من الدولة الريعية إلى الدولة النيوليبرالية التسلطية – ٢

الخميس 15 كانون الأول 2011

في مدونتي السابقة ركزت على إيرادات الدولة التي تعتبر العامل الأهم في إقرار الصفة الريعية للدولة عند أصحاب هذه المدرسة.

فالأثر الضريبي (Taxation effect) بالنسبة لهؤلاء هو الأمر الأساس في تقرير ريعية الدولة من جهة، وقدرتها على الاستمرار باكتساب الشعبية طالما ان الدولة لا تحصل ضرائب، وطالما ان مبدأ الديمقراطية والمحاسبة الأول يقضي بأن :”لا تمثيل بدون ضرائب”.

لكن ما يحصل في الأردن هو العكس تماما فالضرائب هي التي تمول الخزينة، وهي التي تمول الإنفاق.

وصار معروفا أن المواطن الأردني يدفع ما مجموعه 65 ضريبة مباشرة وغير مباشرة.

وقد تم تصميم موازنة العام 2012 على زيادة في الضرائب خاصة ما يتعلق منها بإلغاء إعفاء ضريبة المبيعات عن بعض السلع، وكذلك رفع اسعار المياه والمحروقات والكهرباء..الخ.

ولقد بات المواطن الأردني يدرك انه الممول، وانه لا يحصل على خدمات نوعية مقابل هذا التمويل أو لا يحصل على خدمات متوازنة بين جميع الطبقات والمناطق، وربما هذا ما يفسر حالة “الانتفاض” التي يعيشها المجتمع الأردني منذ عام تقريبا.

وعنوان هذا الحراك المجمع عليه هو محاربة الفساد، اي تحقيق العدالة في توزيع الموارد وكما يقول الكاتب احمد أبو خليل بان” العدالة هي سر المجتمع الأردني، بل هي المحور الأهم في شخصية الشعب. طبقوا العدالة واطلبوا ما تشاؤون من صبر وتضحيات“.

وعليه فقد قلبت حالة الانتفاض الشعبي شعار “لا تمثيل بدون ضرائب” إلى “لا ضرائب بدون تمثيل“.

و”الضريبة هي جوهر العقد الاجتماعي وقلبه، واجب المواطن تسديدها وواجب الدولة حسن توزيع وطأتها وبالتالي حسن إعادة توزيع وارداتها. والضريبة بالتالي ركن أساسي وملموس من ذلك العقد الذي آمل أن نبدأ بإعادة بنائه“، غسان سلامة.

هذا الجوهر، المطالبة بالعدالة، الذي تعكسه حالة “الانتفاض” العام، أو المعصية العامة، ما يتناقض تماما مع ما تذهب إليه مدرسة الدولة الريعية.

قبل ان انتقل الى الإنفاق هناك نقطة بقيت في موضوع الإيرادات.

يؤكد البعض أن هناك إيرادات “غير منظورة”، تدخل في باب المسكوت عنه، ولا تدخل في حساب الموازنة العامة، ويصب اغلبها في الديوان الملكي والمؤسسات الأمنية والعسكرية، ويجري توزيعها على شكل هبات ومكرمات وأعطيات وان هذه الايرادات هي المسؤولة اساسا عن خلق “العقلية الريعية” من خلال كسب الولاء.

من ضمن هذه الإيرادات: المساعدات الخاصة التي تقدم للملك من دول عربية وأجنبية، وواردات الصادرات والخدمات الأمنية والعسكرية.

كما يشير البعض إلى أن الدولة تستفيد من فرق أسعار بيع النفط، ويؤكد بعض الاقتصاديين بان الدولة التي تحصل على نفط بأسعار تفضيلية تقوم ببيعه للمواطن بالأسعار العالمية محققة ربحا غير معروف على وجه الدقة وهو ما يناقض حديث الحكومات الدائم عن دعم النفط وتستخدم هذا الدخل في تمتين العلاقات الريعية.

أثر الإنفاق

يعتقد أصحاب مدرسة “الريع” بأن المداخيل التي تتأتى للدولة تتيح لها الإفراط في الإنفاق، خاصة بشقه الجاري، أو في مشاريع استعراضية من اجل كسب رضا الشعب.

وفي الأردن يشكل الإنفاق الجاري حوالي 75% من حجم الموازنة العامة. ويظهر مشروع الموازنة 2012 توسعا كبيرا للنفقات يصل إلى 9% بالمقارنة مع موازنة العام 2011.

على الرغم أن الإنفاق لا يعتبر بحد ذاته دليلا على ريعية الدولة، فهناك دول مثل السويد يشكل فيها الإنفاق نسبة عالية من الموازنة، الا ان البعض يعتبر أن الإنفاق الجاري في الاردن مبالغ فيه، كما هو حال حجم القطاع العام، وهدفه استرضاء الرأي العام على حساب الوضع الاقتصادي.

لكن ينسى أصحاب هذا الرأي أن القسم الأكبر من الإنفاق الجاري هذا يشكل رواتب وأجور لموظفين يبيعون قوة عملهم للدولة، واكثريتهم من أصحاب الأجور والرواتب المتدنية وعمال المياومة، أي ليس منة او منحة من الدولة، وثانيا أن هذا الإنفاق تشوبه عدم عدالة في التوزيع، وقد حاولت الحكومة السابقة وضع خطة لهيكلة الرواتب لتحقيق المزيد من العدالة، وثالثا فالمواطن نفسه هو من يمول هذا الانفاق.

لكن هناك من يذهب الى القول ان الإنفاق خارج الموازنة، المتأتي من الايرادات التي ترد من خارج الموازنة، كما اشرت سابقا هو المسؤول عن الفساد وعن خلق حالة الولاء والإذعان.

على ما في هذا القول من وجاهة، لكنه لا يكفي لوصف “الدولة الريعية” فهو ليس السمة الغالبة للاقتصاد، فالإنفاق من الموازنة على القطاع العام اكبر بكثير من الإنفاق خارجها على شكل منح وأعطيات ومكرمات.

فمثلا: عندما يشاع بان الإعفاءات الطبية الصادرة عن الديوان تصل إلى نحو 100 مليون دينار سنويا، وهو رقم مبالغ فيه على كل حال، فإن الإنفاق الحكومي على الصحة من خلال الموازنة يصل إلى أكثر من مليار و300 مليون دينار، والحال نفسه مع التعليم.

على إي حال، هناك عامل آخر مهم تتجاهله مدرسة الدولة الريعية الا وهو العامل “الذاتي” اي نظرة الناس انفسهم الى الأعطيات والمكارم والمنح والرواتب والأجور، فلقد صارت تعتبر من الحقوق المكتسبة لهم.

وحتى لا يسقط اتباع مدرسة الريع في “الاقتصادوية” على غرار سقطة الماركسيين الذين اعتبروا ان “الاقتصاد هو المحدد في نهاية المطاف”. لجأ أصحاب هذه المدرسة الى مفهوم العقلية الريعية، لكنهم سقطوا في “الثقافوية” اذ تجاهلوا ان تحولا جذريا طرأ في نظرة الناس لهذا الانفاق اذ صاروا يعتبرونه حقا مكتسبا لهم، طالما هم الممول الأساس لخزينة الدولة ومؤسساتها، وطالما هم يتحملون عبء التوزيع المتفاوت وعبء الجغرافيا، والا كيف نفسر حالة الانتفاض الشديدة حتى في اوساط من كانوا يتعبرون لوقت قريب “من عظام رقبة النظام” وحماته.

الدولة النيوليبرالية التسلطية

نظريتي تقول، ان الدولة الريعية انتهت، وانتهت تقريبا العلاقات الريعية بشكلها القديم، واختفت حتى كعقلية بدليل الانتفاضات والثورات والحراكات في العالم العربي.

لقد أفضت الدولة الريعية نفسها الى شكل أخر للدولة إلى الدولة “النيوليبرالية المتسلطة”.

هذا الشكل الجديد الذي قام بنائه على ما يعرف بـ”اجماع واشنطن” وعممته شروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والية المساعدات والديون الخارجية وفرضته بشكل وصفات عامة ومعيارية تصلح لكل دول العالم.

لقد تبنت اغلب الدول العربية ومنها الاردن، شروط صندوق النقد وأدرجتها في برنامج “الإصلاح الهيكلي” الذي بدأ في الأردن منذ عام 1989، وكان من أول أهدافه تقليص دور الدولة في الاقتصاد من خلال تقليص حجم القطاع العام الحكومي وبيع الشركات العامة.

اقترن تبني برنامج الاصلاح الهيكلي مع تنمية شريحة جديدة من رجال الاعمال الجدد لتلبية الطلب المتزايد على قطاع الخدمات في السياحة والمصارف والنقل الجوي وغيرها. وقد اقترنت هذه الشريحة مع رجال اعمال خليجيين راكمت ثروات كبيرة بعد طفرة اسعار النفط الاخيرة.

لكن اللبرلة الاقتصادية هذه تحولت في العقد الأخير إلى عملية نهب منظم للقطاع العام، كونها جرت بعيدا عن الشفافية والرقابة والمحاسبة، فبمقدار ما كانت خطط لبرلة الاقتصاد تمضي على قدم وساق كان القمع والعنف وتزوير الانتخابات وتعطيل دور المؤسسات التشريعية والقضائية قائما على قدم وساق أيضا للسمح لهذه الشريحة الجديدة السطوة باقل الاثمان على مقدرات البلد.

تكونت شريحة رجال الاعمال الجدد هذه من “ريعية” الفساد الذي كان استشرى سابقا اذ تتشكل في معظمها، وهي شريحة تسمى في الدول العربية كلها بـ 100 الكبار، من مسؤوليين او في الاغلب من أبناء المسؤولين السابقين في الدولة وأبناء أصحاب الحظوة لدى الزعيم.

وطبعا انضم لهذه الشريحة لاحقا بعض الفئات التي استغنت من “الاقتصاد الاسود” من تبيض الاموال وتهريب المخدرات والاسلحة ورجال اعمال هاربون من بلدانهم المضطربة كالعراق في منطقة مهتزة وبلدان منهكة اقتصاديا تتنافس على الاستثمارات، وفي بلد كالاردن صار موجها بكله للخارج وصارت كل سياسته الاقتصادية موجهة للتجارة الخارجية والاستيراد والاستثمارات الخارجية بغض النظر كيف اتت.

ربما يجوز القول ان شريحة رجال الاعمال الجدد، متحالفة مع فئات عليا من كبار موظفي الدولة، او ما يطلق عليه اليسار تحالف البرجوازية الكمبرادورية مع البرجوازية البيروقراطية الطفيلية حققت تراكما رأسماليا او “ريع” استثمرته مؤخرا اما في شراء شركات القطاع العام او في قطاع خدمات متضخم. ولاحقا سوف تنتقل هذه الشريحة الى مؤسسات الحكم في خلط بين التجارة والامارة.

وبسبب عدم قدرة الدولة على الاستمرار في “رعويتها”، وتاليا خلق “عقد إذعان” وبسبب ضيق شريحة الذين يملكون المال والثروات فقد أفضت هذه “اللبرلة المتسلطة” الى نوع جديد من الاقتصاد لدينا وهي رأسمالية الحبايب والقرايب.

لو استعرضنا الحال في كل الدول العربية، بما فيها الاردن، فان حال كل الجماهير العربية المنتفضة في الشوراع يشير الى هذه الرأسمالية المتوحشة رأسمالية الحبايب والمحاسيب، رأسمالية العائلات الحاكمة، الابن الزوجة شقيق الزوجة وصهر العائلة ومحاسيبهم وأقربائهم.

على ذلك، اعتقد ان الدولة الريعية أفضت مكانها إلى هذا الشكل الجديد من الدولة “النيوليبرالية المتسلطة”.

هذا الشكل الجديد الذي عرف ربما للمرة الاولى في تشيلي أثناء حكم الديكتاتور بينوشيت، الذي جاء بانقلاب اعدته الشركات الاميركية على الرئيس سلفادور الليندي، ليس شكلا اقتصاديا صافيا، بل هو اقرب ما يكون الى الفوضى والعشوائية.

ففي حين تسعى الليبرالية الى تقليص حجم الدولة في الاقتصاد نرى ان الدولة لا تزال تتحكم في مجمل العملية الاقتصادية. وهي في المقابل انسحبت من حماية الفئات الأضعف في المجتمع وأدت إلى تفاوت كبير في الدخل بين من يملكون من لا يملكون. وحافظت بحدود على بعض العلاقات الريعية وخاصة للأجهزة الأمنية والعسكرية.

ومن ابرز سمات هذا النموذج الجديد نسبيا هو ما بات يعرف بخلط التجارة بالامارة، او البزنس في الاقتصاد، فصارت شريحة رجال المال والاعمال تستولي شيئا فشيئا على مؤسسات الحكم في السلطات التنفيذية والتشريعية وتمد نفوذها الى السلطة القضائية بوسائل التدخل المعروفة وغير المعروفة.

وفي حين ان الليبرالية تدعو الى احترام قيم الديمقراطية لضبط عمل السوق ارتكزت النيوليبرالية المتسلطة على اليات قمع ودمجت بين النيوليبرالية والاذرع الامنية لحماية الفئة القليلة التي استفادت من “لبرلة” الاقتصاد.

وكان من ابرز النتائج السلبية لهذا النموذج هو زيادة معدلات الفقر بشكليه النسبي والمطلق وزيادة البطالة ولكن أسوأها كان التفاوت في التنمية بين المدينة والريف بين المدن المركزية والمدن الهامشية بين سكان المدن وبين سكان المحافظات.

يمكن في تدونية اخرى اكتب اكثر عن النيوليبرالية المتسلطة، بس هلا زهقت

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية