بقلم بسمة عبدالله عريقات
يقول لنا الروائي الفلسفي الفرنسي ألبير كامو في كتابه “الثائر” – وهذه إعادة صياغة مني شخصياً وليست من الترجمة الرسمية المعتمدة للرواية – بأننا كلما حاولنا أن نمسك حياتنا أو حياة الآخرين تفلت منا ونفشل في ذلك، فالحياة لا تملك معالم واضحة ولا نمط وهي مجرد اندفاع للبحث المستمر ودون جدوى. هذا يسبب عذاباً كبيراً للإنسان ويجعله يحاول بلا نتيجة أن يخلق حدوداً بإمكانه داخلها أن يكون ملكاً. فيملك الإنسان اعتقاداً بأن هنالك عالم أفضل ومتكامل أكثر. فالمعتقدات والحضارات والجرائم والحروب وكل المشاريع البشرية الأخرى تحاول أن تجعل العالم متكاملاً وموحداً وذا ملامح وحدود، لكن هذه الحدود وهمية وغير موجودة في الواقع.
يعني ذلك بأن الإنسان في رحلة بحث دائم عن قصة مكتملة لحياته وحياة الآخرين، وهي التي تعطيه الإجابات عن التساؤلات الوجودية والحياتية التي تواجهه كل يوم. وللقصة عناصر منها الزمان والمكان والشخوص والحبكة والنهاية، والتي تساعد على تشكيل تسلسل منطقي للأحداث التي يمر بها وتعطي شعوراً بالاستقرار والوضوح. فتشكل الحكايات والروايات جزءاً مهماً من أية حضارة بشرية وذلك لأنها تشبع هذه الرغبة الغريزية بالمعيش ضمن تسلسل وعلاقات منطقية. ويحاول الإنسان أن يستوعب الحياة بتشكيل روائي يسمح له برؤية بداية وحبكة ونهاية تضع الأشياء ضمن إطار زمني ومكاني محدد.
لكن الواقع عبارة عن خليط من الرغبات والإمكانيات والأصول والطموح والمعرفة والجهل والحب والكراهية والحياة والموت وكل التناقضات الأخرى. وهذا يجعل الإنسان يدور هائماً بين قصاصات مبعثرة من حياة صاخبة بالفوضى وأشخاص وأماكن وذكريات مفككة وأحداث غير متسلسلة تترك آثاراً متراكمة زمنياً وهي التي تشكل كيانه المتغير المرن. ولكنه لا يدرك أن الضياع هذا هو بالضبط ما يحتاجه للنمو والتطور. فالانسيابية والعفوية التي تمضي بها الأحداث والمؤثرات الحياتية تشكل بيئة خصبة لإنتاج التغيير والتنوع. وأي محاولة لتأطير الواقع وفرض حدود يتم من خلالها تصنيف التطور وتسييره من قبل قوى خارجية تهدف إلى التنظيم والتنظير تؤدي إلى إلغاء أية فرص لحدوث تصادمات بناءة بين قوى المجتمع والفرد داخلياً، والتي تؤدي إلى إطلاق القدرات الكامنة.
هذه العملية العفوية من الإنتاج والبناء هي فن من الفنون التشكيلية والروائية التي تعمل على خلق القصص الشخصية من تفاعلات وتشكيلات زمنية ومكانية. وحسب نظرية الفيلسوفان الفرنسيان دولوز وجواتاري النفسية الفنية، فإن الحضارة الحديثة لا تصنع فنوناً مصممة ومفروضة، بل تقوم بإطلاق الفنون الكامنة داخل الأشياء والتي تختبئ تحت غطاء الأهداف والتوقعات، وهذا هو الفن الحقيقي، إنه عملية مستمرة من الاستكشاف التي لا تنتهي ولا تكتفي.
والفنون هي انعكاس الحالة الإنسانية لأي عصر من العصور. لا يستطيع الإنسان الحديث البقاء ضمن حدود الأهداف والمخططات والأجندات في عصر ما بعد حداثي يعتمد على الطريقة بدل النتيجة وعلى العمليات الاستكشافية المستمرة. ولا يعني ذلك عدم التخطيط أبداً والعيش في بوهيمية بلا أهداف، بل يعني أن يتم التخطيط على مستوى الطرق والوسائل والسبل التي تبرز قدرات الإنسان وليس النتائج المفروضة والمرجوة من الأعمال. يتضمن هذا تغييراً جذرياً في التفكير العلمي التقليدي الذي يضع أهدافاً ثم خططاً للتنفيذ ثم تقييماً للنتائج حسب قربها من الأهداف الأصلية. فكر ما بعد الحداثة يبدأ بالعمل عن طريق تصميم وسائل مستوحاة من القوى الموجودة والتي تشمل العلم والتكنولوجيا والسياسة والفنون والمعتقدات والبيئة وكل ما إلى ذلك، ويصنع تجارباً تهدف إلى إيجاد الفرص الكامنة بين هذه العلاقات. فالعملية مبنية على المتعة في الانتاج والاكتشاف وتصبح النتائج عبارة عن منتج ثانوي من هذه العمليات. وبالرغم من ثانوية هذا المنتج في العملية الانتاجية إلا أنه ذو جودة وإبداع عال بسبب كونه نتيجة طبيعية وعضوية لتحركات واقعية وحقيقية، وبالتالي يتفوق على المنتج التقليدي الذي عادة ما يحمل طابعاً مفروضاً ودكتاتورياً تجاه العملية الانتاجية.
لا يملك الإنسان المعاصر الوقت ولا القدرة على مقاومة التيارات الجارفة من التطورات والمتغيرات التي تعصف بالعالم أكمل. ومحاولة مقاومتها ستؤدي إلى ضياع هدام وهلاك في النهاية. لكن بإمكانه وبكل سلاسة أن يتماشى مع القوى التي تؤثر بمشاريعه بحيث أن يدخل في أعماق التناقضات ليكتشف الفراغات التي تسمح بالتقاء بعض هذه المؤثرات لتتفاعل بعملية بنائية طبيعية يمكن أن تكون أعظم فرص لتحقيق الذات ضمن عالم غريب وعنيف لكن بنفس الوقت غني وممتع.