المؤقت والدائم

الإثنين 29 نيسان 2013

بقلم بسمة عبدالله عريقات

(اللوحة للفنان باسل عريقات)

المؤقت والدائم، مفهومان موجودان في حياة الإنسان بشكل متواز ومتقابل. يتعلقان بالوقت والفعل ويتداخلان في الأحداث الحياتية بطريقة سطحية من الناحية الظاهرية، لكن عميقة من الناحية الفعلية. لكل منهما تأثير كبير على كيفية قيادة الإنسان لأفعالة وتقييمه لها ولنفسه ولمحيطه. الفرق بين المؤقت والدائم يكتسب أبعاداً انطولوجية زمنية مكانية. ومن خلال دراسة هذه الأبعاد للمفهومين نجد أنهما يكتسبان بعداً رابعاً وهو بعد أخلاقي.

ما بدأ هذه الدراسة هو قراءتي لبعض الكتابات التي أثارت في نفسي الكثير من الهواجس عن ماهية هذين المفهومين وكيف يتقاطعان في الحياة. منها مشروع أدونيس للثابت والمتحول، وتحليلات المفكران الفرنسيان دولوز وجواتاري  عن مفاهيم الفراغ والزمن، وفلسفة دريدا التفكيكية عن المتغير والمتبدل. وجدت في هذه القراءات الكثير من الأبعاد المثيرة والتي تتمحور حول قضية المؤقت والدائم. مع أنه من الصعب تبسيط هذه المفاهيم وربطها في سياق مختصر، إلا أنني سأحاول تتبع بعض جوانبها للوصول إلى خلاصة نقدية للمجتمع المحلي.

من الناحية الأنطولوجية، يكتسب الدائم صفة القوة والثبات. فهو جامد وقاس وله خصائص محددة ومعرفة. يدعونا الدائم إلى الالتزام وإعطاء الوعود ويتوقع منا أن نكون بنفس الدرجة من القوة والعزيمة. يولد بالمقابل خوفاً وقلقاً من الالتزام ويضعنا في خانة قد نضطر فيها إلى اتخاذ قرارات تبقى معنا إلى نهاية حياتنا. الدائم موجود، وهو موجود بسبب قبولنا له كدائم وبسبب اعترافنا بأهميته للدوام. أما المؤقت فهو متغير ومتحرك. إنه سائل وطري ومراوغ ويكتسب وجوده من قدرته على الإفلات من التعريف والتحديد. يولد لدينا قلقاُ من الزوال لكنه بنفس الوقت يحررنا من قلق الالتزام. المؤقت غير موجود لأننا نرفض الاعتراف بوجوده بشكل دائم فهو متحول باستمرار وبذلك يعطينا حرية الوجود أو عدمه.

من الناحية الزمانية والمكانية، فالدائم يتصف بالمكانية والمؤقت بالزمنية. فالدائم مثبت الوجود ولا بد من أن يأخذ حيزاً من المكان. وبذلك علينا الاعتراف بوجوده والتحرك حوله لأنه ثابت لا يتحرك. قد يكون له نقطة بداية نعتز ونحتفل بها لكنه لا يملك نقطة نهاية أو على الأقل ليست واحدة نود الاعتراف بها. للدائم علاقة خطية بالزمن حيث يسير الثاني بخط متواز مع الحيز المكاني للدائم ويعتبر جزءاً مكملاً له وظيفته تسجيل دائميته وتثبيت قوته ومكانه. أما المؤقت فيكتسب صفة زمانية بشكل رئيسي وموقعه المكاني متغير ومتبدل. نقطة البداية للمؤقت غير مهمة وعادة تتصف بصفة سلبية كحالة طارئة أو ظرف غير معتاد، أما ما ننتظره هو لحظة النهاية والتي عادة ما تكون محددة ومعرفة. يتحرك المؤقت في المكان ولا يملك حيزاُ ثابتاً لكي لا يتمكن من البقاء. يتواجد بشكل متفتت ومتوزع ويتملص من أية محاولة للتجميع. علاقته بالزمان علاقة غير خطية تنتشر على فترات وأماكن مختلفة ويظهر ويختفي بشكل غير منتظم أو قابل للتوقع.

نواجه في حياتنا اليومية الكثير من المواقف والقرارات التي تتحرك في حيز الدائم والمؤقت. وتعاملنا معها على أساس دائم أو مؤقت يعتمد على نظرتنا الأنطولوجية المكانية الزمانية لها حسب ما سبق. فالقرارات الدائمة تحتاج إلى تفكير عميق ودراسات ممحصة وموارد مخصصة. لكن بمجرد إعطائنا أية موقف صفة المؤقت، نجد أننا نتعامل معه بسهولة وبساطة وننجزه بخفة وبدون قلق أو تفكير. وينتج عن ذلك أن العمل أو الموقف الدائم يكون عادة قليل الكمية بسبب صعوبته لكنه عالي النوعية بسبب اهتمامنا به. أما المؤقت فهو كثير الكمية بسبب بساطته وسهولته لكنه منخفض الجودة والنوعية بسبب قلة الجهد الذي يبذل في سبيله. ونجد أننا نصنف الدائم والمؤقت في خانات أخلاقية حسب قيمة العمل. فيكتسب الدائم صفة الخير والكمال والمؤقت صفة الشر والنقص. ولا نكتفي بذلك، بل نبرر تقبلنا لبعض الأعمال غير الأخلاقية بأنها مؤقتة ونبرر تباطؤنا عن بعض الواجبات بحجة دوامها وحاجتنا للتفكير قبل القيام بها. فنحن نفكر جيداً وقد نتردد في اتخاذ أية قرار دائم مثل مستقبل العمل أو الزواج أو الإنجاب، لكننا لا نتردد في أخذ القرارات المؤقتة لأنها قابلة للإزالة مثل أن نركن السيارة في مكان ممنوع أو يعيق حركة الآخرين أو أن نقبل بمنتوج سيء الصنع لأنه مؤقت. لكن المعضلة الأساسية هي تحديد وقت انتهاء المؤقت وتحوله إلى حيز دائم. فبسبب سهولة المؤقت وصعوبة الدائم تعامل معظم جوانب حياتنا كمؤقتة وتتحول إلى دائمة خارج وعينا وإرادتنا. ونجد بعد زمن أننا نعيش في الكثير من التناقضات والمخالفات الأخلاقية بذريعة الزوال وبنية الإصلاح في يوم ما. فأعمالنا تتسم بالضعف لأنها ليست المنتج النهائي، وشوارعنا سيئة الذكر لوجود نية لإصلاحها في يوم ما، وتعاملنا مع العامة مسيء لأننا لا نعتقد بدوام علاقتنا مع الآخر الغريب، وعالمنا منخفض الجودة لأننا نعتقد بزواله ودوام الآخرة. وبالمقابل، ومع أننا نتجنب مواجهة الدائم الباقي لأنه يدعو إلى العمل والالتزام، إلا أنه عندما يمسك بنا في النهاية نتفانى في خدمته وصنعه إلى أن يصل إلى حالة من التقديس مثل القيم المجتمعية الركيزة أو الشبكات العائلية التي تحكم تعاملاتنا أو المعتقدات الروحانية الأزلية. فنبالغ في دوام الدائم وفي زوال المؤقت دون أن ندرك مدى ترابط وتقارب المفهومين.

ففي عالم متغير ومتبدل بشكل متسارع، يصبح الدائم حالة مستحيلة وهدفاً غير قابل للتحقيق.فإذا نظرنا إلى ما حولنا سنرى أننا أصبحنا نفضل المؤقت بسبب قلة الوقت وشح الموارد وسرعة التغير وأصبحنا نجد في الدائم عائقاً والتزاماً وحتى ضياعاً للوقت والموارد. نفضل شراء البضائع الرخيصة وتبديلها بسرعة على الاستثمار في مشروع طويل الأمد لا ندري كيف سيكون مستقبله، ونخشى الالتزام  بأيديولوجيات أو ومعتقدات ثابتة لأنها قد تنقلب ضدنا في أي وقت. في الواقع الحقيقي المعاصر يكتسب المؤقت صفة الحليف الخير المرن، والدائم صفة السلطوية الطاغية غير المأمونة. يتحول التقديس الأبدي إلى خضوع، والثبات والاستقرار إلى عوائق والتفاني إلى عبودية لمجتمع لا يقبل الاختلاف ولا التغيير ولقوانين عائلية كابتة ولمعتقدات تلغي وجود الآخر. وفي هذا العالم يصبح المؤقت حرية لقدرته على الانتقال والتحرك والتغير. وتصبح قدرته على المراوغة مهارة لكسر القيود الكابتة، وقدرته على الطفو في المكان والزمان وسيلة اتصال وتبادل بين المجتمعات والأفراد المختلفين والمتغيرين.

لكن تفضيلنا للمؤقت من ناحية عملية لا يلغي أفضلية الدائم من حيث الجودة والنوعية. فإذا استمر تعاملنا مع المؤقت على أنه زائل فلن يمكنه الترفع إلى جودة عالية أبداً وسنبقى عالقين في دوامة من الهبوط النوعي بكل جوانب حياتنا. فكيف يمكننا أن نعطي المؤقت صفة الدائم الأنطولوجية لكن بإبقاء زمنيته؟ وبعد أن أدركنا أننا في حالة دائمة من التنقل والتغير، هل يمكن لمجتمعنا أن يعيد النظر في منظومته الفكرية بحيث يصبح كل شيء ثابت بشكل متحول؟ هل يمكننا أن نصنع كل شيء كأنه سيبقى للأبد لكن بقدرة على تغييره فوراً إذا ما انتهى وقته؟ هل يمكننا أن نتحلى بأخلاق حياتية وروحانية ومهنية ترى الخير في التغيير؟ هل يمكننا استبدال المؤقت الدائم، بالدائم المؤقت؟

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية