بقلم محمد شجاع الأسد
(نشر بالتعاون مع طريق)
يبدو أن الجميع هذه الأيام يتكلمون عن الإبداع. فاستعمال هذه الكلمة (بالإضافة إلى الكلمة القريبة منها، الابتكار) قد بدأ بالتوسع خلال العقود الثلاثة الماضية ليتضمن مجالات واسعة من النشاطات الإنسانية، وليس فقط لوصف أعمال الفنانين والمخترعين. فإن عالم الأعمال مثلاً قد احتضن مبدأ الإبداع ليكون جزءاً أساسياً يساهم في تطوير الخدمات والسلع. وقد أخذ مبدأ الإبداع بالتأثير أيضاً على مجالات أخرى تتضمن التعليم والخدمة العامة والتطوير المجتمعي. ولكن إذا نظرنا إلى مجال مثل العمارة، الذي كان تقليدياً يعتبر شعلة للإبداع، نجده للأسف يبتعد أكثر فأكثر عن تطوير الأفكار الإبداعية، ونجد فيه اليوم خلطاً بين الإبداع وبين ما هو ليس أكثر من تكوين التشكيلات غير المألوفة.
إن ما أقصده بالإبداع هو طريقة تفكير تجعلنا نتخطى أو حتى نكسر حواجز التفكير النمطي الذي يقودنا إلى التعامل مع الأمور على نحو محدد وتقليدي. فالإبداع يعطينا الفرصة لتطوير أفكار جديدة أو حلول لمشاكل وتحديات تواجهنا لم يفكر بها الغير.
وتحتاج جميع المجتمعات إلى احتضان الفكر الإبداعي وتشجيعه حتى تستطيع أن تجد لها موطئ قدم في عالم يتصف بتنافسية العولمة القاسية. ولكن التحديات التي تواجه التفكير الإبداعي في بلد مثل الأردن عديدة إذ أن ثقل التفكير النمطي قوي للغاية، وكذلك نجد أن الكثيرين يقومون بنشاطات مختلفة بطريقة معينة ليس لأن هذه الطريقة هي الأفضل، بل لأنها هي الطريقة المتبعة تقليدياً. فبينما تدعم بعض المجتمعات التفكير الإبداعي، فإن مجتمعنا إجمالاً لا يلقي له بالاً، بل أن مؤسسات المجتمع المختلفة كثيراً ما تقاومه.
وبسبب ذلك بدأت أبحث عن تجارب لأردنيين استطاعوا أن يكسروا الأطر النمطية في التفكير وأن يطوروا وسائل إبداعية في حياتهم المهنية. وبالذات، فإنني ركزت على التعرف على أولئك المبدعين الذين قاموا بتصنيع المنتجات التي نستعملها في حياتنا اليومية، إذ أن تصنيع هذه المنتجات يمكن أن يجمع بين الإبداع والوظيفية والتنمية الإقتصادية. وقد أعجبت كثيراً بالمنجزات التي حققها عدد من الأشخاص الذين تعاملت معهم، وأجد أنه يجب أن يتعرف جمهور أوسع على منجزاتهم. وهكذا ولدت فكرة الفيلم “إبداع. تصميم. تصنيع” الذي شاركت في إنتاجه.
إن المبدعين الذين تابعت أعمالهم هم عمّار السجدي، وهو مهندس كهربائي طور لوحات إلكترونية للتحكم بالمصاعد، وروان قبرصي، وهي معمارة تعمل على تطوير مأوى يمكن تركيبه وتفكيكه بسهولة، وليث القاسم، وهو مهندس ميكانيكي قام مع شريكه خبير المركبات فواز الزعبي بتطوير السيارة الأولى في الأردن، البادية.
لقد رفض كل منهم الحدود النمطية التي عرّفت مجالات عملهم. لذلك نجد في حالة عمّار أن أولئك الذين عملوا في مجال المصاعد في الأردن يقومون منذ فترة بتصنيع أجزاء مختلفة من المصاعد من غرف وأبواب وإكسسوارات، ولكنهم اعتقدوا أن القدرة المحلية غير متوفرة لتصنيع أجزاء متطورة تكنولوجياً من المصاعد مثل لوحات التحكم الإلكترونية. إن هذه اللوحات هي التي تتحكم بصعود المصعد أو نزوله وبفتح بابه أو إغلاقه. وفي حالة روان، فإنها جزء من مجتمع المعمارين الذي يقدر متانة البناء وقدرته على البقاء، وعادة لا يعير الأبنية المؤقتة أي اهتمام. أما ليث وفواز، فإن التفكير السائد حولهما مبني على الاعتقاد بأنه لا يمكن إلا لبلد ذي تاريخ طويل في الصناعة الثقيلة أن يصنع مُنتج مثل السيارة.
وقد بيّن كل منهم كيف يمكن العمل خارج الأطر النمطية. فقد نجح عمّار في تطوير لوحات تحكم للمصاعد أصبحت تخدم اليوم جزءاً كبيراً من السوق الأردني. وقد قامت روان ببناء نموذج لمأوى يمكن تركيبه وتفكيكه بسهولة، وهي الآن تطوّر المهارات التي اكتسبتها من خلال العمل على نيل درجة الماجستير في أنظمة البناء في بريطانيا. وقد قام ليث وفواز بتصنيع عدد من السيارات، ويمكن أن نرى بعضها اليوم في شوارع عمان. ولكنهم اضطروا أن يغلقوا شركتهم لإنتاج السيارات بسبب عدم وجود إقبال على منتجاتها. لذلك، فإن واحداً من هذه الجهود أصبح مشروعاً تجارياً ناجحاً، والثاني لا يزال في مرحلة التطوير، والثالث قد توّقف. ولكنني أرى أن هذه الجهود جميعها نجحت نجاحاً باهراً. فجميعها قامت بتطوير أفكار مبدعة لتصبح منتجات يمكننا استخدامها.
وفي كل من هذه الحالات، نجد تكاملاً بين الإبداع والتصميم والتصنيع. إن هؤلاء المبدعين كان بإمكانهم أن يأتوا بأفكار ولكن أن يبحثوا عن من يطورها. ولكن كل منهم قام بتطوير أفكاره من خلال تصميم جميع تفاصيلها بشكل شامل ودقيق، وبصبر عميق.
وبعد مرحلة التصميم المرهقة التي مر بها كل منهم، انتقلوا إلى مرحلة التصنيع. وكان بإمكانهم طبعاً أن يبحثوا عن من يقوم بتصنيع تصاميمهم لهم، ولكنهم شاركوا مشاركة فعالة في هذه المرحلة، بل قاموا بتصنيع العديد من عناصر منتجاتهم بأيديهم. إن هذا التكامل بين التصميم والتصنيع في غاية الأهمية، فكل منهما يعتمد على الآخر، وفصلهما سيتسبب بمنتج ضعيف. وإن تراجع القدرات الصناعية للعديد من الدول الغربية ذات التاريخ الصناعي العريق يعود بعضه إلى الفصل بين التصميم والتصنيع من خلال نقل عملية التصنيع إلى بلدان ذات عمالة رخيصة نسبياً.
إن القصص الثلاث التي يحكيها لنا هؤلاء المبدعون تأسرنا وتثقفنا وتلهمنا. وقد كان هدفنا أن نعبر عن قوة هذه القصص من خلال هذا الفيلم. وقد عملت على الفيلم مع زملائي في مركز دراسات البيئة المبنية الذي أرتبط به. وقد أنتجنا الفيلم بميزانية في غاية التواضع ومن خلال تعاون عدد من الجهات. فقد تطوع المركز بجهد طاقمه ووقته، وقامت شركة محلية للبرمجيات بتغطية أتعاب المخرجة والمصور (الذي هو أيضاً كان المسؤول عن المونتاج)، وقد قبل كل منهما بأتعاب تقل عن أتعابهما المعهودة إذ أنهما أحبّا فكرة الفيلم والرسالة القوية التي ينقلها. كذلك قامت شركة للتصوير بالتبرع بإعارة معدات التصوير.
وكانت النتيجة فيلماً باللغة العربية (مع ترجمة بالإنجليزية) مدته حوالي 30 دقيقة. وقد عرضناه على الجمهور لأول مرة في منتصف شهر تشرين الثاني الماضي وتبعنا العرض بفترة للأسئلة والأجوبة مع المبدعين الثلاثة والمخرجة. وكانت هذه الجلسة مثيرة ومفيدة. ولكنني وجدت أن ردة فعل جزء كبير من الجمهور لهذه القصص الثلاث كانت أنهم اعتبروا نصف الكأس فارغاً. فقد كان رأيهم أن التحديات والصعوبات التي واجهها المبدعون تعود إلى عدم وجود أي دعم لمبدعينا في الأردن سواء من المجتمع أو من الجهات الرسمية. ولكننا كنا قد أنتجنا الفيلم لنبيّن أنه مع أن الأردن يعاني من تحديات عديدة تقاوم الإبداع، كما في التراجع الملحوظ والمقلق في الأداء الذي يعاني منه كل من النظام التعليمي والقطاع العام، إلا أن الأردن لا يزال قادراً على تقديم أشخاص قادرين على تطوير الأفكار المبدعة. وتحتاج منجزات هؤلاء الأشخاص في اقتصاديات العالم المتقدمة إلى تعاون وثيق بين فرق متعددة من المختصين. إن قصص عمار وروان وليث وفواز قصص تلهمنا ويمكننا أن نتعلم الكثير منها.
* يمكن مشاهدة الفيلم بأكمله بالإضافة إلى مقتطفات قصيرة منه طولها دقيقتان من خلال الموقع الإلكتروني لمركز دراسات البيئة المبنية.