في بلدي… ميليشيا

الأحد 16 تشرين الأول 2011

بقلم ضياء اشتية

(التالينا)، هي سفينة محملة بالأسلحة والذخائر كانت قادمة من أوروبا لدعم المنظمات الصهيونية في حربها ضد الفلسطينيين والعرب، وبالتحديد لمنظمة (ايتسيل) بقيادة ‪”‬مناحيم بيغن‪”‬، الذي تمرّد على أوامر ‪”‬بن غوريون‪”‬ القاضية بحل جميع المنظمات العسكرية الصهيونية ودمج عناصرها بالجيش الإسرائيلي حديث النشأة بُعيد إعلان الدولة في منتصف أيار من عام النكبة، فرفض ‪”‬بيغن‪”‬ تسليم الشحنة للجيش، واقترح على “بن غوريون” تقاسمها، فما كان من الأخير إلا أن أصدر أوامره بقصف السفينة بعـُرْض البحر وإغراقها بمن عليها من عددٍ وعتاد، والدخول بمواجهة مسلحة مع متمردي (ايتسيل) لإخضاع عناصرها على تسليم سلاحهم وإجبارهم على الإنخراط بالجيش النظاميّ. هذه الحادثة وقعت في تموز 1948، أي في وقتٍ كانت المناوشات لا تزال مندلعة على جبهات القتال، وكان الصهاينة في أوج تفريغهم للأرض من أهلها بالمجازر والمعارك، ومع ذلك فقد أغرقها كي يحصر حمل السلاح بيد الجهة الرسمية التابعة للسلطة المركزية، لأنه يعلم جيداً خطر السلاح المُـنفلت على دولته العتيدة، وما يعنيه وجود عناصر متمرّدة في مرحلة ما بعد الدولة.

هل من درس نتعلمه من أعدائنا بعد كل هذه السنين؟؟

في بلدي، غاضبون ينزلون إلى الشارع، يستقلون سيارات لا تحمل لوحات ترخيص، مدجـّجين بأسلحة رشاشة وبنادق أوتوماتيكية، يعتدون على مركبات المواطنين بالتكسير والتخريب، احتجاجاً على عدم شمول منطقتهم ببلدية !!! أعمال شغب تتسع رقعتها لتغطي الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وتصل إلى الضواحي الجنوبية للعاصمة عمان، وسط غياب شبه كامل للأجهزة الأمنية وقوات حفظ النظام، ودون أيّ تدخل رسميّ لحماية ممتلكات ومصالح الناس الذين لا شأن لهم بالقصة من أصلها، ودون اعتقال من يُـعربدون ببنادقهم على الملأ بلا خجلٍ إنسانيّ أو وازع أخلاقيّ أو مسؤولية وطنية.

أهذا هو الربيع الأردني الذي كنا ننشده؟ وهل هذا ما تمخضت عنه أشهرٌ من حراك سياسيّ يدعو لإصلاحٍ شاملٍ من فصلٍ للسلطات وضمانٍ لحرية التعبير والرأي والسعي لدولة القانون والمؤسسات؟ هل تقدمنا خطوة باتجاه ذلك الحلم أم تراجعنا خطوات نحو حقبة ما قبل الدولة؟ أهذه هي وعود الحكومة الإصلاحية التي جاءت من أجل تحقيقها؟ أعتقد أن النتيجة عكسية، وأننا وصلنا لإصلاح مناقضٍ ومن نوع آخر، إصلاح تختصره بنادق المِـراس الصعب، وسلاحُ التخلف والعصبيات، ورصاصُ التحرّش والعبث بعـُـذرية الوطن، واستقواء الأفراد بمسدساتهم لابتزاز المواقف وإيصال الرسائل. يكفي أن يتحول غضبُ فئةٍ ما بسرعة إلى تمرّد على القانون وعصيانٍ مسلح يتبختر في شوارعنا، وأيّـة مُـفردات غير التمرّد والعصيان تصْلح لتوصيف السلاح المُـشهر للنيْـل من هيبة الدولة وانتهاك السلم الأهليّ والمساس بسمعة البلد؟! ما جرى هو جريمة نكراء بحق شرف الوطن، وتشويه لا يُـغتفر لصورته المدنية الحضارية، وسكوتُ صناع القرار عليه وعدم تحريكهم ساكناً تجاهه، والاكتفاء بحلول شكليّـة لأسباب هذه المظاهر هو ضربة أخرى لثقة الناس بأدائهم، والتشكيك بقدرتهم أو رغبتهم في ضبط الأمور.

من حق كل أردنيّ أن يعبّر عن رأيه بحريّـة، وأن يحتجّ ويعترض على أيّ قرار حكوميّ يراه مُـجحفاً وغيرَ عادل، من خلال الأساليب والوسائل السلمية والحضارية، فلفت انتباهي أن إحدى العشائر الساكنة في محافظة الكرك الجنوبية تنوي جمع دفاتر العائلة العائدة لكافة أبنائها وتسليمها إلى رئيس الوزراء احتجاجاً على ضمهم إداريّاً لبلدية بعيدة عنهم عِـوَضاً عن بلديات أقرب، والقصد من ذلك أنهم لن يشاركوا في الانتخابات المُزمع إجراؤها، طريقة حضاريّة في التعبير وأسباب منطقية وموضوعية تستحق المراجعة، وفرق شاسع بينهم وبين من يصرّ على ثقافة الأتاوة والزعرنة والانحدار لأسلوب الرعاع وقطاع الطرق ورفع السلاح بوجه الدولة وأخذ البلد رهينة لمزاجه ومطالبه، برأيي هي كبيرة من الكبائر، والتباهي بذلك واستعراض القوة في الطرقات هو سلوك شائن خارج عن الأخلاق والعرف السياسي السائد في جبهتنا الداخلية، ويؤدي فيما يؤدي إلى سنة يستحبّ تكرارها مَـثنى وثـُـلاث ورُباع كلما دعتهم الحاجة لذلك.

إن الفراغ الذي تركته الحكومة ومؤسستها الأمنية لصالح السلاح العشائري في بوادي وأرياف الوطن مؤخراً يعدّ سابقة خطيرة، وعدم اتخاذ خطوات صارمة بحق المخالفين سيشجع آخرين للاقتداء بهم وبنهج الفلتان الأمني وفوضى السلاح لتحقيق مطالبهم سواء كانت عادلة أم لا، دون قانون يلجمهم وعقوبة تردعهم، وهو حصادُ سنوات عجاف وعقود من التصحـّـر الفكريّ والثقافيّ مارسته الحكومات من خلال سياسة ما اصطلح على تسميته بـ “النظام الريعيّ” متمثلاً بالولاء مقابل علاج للشفاء، والبيعة مقابل الرفعة، والتصفيق والتحية لاستحداث بلدية، سياسة أنشأت قطاعات “تحرد” عند أول منعطف دون انضباط للقانون، فالقانون برأي هؤلاء يطبقه الضعفاء الذين لا يملكون بنادق كلاشينكوف، والذين يدفعون مخالفات السير وفواتير الكهرباء، والذين يلجؤون للقضاء للفصل فيما بينهم من خلافات!! منطق أخرق متخلف يعيدنا لعصور الظلام وشريعة الغاب، ويبعدنا أكثر وأكثر عن الدولة المدنية الحديثة العصرية التي يسودها العدل والقانون والمحاسبة والشفافية وأحادية الإنتماء لأردن ديمقراطي تعددي لا يبدو أن الحكومة جادة نحو تحقيقه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية