النكبات و الانكسارات من اللجوء إلى الثورة من الثورة إلى الاستسلام من الاستسلام إلى قطعِ الأسلاك الشائكة إلى………..؟؟؟؟ من المقاومين الذين خلعوا فلداتهم العسكرية وراحوا يجوبون ردهات المنظمات الدولية، من الباحثين الجماعيين، من المؤسسية إلى تبعثر الجهد، من حسن مركز الدراسات الفلسطينية إلى حسن الملقى وحيداً في كندا والذي وإن كانَ في غمرة انهماكهِ باحثاً فرداً، إلى صادق و من يمثله من طبقة البرجوازية الفلسطينية المغتربة … الخ الخ.

الولادة الأولى

لم يصمد في التاريخ الفلسطيني سوى سلسلة واحدة، تلك السلسلة المشدودة في رقبة رقية، تلك السلسلة الغير قابلة للكسر، لا اعني هنا بالضبط ذلك المفتاح الذي لم تخلعهُ رقية من رقبتها يوما بل ذلك الإرث، إرث الأجيال التي وقبل أن تعي تولد محملة بإرثها الثقيل الثقيل إرث قضية بحجمِ القضية الفلسطينية! ذلك الإرث الذي غطى جسد رقية الصغيرة التي تسلمت عهدتها لحظة الانسراب الجميل عبر الأسلاك الشائكة وهي لا تدري ما الذي عليها ان تفعلهُ لتدير هذا المفتاح القديم فاتحةً أقفالَ بيتِ رقية الطنطورية وهي تدري، “رقية الجدة”، أن إدارتهُ في القفلِ تعني ما تعني.. حتى يدار في الطنطورية عليهِ أن يدار في عين غزال وقيسارية و و و … هذا المفتاح العهدة، هذا الإرث، هذه السلسة، تلك السلسلة التي لم و لن تكسر وحدها القادرة على تفكيك ألغام المرحلة و النفاذ الى الطنطورية.

الولادة الثانية

أعادت رضوى بعث ناجي .. هل ماتَ ناجي اصلاً؟ ناجي لم يقتل ها هوَ هناك يجلس الى جوارها في الباص ويرسمها في الحافلة ليخلدَ تلك اللحظة التي أسهبنا في وصفها “لحظة تسليم المفتاح” الإرث الرسالة… لماذا ناجي ولماذا ناجي بالذات يرسمها؟ هل لأن ناجي العلي حازَ الخلود؟ هل لأنهُ وحدهُ القادر على تخليد اللحظة .. المفتاح – الارث – الرسالة المسيرة؟

بعضٌ من ما ورد بخاطري على هوامش الطنطورية ومناقشات انكتاب.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية