حلم السلتي: “كثرة لا تتناهى عـــدداً قد طوتها وحدة الواحد طي”

الإثنين 12 آب 2013

لا أنوي أن أكون متصوفاً في تدوينتي هذه، فلقد مضى الوقت وفيض المشاعر الذي كان يدفعني الى اللجوء الى التصوف والمتصوفة بحثاً عن تسكين الالم والمشاعر. لكن الرواية التي انتهيت من قراءتها، للمرة الثانية، رغم طولها، 540 صفحة من القطع المتوسط، لا تخلو من التصوف، سواء في شخصيتها، بطلها الرئيسي، أو في بعض أحداثها.

لكنه تصوف من نوع مختلف، تصوف في جانب يراد له إبراز “التعدد” أو “الكثرة” التي تنطوي عليها شخصية “بطل” الرواية. وتصوف “الأبطال” وصناعة “الشهداء” في الايديولوجيات “الوطنية”.

بدون إطالة، أنا هنا أتحدث عن رواية “حلم السلتي”، للروائي البيروي ماريو فارغس يوسا، الحائز على جائزة نوبل للادآب، وهي روايته الاخيرة، على أي حال.

يستند يوسا في أغلب أعماله، إن لم يكن جميعها، إلى التاريخ، لكن هذه الرواية تكاد تكون كتاباً في التاريخ اكثر مما هي رواية،  رغم حضور المتخيل. وما التاريخ الا سلسلة أساطير وتخاريف حوّلها البعض الى عِلم.

السياق التاريخي

مع نهايات القرن التاسع عشر ستكون إفريقيا ككل ومنطقة “الأمازون” جنوب أميركا اللاتينية مكانا لأبشع عملية استغلال استعمارية عرفها التاريخ. وسوف تسهل الاكتشافات العلمية الحديثة آنذاك، وتطور وسائل النقل البحري والنهري عملية استعمار بلدان الجنوب من قبل دول اوروبية.

وستشهد الدول الاوروبية نهضة صناعية كبيرة تستلزم مواداً خام. إنها المرحلة التي عرفت بفقاعة المطاط، أو فورة المطاط، الذي كان يدخل في صناعة أكثر من الف منتج. وكان المطاط الطبيعي قد اكتشف في إفريقيا ومنطقة الامازون قبل ان يتم نقل زراعته الى آسيا وقبل أن يخترع المطاط الصناعي.

في مؤتمر برلين عام 1885 تتوزع الدول الاوربية بلداناً من “العالم الثالث”، وتهدى “الكونغو البلجيكية” إلى امبراطور بلجيكا ليوبولد الثاني لتصبح “ملكية خاصة” له. والكونغو كانت مساحتها تزيد اكثر من 80 مرة على مساحة بلجيكا، وكان عدد سكانها عندما اهديت الى ليوبولد الثاني يقدر بنحو 20 مليون نسمة، لينخفض الى 10 مليون مع استقلالها عام 1960 بفعل عمليات القتل والإبادة والاسترقاق.

كان التنافس على أشدّه بين الامبراطوريتين البريطانية والبلجيكية على استخراج المطاط، قبل ان يأفل نجم بلجيكا لصالح قوى استعمارية اخرى.

سمحت هذه الامبراطوريات لنفسها بتسويق استعمارها واستغلالها البشع لهذه المناطق تحت ستار ادخال “المسيحية والحضارة والتمدن” لهذه البلدان، لكن ما جرى على ارض الواقع أن الاستعمار دمر هذه البلدان وبيئاتها الطبيعية ونهب مواردها وقتل وأباد واسترق الملايين من سكانها الاصليين، وحرمها في النهاية من التطور الطبيعي، ولا تزال اثار هذا الاستغلال البشع ماثلة لليوم، لا سيما وان عملية استخراج الثروات الطبيعية لم تكن عملية محض “تقنية” بل كانت “ثقافية” أيضاً.

Roger Casementالتاريخ و”التاريخ المتخيل”

روجر كسمنت، مواطن بريطاني من أصل ايرلندي، كان يعمل في افريقيا موظفاً في شركة بريد ونقل، يتم اختياره من قبل الحكومة البريطانية للتحقيق في “مزاعم” بدأت تظهر في الصحافة البريطانية عن عمليات الاستغلال والابادة الوحشية البلجيكية في الكونغو.

يسافر كسمنت الى الكونغو ضمن بعثة وهناك يشاهد بأم عينه فظائع الاستعمار والدمار الذي لحق بالكونغو وناسها وبئيتها والوحشية التي تتم ممارستها على السكان لأجل استخراج المطاط.

في نهاية بعثته يكتب كسمنت تحقيقه في كتاب صار يعرف لاحقاً ب”التقرير حول الكونغو”، ويثير ردود فعل كبيرة في لندن. سيعتبر هذا الكتاب لاحقاً من أول الكتب التي بلورت مفهوم “حقوق الانسان”.

التقرير حول الكونغو، على رغم براءة كسمنت في كتابته، سيكون جزءً من التنافس الاستعماري بين بريطانيا وبلجيكا.

لاحقاً سوف تظهر مزاعم حول عمليات استغلال أبشع تقوم بها شركات بريطانية او مسجلة في بريطانيا، وخاصة شركة الامازون البيروية “البريطانية”، لسكان منطقة الامازون وتحديدا في البيرو حيث كان المطاط من نوعية أفضل متوفراً بكثرة في هذا البلد.

يكلف كسمنت مرة أخرى بالذهاب الى البيرو، أو منطقة الامازون فيها، للتحقيق في هذه المزاعم، وهناك أيضاً يشاهد بأم عينه فظائع الاستعمار، ويكتب تحقيقه “تقرير حول بوتو مايو” او “الكتاب الازرق” وسيثير ضجة أيضاً وستتدخل الولايات المتحدة التي بدأت تمد نفوذها الى اميركا اللاتينية وتعتبرها “حديقتها الخلفية”. ستنتهي شركة الامازون هذه وتتوقف عملياتها لاستخراج المطاط بفعل تقرير كسمنت وتدخّل أميركا وانتقال زراعة المطاط الى آسيا.

روجر كسمنت، شخصية حقيقية، استند يوسا في كتابته لها على مذكراته المثيرة للجدل المسماة “اليوميات السود”، وهي مثيرة للجدل بسبب التشكيك في صحتها، لكن يوسا ككاتب رواية لا يؤكد ولا ينفي صحتها.

كسمنت شخصية حالمة، متصوفة، متعددة في واحد. ولد من اب وام ايرلنديي الأصل. الأب ضابط في الجيش البريطاني المستعمر لبلاده ايرلندا، بروتستانتي مؤيد لبريطانيا والأم كاثوليكية.

يتعمد كسمنت على يد أبيه علنا كبروتستانتي، لكن أمه تعمّده في الخفاء ككاثوليكي، وتمارس معه ومع إخوته العبادات سراً على الطريقة الكاثوليكية.

يعمل كسمنت مع الحكومة البريطانية، ويحوز لقب “سير”، ويحقق في جرائم الاستعمار في إفريقيا وأميركا اللاتينية.

لكنه في الكونغو سيكتشف واقعه، وتناقضاته، سيكتشف نزعته القومية أو الوطنية الايرلندية. ذهب للكونغو ليكشف عن حقيقة الاستعمار فاكتشف نفسه واكتشف بلاده ايرلندا التي تعاني من المستعمر البريطاني.

في الكونغو سليتقي بالروائي الشهير جوزف كونراد، صاحب رواية “قلب الظلام”، بالمناسبة الرواية اقتبسها المخرج فرنسيس فورد كوبولا للسينما في فيلمه “القيامة الان”، وسيختلف كسمنت مع كونراد حول وحشية الاستعمار. فكونراد كان يرى ان افريقيا اخرجت كل التوحش والشرور في الإنسان الاوروبي، فيما كسمنت سيرى أن اوروبا مارست على افريقيا كل شرورها وفظائعها، وأن الانسان الأوروبي مارس كل الشر الكامن في الإنسان على افريقيا، هذا الرأي يذكر بتحليل ادوارد سعيد لرواية كونراد في كتابه “الامبريالية الثقافية”.

خلال وجوده في الكونغو ولاحقاً في منطقة الأمازون وخلال إجازاته في لندن وباريس سوف يغرق كسمنت في اعادة اكتشاف بلده “ايرلندا” وحضارتها “السلتية” المختلفة على الحضارة والتاريخ البريطاني، وسيتحول الى “وطني ايرلندي متطرف” يطالب باستقلال بلاده.

يذهب كسمنت الى اقصى حدود “التطرف” في وطنيته. فبعد استقالته من العمل الدبلوماسي مع الحكومة البريطانية، بسبب شعوره الوطني المتنامي، لن يتواني عن الانضمام الى صفوف المناضلين المطالبين باستقلال ايرلندا الكامل، ولن يتواني عن السفر الى ألمانيا التي كانت دخلت ضمن دول أخرى في حرب مع بريطانيا أثناء الحرب العالمية الاولى.

في ألمانيا سيطلب كسمنت من حكومتها دعم “انتفاضة الستر”، 1916، التي سيفجرها الاستقلاليون الايرلنديون، بالسلاح، وسوف يشكل “لواء” من جنود بريطانيا من اصل ايرلندي الاسرى لدى المانيا.

لكن هذه الانتفاضة ستفشل لان المانيا لن تتدخل مباشرة لدعمها كما أن شحنة الأسلحة التي أرسلتها غرقت في البحر. وسوف تشن القوات البريطانية هجوما مضاداً تقمع وتعدم وتقتل اغلب قادة الانتفاضة.

البطولة والتصوف

كان أغلب قادة انتفاضة “الستر” يدركون بأنها محكوم عليها بالفشل، وكان كسمنت بالذات يعارض اندلاعها ما لم تتدخل ألمانيا لمساندتها تدخلاً مباشراً. لكن قادة الانتفاضة، وهم يدركون ذلك، أرادوا “الشهادة” على طريقة المسيحيين الأوائل، شهادة سوف تفجر في نظرهم لاحقا الوطنية الإيرلندية، التضحية في سبيل يقظة الأمة الايرلندية. أو كما يقول أحد قادة الانتفاضة، الذي يصفه روجر بانه نسخة معاصرة من المتصوفين البدائيين :”مثلما كانت دماء الشهداء هي بذرة المسيحية، سيكون الوطنيون الايرلنديون هم بذرة حريتنا”.

وحتى كسمنت نفسه الذي عارض الانتفاضة بدون تدخل مباشر وكان متيقناً من فشلها سيتمنى لو كان مشاركاً بها وقتل على أحد متاريسها كبطل وشهيد ينير دمه طريق قومه.

تعدد في واحد

CASEMENT-TRAIL-DUBLIN-1024x688أما روجر كسمنت فسوف يعتقل بعد عودته من المانيا مباشرة، وسيحكم عليه بالاعدام بتهمة “الخيانة العظمى”، ولن يشفع له تاريخه في العمل وفي خدمة بريطانيا ولا تدخل المطالبين بحريته او بتخفيف العقوبة عنه من النجاة من حبل المشنقة.

خلال اعتقاله الذي دام ثلاثة أشهر، سوف تنشر الصحافة البريطانية مقاطع طويلة من مذكراته “اليوميات السود”، التي ضبطتها الاستخبارات البريطانية في منزله أثناء اعتقاله، وسينشر من هذه المذكرات الأجزاء الخاصة بمثليته الجنسية او بالاحرى “شذوذه الجنسي”، اذ كانت المثلية الجنسية تعامل بدون رحمة في الدول الاوروبية آنذاك وتعامل بوصفها شذوذاً اخلاقياً يتنافى والقيم السائدة.

على أي حال، سيعيش روجر كسمنت وحتى لحظة إعدامه في تناقضات داخلية بسبب هذه “الكثرة” او “التعدد” في شخصه “الواحد”.

مواطن خدم التاج البريطاني المستعمر لبلاده، ولاحقا “وطني” ايرلندي متطرف، سيعيش بين حدي “الخيانة”، من وجهة نظر البريطانيين والإيرلنديين البروتسانت المؤيدين لبريطانيا، و”البطولة” من وجهة نظر قومه المؤيدين لاستقلال بلاده.

هو بروتستانتي في العلن وكاثوليكي في السر. وهو رجل “وقور ومحترم وسير” في العلن لكنه مثلي الجنس يجذبه ويشده الفتيان المراهقون خصوصاً ويمارس معهم الجنس في الحمامات العامة والفنادق الرخيصة والحدائق وبأجر مالي. وهو علماني ملحد، لكنه في لحظات الخوف ولحظات القتل والإبادة سيبحث عن الرب، وسوف يضيع بين طائفتيه.

ولأجل كل تناقضاته، وبسبب ما لحق سمعته من “تشوه” بسبب “شذوذه الجنسي”، سوف تمضي سنوات طويلة جداً بعد إعدام روجر كسمنت قبل أن يعترف به شعبه كبطل “قومي” وتنقل رفاته لتدفن من جديد في بلاده.

روجر كسمنت كان “منفياً في الارض” عاش ومات غريباً، كما كان يريد او كما كان قدره، عاش ومات بطلا تراجيدياً كأبطال الاساطير الاغريقية.

الوطنية تعمي البصيرة

الروائي البيروي ماريو فرغاس يوسا بدأ حياته “مناضلاً” في حزب ماركسي تروتسكي متطرف في بلاده البيرو، قبل ان يتحول قبل أعوام ليصبح ليبرالياً داعماً للمحافظين الجدد. وهو لذلك سوف يعالج في روايته هذه مفهوم “الوطنية”.

يميل يوسا الى اعتبار “الوطنية تعمي البصيرة”، وهو يميل بذلك الى رأي الكتاب الكبير جورج برنارد شو، الايرلندي، الذي كان يعارض النزعة القومية والتطرف ويعتبر “الوطنية فعل إيمان أعمى”. خاصة عندما تتحول هذه الوطنية الى “ايديولوجيا” تفقد الانسان القدرة على رؤية الامور بشكل متعدد وتغرقه في رؤية احادية “إما أبيض أو أسود”. وتدفعه الى ممارسات سياسية ومغامرات كالانتفاضة التي أخرت عملياً استقلال ايرلندا، رغم انها ساهمت في إيقاظ الشعور الوطني.

بالمناسبة، لن تكون شخصية روجر كسمنت هي الشخصية الايرلندية الوحيدة التي ستكون موضوع خلاف وجدل في تاريخ ايرلندا وبين ابناء شعبه. ولن يكون وضعه الخاص الذي أشرت اليه سابقا  هو ما اثار الجدل وحسب. فالوطنية بوصفها “تعمي البصيرة” سوف تقتل او تغتال لاحقا احد اهم شخصيات ايرلندا، مايكل كولينز، الذي خلدت ذكراه السينما بفيلم حمل اسمه، وقد ادى دوره الممثل ليام نيسين، ولعبت فيه الحلوة جوليا روبرتس دور حبيبته.

مايكل كولينز كان مؤسس “الوحدة الخاصة” في الجيش الجمهوري الايرلندي السري، الوحدة المسؤلة فعلياً عن كل عمليات العنف في المدن البريطانية أو الإيرلندية المؤيدة لبريطانيا مثل بلفاست.

لكن كولينز سيصل إلى نتيجة لاحقاً بأن “العنف يستدرج العنف” وسوف يدخل في مفاوضات مع بريطانيا، ويوقع معها اتفاقا لن يرضي “الوطنيين المتطرفين” من أبناء قومه الذين سوف يغتالونه وبتهمة الخيانة العظمى ايضاً.

إنها: النزعة الوطنية عندما تتحول الى ديانة وتصبح في “حالة نزاع مع البصيرة، انها ظلامية بحتة، فعل ايمان”، بحسب تعبير برنارد شو.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية