في ذكرى عبدالفتاح

الأحد 24 شباط 2013

فصل من مذكرات القيادي الشيوعي عبدالعزيز العطي* يستذكر فيه استشهاد عبدالفتاح تولستان

في مثل هذا اليوم ٢٤ / ٢ من عام ١٩٦٢ استشهد المناضل الشيوعي عبدالفتاح تولستان تحت التعذيب في أقبية المخابرات الأردنية، ويروي قصة إستشهاده عبدالعزيز العطي، المشرف على التنظيم الحزبي في عمّان آنذاك، فيقول:

أذكر أني كنت على موعد في أحد الأيام للاجتماع بلجنة منطقة عمان التي كانت تضم (مجموعة من الرفاق) ومنهم عبدالفتاح تولستان، فأقلقني تأخره. إذ ليس من عادة الشيوعيين عدم الانضباط التنظيمي مهما كانت الأسباب، ولا يعوقهم عن ذلك إلا الأسباب المعروفة، والاعتقال المفاجئ في مقدمتها. جاء الرفيق فؤاد قسيس وعيناه مغرورقتان بالدموع! ولما استفسرت عن السبب، أجاب بصعوبة: إن الرفيق عبدالفتاح تولستان انتهى. طلبت مزيداً من الإيضاح، فقال: إن قوات من رجال الأمن والشرطة دهمت مدرسة الأمير محمد التي كان يعمل بها في وادي سرور، واقتحموا حصته التدريسية عند الساعة العاشرة صباحاً وألقوا القبض عليه، وقيدوا يديه أمام طلابه، وساقوه إلى مركز المخابرات، حيث بوشر بتعذيبه الوحشي على الفور، قاصدين انتزاع معلومات منه عن الحزب وعن رفاق آخرين، وكان يرد عليهم بالسباب السياسي، وأحياناً يبصق في وجوه جلاديه. لم يتركوا وسيلة تعذيب لا إنسانية، بما فيها الصدمات الكهربائية إلا لجأوا إليها، ولكن دون جدوى. ظل الرفيق عبد الفتاح صلباً جامداً في وجه الجلادين الطغاة، ربائب الخبراء النازيين والفاشيين، حتى الرمق الأخير، وكانت عبارته الشهيرة قبل أن فارق الحياة: “إني أعلم أنني سأموت في هذه الغرفة، لكن مهما طال أمدكم يا طغاة، فإن النصر لشعبنا، ولنا نحن الشيوعيين.” فأبلغوا الخبير الألماني المجرم الذي جاء إلى غرفة التعذيب، وألقى نظرة عليه وقال: هذا شخص مارق! واصلوا عملكم معه. راح الجلادون يحرقون وجهه بالسجائر المشتعلة لعله يفيق، لكنه كان قد فارق الحياة.

وجاء دور رجال جهاز المخابرات للتخلص من جريمتهم النكراء، باستدعاء أهله وذويه لاستلام جثمانه، فرفضو بإباء، وطالبوا بمحاكمة القتلة، فتدخلت أوساط حكومية لدى بعض رجالات الدولة من الشركس للسعي لدى أهله لدفنه (شكل الشراكسة في الأردن وفداً مكون من أربعين شخصاً لمقابلة الملك حسين بن طلال مستنكرين الجريمة البشعة مطالبين بضرورة إيقاع العقاب بقتلة الشهيد. وقد اعترف الملك ضمناً بالجريمة إذ قال أنها غلطة ارتكبت أثناء التحقيق ولن تتكرر، ووعد بان يأخذ الحق مجراه. [عناد أبو وندي. موقع الحوار المتمدن]**). ولدى تسلمهم جثمانه، بانت آثار التعذيب الجسدي الوحشي والحروق بالسجاير والصدمات الكهربائية عليه. (ظهر في كل ذراع من يديه إحدى وعشرون حلقة مسودة بفعل حرق أسلاك الكهرباء ولم يتركوا في جسمه موضعا ألا وفيه كدمة أو حرق ولا عظما إلا وفيه كسر. الشيخ الذي غسل جثة الشهيد لم يتمالك إلا أن يصيح بأعلى صوته “الله اكبر يا ناس وين الدين، اللي بحكوا عنه، وين الإنسانية؟ الله اكبر يا ناس وين العدل؟ وفي حرمة شهر رمضان يفعلون هذا.” [المصدر السابق]).

تولستان1 copyكان الرفيق عبدالفتاح يعرف من وشى به إلى أجهزة المخابرات، وكان ذاك الشخص عضواً بالحزب وله صلة قرب بالرفيق عبد الفتاح وقد سبق لهذا الواشي أن اعتقل وانهار تحت التعذيب والإرهاب، فاعترف لأجهزة المخابرات بأنه عضو في منظمة للحزب الشيوعي يقودها الرفيق عبدالفتاح. ويروى عن الرفيق الشهيد أنه كان يقول لرفاقه: إذا اعتقلتني أجهزة السلطة الأمنية، وكان يتوقع ذلك، فسوف أعرفها من يكون الشيوعي، فمهما يواجه من تعذيب قاسي فلن ينالوا منه شيئاً. وهذا ما كان. أما الواشي، فقد هاجر البلاد نهائياً إلى بلاد القفقاس، وأما الرفاق الآخرون في المنظمات ذاتها فقد فروا إلى سورية ومكثوا فيها سنوات، إلى أن صدر العفو العام عام ١٩٦٥.

ذاع خبر اغتيال عبدالفتاح تولستان على أيدي الجلاوزة النازيين وأعوانهم، وأثار موجة عارمة من السخط والاستنكار الشديد، ومطالبات واسعة من الأوساط والشخصيات الوطنية في البلاد، وحتى من بعض المسؤولين الحكوميين، بإنهاء خدمة هؤلاء الخبراء الأجانب الذين تربوا على السادية ومحاربة القيم الإنسانية والذين أحرجوا السلطة فعلاً بأعمالهم واساليبهم الوحشية في معاملة السياسيين وأهل الرأي الحر. وهكذا كان، فقد جرى ترحيلهم إلى حيث أتوا، كما علمت بأن أحد أتباع أجهزة المخابرات الذي شارك في تعذيب الرفيق عبدالفتاح حتى استشهاده أصابه الاكتئاب والعذاب النفسي والانعزال حتى آخر أيامه. (اضطرت السلطات في الأردن أن توقف بعض ضباط المباحث المنفذين للجريمة (…) وتعلن عن عزمها على محاكمتهم، دون أن تمس خبير التعذيب الألماني. [المصدر ذاته]).

كانت حادثة اغتيال الرفيق عبدالفتاح تولستان، وموجة الاحتجاج الواسعة التي تلت تلك الجريمة النكراء في تلك الظروف القمعية التي لم تشهد لها البلاد مثيلاً في حينه، دليلاً على أن خميرة الحركة والمشاعر الوطنية لم تخب تماماً، فحركات الشعوب التحررية قد تكبوا في فترة ما، لكنها ما تلبث أن تقوم وتنتعش وتواصل طريق النضال حتى تحقق أهدافها. وكان لنا في هذا الدليل نبراس يضيء آخر النفق المظلم الذي حفره الانقلاب الرجعي عام ١٩٥٧، وقد أفدنا من ذلك في مراجعتنا للوضع وفي تخطيطاتنا اللاحقة.

ولد عبد الفتاح تولستان في حي المهاجرين بعمان في ٢٩ / ٦ عام ١٩٣٤ وانضم إلى الحزب الشيوعي عام ١٩٤٥، واستشهد في السابعة والعشرين من العمر.

نظم الشاعر الكبير عبد الرحيم عمر قصيدة نشرت في جريدة الحزب الشيوعي بعنوان إلى روح الشهيد عبد الفتاح تولستان.

* صدرت مذكرات عبدالعزيز العطي في شباط ٢٠١٣ بعنوان “رحلة العمر. من شاطئ غزة إلى صحراء الجفر”، وهي متوفرة في مكتبات وسط البلد.
** الصحفي عناد أبو وندي يعمل على مشروع لتوثيق تاريخ الحزب وله مجموعة مقالات في هذا المجال منشورة على صفحته على موقع الحوار المتمدن.

(الصورة لمظاهرة في عمّان في الخمسينات)

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية