الحكم المحلي – بيئتنا المبنية

الإثنين 13 آب 2012

بقلم محمد الأسد*

(نشر بالتعاون مع طريق)

كما هو الحال في غالبية بلدان العالم العربي فإن الخطاب السياسي في الأردن تغير كثيراً خلال السنة والنصف الماضية. فالسياسيون ومتخذو القرار – الحاليون والسابقون منهم –  يبدون آراءهم بشغف عن الوضع السياسي الحالي في الأردن وعن الاتجاهات المستقبلية لهذا الوضع. ومع اختلاف آرائهم، يبدو أنهم يتفقون في اعتبار السياسة نشاطاً يحدث على المستوى الوطني المركزي وليس على المستوى المحلي. ولذلك، فإن تعزيز وتمكين مؤسسات الحكم المحلي، الممثلة في الغالب بالبلديات، هو أمر عادة غائب عن تفكيرهم.

ومن الاستثناءات المهمة لذلك رئيس بلدية إربد السابق وليد المصري، فهو ينادي بدعم البلديات وتمكينها تمكيناً حقيقياً، ويركز على أن السلطات المتاحة للبلديات يجب أن تتوسع لتتعدى أموراً مثل منح التراخيص وتجميع النفايات وتعبيد الشوارع، لتتضمن ما هو أوسع من ذلك مثل الصحة العامة والتعليم ووسائل النقل العامة، هذا بالإضافة إلى تعزيز قدراتها على فرض الضرائب المحلية ووضع الأنظمة.

وإذا تمت تقوية اللامركزية وتحويل السلطات من المؤسسات الوطنية إلى البلديات، سيكون لسكان المدن دور أكبر في إدارة العديد من الأمور التي تخصهم وتهمهم. كذلك فإن اللامركزية ستحرر النشاط السياسي الوطني من العديد من الضغوطات، وتجعله أقل عرضة للممارسات التي تؤدي إلى التوتر والتفرقة والمواجهة، إذ ستسمح اللامركزية للعديد من الأمور أن تعالج وتُحل على المستوى المحلي بدلاً من إقحامها في حلبة السياسة الوطنية المشحونة والمكتظة بالقضايا المختلفة.

إن الممارسات الديمقراطية التشاركية تبدأ عند مستوى المدن وبلدياتها، وهناك يتجلى العديد من هذه الممارسات بوضوح، إذ يتجمع الناس عند ذلك المستوى – بصفتهم أفراداً ومجموعات – لمعالجة العديد من الأمور التي تؤثر على حياتهم اليومية. وهذا يبدأ بكيفية تشييد أبنيتهم واستعمالها، وإدارة حركة السير واصطفاف السيارات في شوارعهم. ويتضمن أيضاً إدارة نفاياتهم، وتأمين الماء والكهرباء لهم، وتصريف مياههم العادمة ومعالجتها. ويجب أن يتسع ليتضمن كيفية تعليم أولادهم وإدارة العيادات الصحية العامة وتنظيم وسائل النقل العام.

وهناك العديد من القرارات التي تؤثر على حياتنا اليومية التي يجب أن تُتخذ على المستوى المحلي بدلاً من المستوى الوطني. إن البلديات أقدر على التعرف بشكل دقيق على احتياجات سكان المدينة وعلى الأمور التي تقلقهم وعلى آمالهم بالمقارنة مع المؤسسات التي تعمل على المستوى الوطني. كذلك، إن البلديات أصغر حجماً من المؤسسات الحكومية المركزية، وهذا يسمح لسكان المدن أن يتفاعلوا معها على نحو يصعب تحقيقه بنفس الفعالية مع المؤسسات الوطنية المركزية. ويكون أسهل عليهم المشاركة في النشاط السياسي سواء من ناحية التنظيم أو تكوين التحالفات أو التفاعل المباشر مع متخذي القرار. ومن خلال كل ذلك، يشعر سكان المدينة أنه لهم دور مهم في إدارة شؤونهم، بدلاّ من الإحساس بالضغف والعجز نحو ممارسات اتخاذ القرار التي تؤثر على حياتهم.

وإذا تعززت سلطات البلديات المنتخبة في الأردن، فإنه سيكون على سكان المدن والمؤسسات البلدية التي تمثلهم على حد سواء الكثير ليتعلموه، خاصة أنه لم يكن لأي منهم أي تأثير فعال على أوضاع الحياة في المدن لفترات طويلة من الزمن. وستُرتكب العديد من الأخطاء. فمثلاً، لن تُستخدم الموارد المتاحة للمدن بالضرورة على أفضل وجه، ولن ينتخب المواطنون بالضرورة من هم الأفضل لتمثيلهم من رؤساء بلديات وأعضاء مجالسها، ولن يختفي فوراً رئيس البلدية النمطي الذي سيتذكر الجميع بأنه اشترى سيارة جديدة لرئاسة البلدية وأعاد تأثيث المكتب ووظف أقاربه دون أن يترك أي أثر أيجابي على المدينة. ولكن الناس سيتعلمون الدروس المهمة بسرعة. وسيدرك المواطنون المسؤولية التي ترافق عملية التصويت، وسيتعلم مسؤولو البلديات أنه عليهم أن يقدموا تحسينات ملموسة لسكان المدينة إن أرادوا أن يعاد انتخابهم. وستتعلم البلديات من بعضها البعض، وأيضاً ستتنافس مع بعضها البعض. وبعد مرور القليل من الزمن، ستظهر وتنتشر الممارسات الإيجابية المختلفة بين البلديات.

وحتى يحدث كل هذا، يجب أن تعطى البلديات سلطات حقيقية ويجب أن يشعر سكان المدينة أنهم يقررون من خلال عملية التصويت من هم المسؤولون عن إدارة بلديتهم. وفي هذا السياق، أعود إلى آراء وليد المصري بخصوص الحكم المحلي. يقول المصري أنه إذا اقتصرت مسؤوليات البلديات على أمور مثل إصدار التراخيص، فإن السكان سيصوتون لمن يسهّل عليهم الحصول على هذه التراخيص، حتى ولو كانت ضد المصلحة العامة، كما في السماح للسكان بتشييد أبنية أكبر مما يجب أو السماح لأبنية معينة أن تتواجد في غير الأماكن المخصصة لها (من الأمثلة الكثيرة على ذلك السماح بتواجد صالات أفراح في وسط حي سكني، إذ أنها تولد مستويات غير مقبولة من التلوث الصوتي والازدحام المروري والنفايات). وفي مثل هذه الظروف سيصوت المنتخبون لهؤلاء الذين تربطهم بهم علاقات قرابة أو علاقات تقارب اجتماعية أخرى. ولكن إذا كانت البلديات مسؤولة أيضاً عن أمور مثل التعليم والصحة العامة والنقل العام، فيسبدأ سكان المدينة بالنظر إلى عملية الانتخاب بشكل آخر. وبدلاً من انتخاب هؤلاء الذين تربطهم بهم علاقات قرابة، سيبدأوا بالتفكير بانتخاب من يستطيع أن يؤمن التعليم الأحسن لأبنائهم والخدمات الصحية الأفضل لعائلاتهم وخدمات النقل العام الأكثر كفاءة لهم. ومن خلال هذه التطورات تدخل العملية الديمقراطية مرحلة جديدة وأكثر نضوجاً.

ومع أن موضوع اللامركزية يذكر مراراً في الأردن، إلا أنه لم تتخذ أي جهود جدية لتحقيقه. ومع أننا نسمع الكثير عن الحاجة إلى الإصلاح السياسي في الأردن، ومع أننا نسمع آراء متباينة وحتى متضاربة بخصوص تعريف هذا الإصلاح، إلا أنه يبدو أن هذه الآراء المتباينة تتوافق إجمالاً في اعتبار السياسة نشاطاً يحدث على المستوى المركزي، هذا مع أن الإصلاح دون اللامركزية سيكون ناقصاً، وتحقيق اللامركزية يعتمد أساساً على إعطاء البلديات صلاحيات حقيقية.

*الدكتور محمد الأسد مهندس معماري ومؤرخ، وهو مؤسس مركز دراسات البيئة المبنية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية