خطط التطوير التربوي: “الكلام” عن التعليم بدلاً من التعليم نفسه

الأربعاء 13 شباط 2013

في العام 1991 عُيّنت معلمة لغة عربية بديلة في مدرسة في الصفاوي (90 كم شرق مدينة المفرق)، حيث طُلب مني تدريس الصفوف من الثامن إلى التوجيهي، من بينها صفّان مجمّعان.

في حصة التعبير الأولى سألت طالبات الصف العاشر عن الموضوع الذي يرغبن الكتابة فيه، فاقترحن الكتابة عن القضية الفلسطينية.

عندما جمعت الدفاتر لتصحيحها، لم تكن المفاجأة بالنسبة لي أن معظم الموضوعات كانت مكتوبة بخطوط مرتبة، وبما لا يُذكر من الأخطاء الإملائية واللغوية؛ ففي تلك السنوات، كان هذا ما هو متوقع من طلبة الصف العاشر. ما أدهشني هو وضوح الأفكار وثراء المعلومات، وأن هناك ما لا يقل عن ست من الفتيات الإحدى عشرة أشرن إلى تفاصيل من مفاوضات مدريد التي كانت جارية في تلك السنة.

في اليوم التالي سألت البنات: “من أين عرفتن هذه المعلومات؟”، فأجبنني مستغربات السؤال: “من نشرات الأخبار يا ست”.

إلى أن استقلت من وزارة التربية العام 2008، بعد ثلاث عشرة سنة من التدريس في المفرق، عمان، وإربد، ظلت طالبات الصفاوي هن المعيار الذي أقيس عليه نوعية الطلبة. نوعية كان من الواضح سنة بعد سنة أنها تتراجع، عندما بدأنا، نحن من ندرّس الصفوف الأساسية العليا والثانوي في استقبال طلبة تتكاثر أخطاؤهم الكتابية من كل نوع، وتضمحل ثقافتهم، ويتقلص إلى درجة التلاشي اهتمامهم بالقضايا العامة.

pull quote_Arabic2تراجع أصبح في السنوات الأخيرة يتخذ صفة الانهيار، فبعد أن كان وصول طالبة إلى الصف السادس أو السابع دون أن تجيد الحدّ الأدنى من مهارات القراءة والكتابة حدثاً ومثار استغراب في غرفة المعلمات، صار لكل صف بما فيه الثانوي طالباته الأميات، وفي آخر سنة لي في المدارس، وكان هذا في قلب مدينة إربد، وفي السنوات القليلة التي سبقتها، كان يكون لدي في كل صف من الصفوف الثلاث التي أدرّسها في كل عام ما لا يقل عن ثلاث أو أربع طالبات أميات تماما، أي أنهن لا يميزن الأحرف الأبجدية، ولا يعرفن سوى كتابة أسمائهن الأولى، وهذه لا يكتبنها بل يرسمنها رسماً، ويقدمن أوراق الاختبارات فارغة، أو غالبا مسودة بخطوط متعرجة ليس لها معنى، ويُطلق عليهن في أوساط المعلمات الطالبات “اللّي بكتبن حُجُب”، نسبة إلى الطلاسم التي يكتبها المشعوذون، ويتخذن في الصف الوضعية التي تطلق عليها المعلمات “دُرْج قاعد على دُرْج”.

إضافة إليهن، كان يكون في كل صف مكون من 35 طالبة ما لا يقل عن عشر طالبات، هن في الحقيقة أميات تقريبا، أي أنهن يميزن الأحرف، ولكنهن يرتكبن ما لا يقل عن 60 أو 70 خطأً في نص من مئة كلمة.

النبت الشيطاني

ما الذي حدث؟ ولماذا يتزامن هذا الانهيار بالتحديد مع كل هذه الجهود الحثيثة لتطوير التعليم؟ وبالتحديد مع “تسونامي” خطط التطوير التربوي  القائمة على “اقتصاد المعرفة”، والتي بدأ تنفيذها في الأردن العام 2004، وكان هدفها مجاراة العالم الذي التفت مبكراً إلى دور التعليم في تأهيل الموارد البشرية لتكون هي رأس المال الأهم، والمحرك الأساسي للنمو الاقتصادي.

أعتقد أن جزءاً كبيراً من المسؤولية تتحمله الآلية التي أُديرت بها هذه الجهود التي لم تكن “حثيثة” بقدر ما كانت “عالية الصوت”، ولم يكن “اقتصاد المعرفة” هو الدينامو المحرّك لها، قدر ما كان المصطلح “الموضة” لهذا العقد.

نظرياً، سعت هذه الخطط، أولاً، إلى تغيير أساليب التدريس التقليدية القائمة على الحفظ والتلقين، وتطبيق أساليب جديدة تعزز مهارات التحليل والابتكار، يكون فيها الطالب شريكا للمعلم لا متلقياً سلبياً.

وسعت، ثانياً، إلى تغيير أساليب تقييم تحصيل الطالب، فبدلاً من حصرها في امتحان تحريري يقيس جوانب محدودة من أدائه، أقرّت استراتيجيات أخرى قائمة بشكل أساسي على متابعة المعلم لكل طالب بشكل فردي داخل الصف، ورصد أدائه والكيفية الي استوعب بها المهارات والمفاهيم المطلوبة، وهي متابعة تمكّن المعلم من تبيّن نقاط الضعف والقوة لدى الطالب. وهنا يقوم المعلم في كل حصة بتدوين ملاحظاته عن أداء كل طالب في نماذج خاصة يكون قد جهّزها، لتُجمع هذه الملاحظات في النهاية، ويتم على أساسها منح العلامة المستحقة.

جميع ما سبق رائع، لكن المسألة هنا هي أن هذه الأفكار لم تنبت في بلدانها الأصلية شيطانياً، بل بزغت واختمرت وخضعت أثناء التطبيق إلى مراحل من التغيير والتشذيب والمواءمة، في حين أن ما فعلته وزارة التربية هو أنها استوردتها من بلد المنشأ جاهزة، لتتحول عند تطبيقها في المدارس الأردنية إلى سيناريو كوميدي أسود.

مثلاً ، في درس الفعل المتعدي إلى مفعولين للصف التاسع ومقرر له حصة واحدة، مدتها 45 دقيقة، مطلوب من المعلم، أثناء شرحه للدرس، أن يتأكد من أن كل طالب (من طلاّبه الأربعين مثلاً) قادر على أن:
•    يتعرّف أركان الجملة الفعلية.
•    يميز الفعل المتعدي إلى مفعول واحد من الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول.
•    يوظف أفعالاً متعدية في جمل مفيدة.
•    يتعرّف نوعي الأفعال المتعدية إلى مفعولين.
•    يتبين أهمية تكامل أركان الجملة في تأدية المعنى المطلوب.
•    يتحلى بآداب الكلام والمناقشة.
•    ينجز المهمة في وقتها.

المهمة المستحيلة

فرضت وزارة التربية على معلّميها تطبيق هذه الأساليب دون أن تراعي جملة عوامل تجعل من هذا التطبيق مهمة مستحيلة:

أولاً: وفق هذه الأساليب، على المعلم أن يتابع الطلبة بشكل فردي، وهذا يتطلب أن يكون عددهم في الصف قليلاً، في حين أن عددهم في كثير جداً من مدارس المملكة يصل إلى أربعين طالباً.

ثانياً: تحتاج المتابعة الفردية للطلبة أثناء الحصة إلى وقت، لا يمكن أن يتوفر مع مناهج شديد الكثافة والثقل. مناهج يجد المعلمون أصلاً، وقبل تطبيق الآليات الجديدة صعوبة كبيرة في إنجازها ضمن الوقت المحدد.

ثالثاً: المتابعة الفردية للطلبة، وما يترتب عليها من أعمال كتابية هائلة، هي أعباء إضافية أُلقيت على كواهل المعلمين، ومنطقياً، فإن ذلك كان يجب أن يرتبط بمحفّزات، ولكنه على العكس ارتبط بمثبّطات؛ فقد تزامن تطبيق هذا النظام مع فترة تشهد تآكلاً مستمراً لرواتب الموظفين، ومن بينهم المعلمين، ولم يكن منطقيا بالتالي مضاعفة أعبائهم في وقت تتناقص فيه دافعيتهم لإنجاز ما لديهم أصلاً.

الكلام عن التعليم بدلاً من التعليم نفسه

ألزمت الوزارة معلّميها بتطبيق هذه الآليات. ولتتأكد من أنهم يفعلون، فهي تلزم مدراء المدارس بجمع الأوراق التي دوّنوا عليها تقييمات الطلبة، وتكلّف المشرفين بالتأكّد من أن مدراء المدارس قد جمعوها. وفي مشهد بالغ العبثية، تُرحّل رزم الأوراق هذه من المعلمين إلى المدراء إلى المشرفين، دون أن يكلف أحد نفسه التأكد من مصداقيتها.

وأثناء هذا كله، لم تفعل الوزارة ما تفعله “المؤسسات” التي تراجع بشكل دائم إجراءاتها المطبقة على الأرض، لتتخذ على أساس هذه المراجعة قرار الاستمرار فيها، تعديلها، أو استبدالها بأخرى.

هذا لم يحدث، فالوزارة لم تذهب إلى الصفوف لترى انعكاس تطبيق الآليات الجديدة على تحصيل التلاميذ، واكتفت بالأوراق التي التي دوّن فيها المعلمون نتائج رصدهم لأداء التلاميذ، وذلك كدليل وحيد على أنهم طبّقوها ونجحوا فيها.

أمر كهذا قسم المعلمين إلى قسمين:

معلمين ملتزمين واصلوا التدريس والتقييم بالطرق التي يعرفونها، وأضافوا إليها المهمات الكتابية الجديدة كإجراء شكلي محض هدفه التخلّص من “زنّ” مدراء المدارس، وهذا نوع أعرف جيدا أن دافعيته ومستوى أدائه قد انخفضا بسبب الأعباء العبثية الجديدة.

والنوع الآخر، هم المعلمون الذين اكتفوا بتحبير وتسليم نماذج شكلية لرصد نتائج الطلبة دون أن يقوموا بأي تدريس فعلي. أي أنهم قدموا لوزارتهم كل ما طلبته: الكلام عن التعليم بدلاً من التعليم نفسه.

في الحقيقة، فإن هذه الأوراق هي الدليل الوحيد على أن هؤلاء المعلمين قد قاموا بالتعليم أصلاً، ذلك أن وزارة التربية لا تملك أي نظام متابعة حقيقي يمكّنها من قياس تحصيل التلاميذ، فباسثناء زيارة أو زيارتين على الأكثر يقوم بهما المشرف التربوي للمعلم في كل عام، و”كبسات” متفرقة لمدير أو مديرة المدرسة على الصفوف، يكون هدفها في مدارس الذكور التأكّد من أن المعلم يضبط صفه، وفي مدارس الإناث أن المعلمة واقفة وتتكلم، باستثناء ذلك، فإن أحداً لا يدخل إلى الصفوف ليعرف إن كان هؤلاء التلاميذ قد تعلموا شيئاً، فالمعلم هو من يدرّس (أولا يدرّس)، وهو من يضع الامتحانات، ويرصد العلامات، ولا أحد على الإطلاق يأتي من بعده ليتأكد من مطابقتها لمستويات التلاميذ. وعندما يشكو أولياء الأمور من أن أبناءهم لا يتعلمون شيئاً، يجيب المعلمون بأن “القواريط” هم من لا يريدون أن يتعلموا.

pull quote_arabicيحدث هذا في وقت لا تملك فيه الوزارة آلية حقيقية للمساءلة. نعم هناك تعليمات مكتوبة، ولكنها غائبة في التطبيق، فمهما بلغ سوء أدائك كمعلم، فإن أحداً لن يجرؤ على “قطع رزقك”، وستظل على رأس عملك، تتقاضى راتبك كاملاً، وتحظى بزياداتك السنوية، وبترفيعاتك التلقائية (يترفّع المعلمون السيئون تلقائياً على سلم الدرجات، كما يترفع تلاميذهم الراسبون تلقائيا في الصفوف).

الضعف الخطير في مهارات أساسية في القراءة والكتابة والحساب، وتزايد أعداد الأميين في صفوف متقدمة مثل التاسع والعاشر وحتى الثانوي، هو إعلان صريح عن فشل الأساليب التربوية المتبعة، لكن وزارة التربية تغمض العيون وتصمّ الآذان.

ولا يعني ذلك بالطبع أن الأمور قبل خطط التطوير هذه كان تسير على ما يرام. لأن التوسع الأفقي الهائل وغير المدروس في إنشاء المدارس، وضخ الجامعات لنوعيات رديئة من معلمين يتم تعيينهم غيابياً ودون أي آلية لتقييمهم قبل توظيفهم، والتآكل المستمر للرواتب كان سيوصلنا إلى هنا، ولكنني أزعم أن الطريقة التي أُديرت بها عملية التطوير التربوي خلال العشر سنوات الماضية ساهمت بشكل أساسي في تحويل التراجع إلى انهيار، وإلا من يتذكّر أنه كان هناك أساتذة جامعيون يشكون من أن الجامعات باتت تستقبل طلبة لا يعرفون الكتابة؟

[email protected]

 الصور لطلبة من الصفين التاسع والعاشر كانوا جزءاً من مسح عشوائي قامت به الكاتبة في إطار تحقيق أجري للغد

الصور لطلبة من الصفين التاسع والعاشر كانوا جزءاً من مسح عشوائي قامت به الكاتبة في إطار تحقيق أجري للغد

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية