الاسلام والثراء الفاحش: مأزق الاقتصاد الإسلامي

الخميس 26 أيلول 2013

بقلم محمد عمر

هل يمتلك الإسلام والمسلمون “نمطا” اقتصاديا خاصا يختلف عن الأنماط الاقتصادية الموجودة حاليا، الرأسمالية والاشتراكية؟ وهل قدم الإسلام فكرا اقتصاديا منضبطا يتسم بالتماسك والتحليل العلمي؟ وهل “الاقتصاد الإسلامي”، كما يرى أنصاره قادر فعلاً على حل كافة المشاكل الاقتصادية،  وتحقيق العدالة الاجتماعية للإنسان في الارض؟

نادرة هي الكتب، إن لم تكن معدومة، التي تناقش مفهوم “الاقتصاد الاسلامي” في اللغة العربية، فأغلب النقاش الذي يجري، وتحديدا الان، ينصب على مفهوم “الإسلام السياسي”، مع أن كلا “المفهومين” صاغهما نفس الشخص، أبو الأعلى المودودي، وفي وقت واحد.

في كتابه “الاسلام والثراء الفاحش: مأزق الاقتصادي الاسلامي”، يتناول استاذ الاقتصاد في جامعة ديوك بنيويورك التركي تميور كوران، نشأة مفهوم “الاقتصاد الإسلامي”، ويرى أن هذا المفهوم، مثله مثل “المصارف الاسلامية”، نشأ في الهند في اواسط عشرينيات القرن العشرين على يد ابو الأعلى المودودي، وهو الذي صاغ أيضا مفاهيم “الإسلام السياسي” و”الأيديولوجيا الاسلامية”.

والحال هذه فأن “الاقتصاد الاسلامي” كمفهوم وتطبيقات، و”المصارف الاسلامية” هي “تقليد مخترع”، بحسب وصف المؤرخ اريك هوبزباوم، أي أنها جاءت متأخرة قرون عن ظهور الإسلام نفسه، ومتأثرة كثيرا، أو هي “بدعة” أو تقليد لما هو موجود فعلا في الأنماط الاقتصادية العلمانية.

لكن نشأة هذه المفاهيم، وكل فكر المودودي، لم يأت أيضا نتيجة تطور فكر اقتصادي إسلامي يعبر عن نمط إنتاج خاص، إنما كان تعبيرا عن أزمة الهوية التي كانت تعيشها الهند انذآك، وخاصة الأقلية الإسلامية فيها التي كانت بحاجة إلى تمييز نفسها عن أتباع الديانات الأخرى وإعادة الثقة لنفسها، فكان أن جاء فكر المودودي لمنح المسلمين هذه الثقة عبر القول أن الإسلام ليس دين فقط بل دين ودنيا ولديه إجابات واضحة ونهائية على كل أسئلة الحياة.

كان تعبيرا عن أزمة الهوية التي كانت تعيشها الهند انذآك، وخاصة الأقلية الإسلامية فيها التي كانت بحاجة إلى تمييز نفسها عن أتباع الديانات الأخرى

لاحقا سينبري سيد قطب للكتابة في هذا الشأن في كتابه “العدالة الاجتماعية”، الذي حملته عن الإنترنت وانتهيت من قراءته. كما سيكتب أيضا العراقي محمد باقر الصدر.

عندما يعود الإنسان إلى القراءة في تاريخ الفكر الاقتصادي، وقد قرأت كتابين بهذا الصدد: “دليل الرجل العادي الى تاريخ الفكر الاقتصادي”، لحازم ببلاوي، رئيس وزراء مصر حاليا. وكتاب “تاريخ الفكر الاقتصادي” لجون كنت غالبريت، لن يجد في هذه الكتب أي ذكر لفكر اقتصادي إسلامي.

حازم ببلاوي يشير في بضعة صفحات الى أفكار ابن خلدون في العمران والسياسية المالية العامة وخلط التجارة بالإمارة. اما غالبريت فلا يشير إلى أية أفكار إسلامية عن الاقتصاد في مراجعته لتاريخ هذا الفكر منذ بداية الحضارة الإنسانية وإلى الآن.

قد يفسر، أو يثبت، هذا التجاهل لـ”الفكر الاقتصادي الإسلامي” ما وصل إليه كوران من أن الإسلام لم يقدم فكرا حقيقا وخاصا، ولا نمط إنتاج خاص.

هذا لا يعني أنه لم يكن للمسلمين إسهامات في الفكر الاقتصادي بالطبع، مثل المقريزي. أو أنه لم يكن للتطبيقات الاسلامية، الاقتصادات الفرعية، مثل المصارف، إسهاما في الاقتصاد. لكنها إسهامات لا ترتقي إلى درجة اعتبار هذه الأفكار فكرا إنما رزمة من “السياسات الاقتصادية الفضفاضة” التي لا تمتلك إطارا ومنهجا علمياً.

أما في التطبيق، فعندما ننظر الآن إلى برامج الجماعات الإسلامية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، وننظر على برامجها الاقتصادية في الدول التي حكمتها أو تشارك أو تشكل حكوماتها لن نجد نمطا اقتصاديا خاصا، بل تمسكا بنهج الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي ووصفات صندوق النقد الدولي بدون أي تعديلات حقيقية على هذا النهج.

على أي حال، يقوم كل مفهوم الاقتصاد الإسلامي على مجموعة سياسات اقتصادية فضفاضة، أي قابلة للتفسير والاختلاف، فالربا مثلا، وهي فكرة مركزية في الاقتصاد الاسلامي، فهي إضافة إلى أنها مرفوضة ومرذولة عند الكثير من المفكّرين مثل أرسطو، الذي رفضها قبل الإسلام بمئات القرون. هي أيضاً مجال اختلاف كبير بين المسلمين أنفسهم فهناك من يرى أنها “محرمة” بالكامل وهناك من يرى أنها محرمة إذا ارتبطت بإلحاق الضرر بالمقترض، وهناك من اعتبر الفائدة البنكية ليست “ربا” مثل مفتي مصر السابق محمد طنطاوي.

في تحليله للمصارف الاسلامية، يخلص كوران إلى أنها لا تختلف كثيراً عن المصارف العلمانية، بل أن أغلبها يعمل بنظام “الفائدة” لكن بحيل مختلفة

في تحليله للمصارف الاسلامية، يخلص كوران إلى أنها لا تختلف كثيراً عن المصارف العلمانية، بل أن أغلبها يعمل بنظام “الفائدة” لكن بحيل مختلفة. وأيضا لا تختلف في طريقة عملها بمفهوم المشاركة في الربح والخسارة “المرابحة” عن طريقة عمل راس المال المغامر Venture Capital، والحال نفسه يجري مع الزكاة أيضا، فهناك خلافات كبيرة على أوجه تحصيل الزكاة وطرق إنفاقها. ناهيك عن أن الزكاة نفسها، وكما ثبت في الواقع، عاجزة عن تحقيق التنمية وإعادة توزيع الثروة، أي تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة. وقد تكون مصدرا أو قد تصبح عرضة للفساد، خاصة من “العاملين عليها” كما حصل في عدة دول تنتهج الزكاة.

يناقش كتاب كوران موضوع الزكاة بتوسع، ويعتمد على إحصاءات ومعطيات من الدول التي تطبق الزكاة.

وسنرى إضافة إلى تغلغل الفساد في موضوع جمع الزكاة في عدة دول، الخلافات الكبيرة بين “الاقتصاديين الإسلاميين” على هذه الفريضة في موضوع مقدارها الذي يتراوح بين 2.5 و 20%. هي عند سيد قطب مثلا 2.5%، فهل هذا المقدار كفيل بإعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية؟

وكذلك الحال في تطبيقها هل هي اختيارية أم إجبارية تفرضها وتجمعها وتوزعها الدولة، كما يحصل في بلدان عدة مثل الباكستان؟ إن فرض الزكاة وجمعها من قبل الدولة مثلا قد يتعارض مع طبيعة المسلم الذي يريد أن يعرف أين تذهب زكاته، والذي يفضل ان تذهب للأقربين بوصفهم أولى بالمعروف، فهل الإلزامية تخالف الشرع وتخالف “طبيعة” الانسان؟ ألا يقتضي فرض الزكاة من الدولة توسيع نطاق الديمقراطية كي يعرف المزكي أين ذهبت أمواله ولمن؟ ألا تذهب الزكاة، مثلاً، إلى مجالات لا تفيد تراكم رأس المال والإنفاق الاستثماري والتنمية مثل تخصيص قسم كبير منها للمساجد والمدارس الدينية في وقت أحوج ما تكون فيه الدول الاسلامية إلى التقدم والتنمية؟ هل تحقق الزكاة في المجمل “المساواة والإنصاف” أم لا؟ وفي حال التعارض أيهما سيختار الاقتصادي الإسلامي المساواة أم الإنصاف؟

هل الزكاة كافية بحد ذاتها أم يجب فرضها إلى جانب الضرائب؟ ما موقف الاقتصاديين الإسلاميين من الضريبة؟

هناك من يرى ان الزكاة وحدها ما يجب أن يدفعه المسلم، وهناك من يعتقد ان الزكاة يجب أن تكون الى جانب الضريبة، ومنهم من يقف مع الضريبة النسبية ويعتبر الضريبة التصاعدية “انتقام” من الناجحين أصحاب الثروات ومنهم من يعتقد بخلاف ذلك.

ونفس الخلافات تجري مع رؤية الاقتصاديين الإسلاميين للملكية الخاصة والصدقة والوقف …الخ

وأبعد من الخلافات هذه الناتجة أساسا عن اعتماد الاقتصاديين الإسلاميين على بضعة نصوص قرآنية، (القرآن لم يول الاقتصاد أهمية كبيرة فأقل من ثلث من واحد من مائة من آياته تتناول هذا الشأن)، فإن هذا الاقتصاد يعتمد أيضا على فترة زمنية لا تزيد عن 39 عاما، هي عصر الرسول والخلفاء الراشدين، التي يعتبرها هؤلاء عصرا ذهبيا للاقتصاد الإسلامي، مع كل الملاحظات التي يمكن أن تسجل على هذا العصر الذهبي، وإن كان أصلا قد شهد “اقتصادا” بالمعني العلمي.

وإجمالا فإن النصوص القرآنية، أو الأحاديث النبوية، وهي مختلف عليها، هي مجموعة أفكار قيمية وأخلاقية عامة لا ترتقي إلى مستوى تقديم بديل اقتصادي عن الاقتصاد العلماني قد تنفع البعض في إضفاء طابع ديني على برامجهم او مصالحهم.

في كتابه “العدالة الاجتماعية” يرى سيد قطب أن نظام الإرث في الإسلام إضافة الى الزكاة والقيود على الملكية الخاصة والتربية الاسلامية ستحقق العدالة في الاسلام عبر منع تراكم الثروة في يد البعض. لكن لنفس هذا السبب يرى كوران، محقا، أن تفتيت الملكيات الزراعية، التي تمنع تراكم رأس المال، إضافة إلى نظام الوقف في الإسلام وفردانية الاسلام ككل كانت ولا تزال أهم عقبات تطور الدول الاسلامية.

يبدو أن قطب أراد أن يقدم للمسلمين ما قدمه أبو الأعلى المودودي، وهو منحهم مزيد من الثقة بأن لديهم كل الأجوبة عن أسئلة الحياة

أريد أن أشير هنا إلى كتاب سيد قطب، العدالة الاجتماعية. من الواضح أن قطب أنتج عمله هذا في أربعينيات القرن العشرين عندما كانت الأفكار الاشتراكية، ودولة الرفاه في أوج صعودها. ويبدو أن قطب أراد أن يقدم للمسلمين ما قدمه أبو الأعلى المودودي، وهو منحهم مزيد من الثقة بأن لديهم كل الأجوبة عن أسئلة الحياة، وأن المسلمين يمتلكون منهجا مختلفا عن الجميع. لكن يبدو قطب في كتابه متأثرا بالأفكار الاشتراكية، فهو يميل إلى تقييد الملكية الخاصة بشدة، خلافاً للكثير من الفقهاء بل أنه يتحدث عن المصادرة والتأميم، وإن كان لا يذكرهما بالاسم، ويميل إلى فرض زكاة أعلى كثيراً من المقدار، قد تصل إلى حد المصادرة في حالات خاصة لم يذكرها.

على اي حال، فان كتاب كوران يرد بشكل تفصيلي على مجمل أطروحة العدالة الاجتماعية في الإسلام وكذلك آلية الورث والوقف، باعتبارها معوقات للتنمية وتحقيق العدالة.

أخيرا من قراءتي لكتاب كوران، وكتب أخرى في الاقتصاد الإسلامي خلصت إلى بعض الاستنتاجات:

– تستند الافكار الاقتصادية الاسلامية الى مجموعة “وصايا” أخلاقية وتربوية لا تختلف كثيرا، بل هي ترجمة لأفكار ارسطو الاقتصادية خاصة في مفاهيم الربا والسعر العادل والاجر العادل.

– تستند الافكار الاقتصادية الإسلامية إلى مجموعة بسيطة من النصوص القرآنية تجعلها عرضة للتأويل والتفسير والاختلاف شأنها شأن أي أمر آخر، ما يمنع تشكل فكر اقتصادي أو علم اقتصاد إسلامي خاص.

– باستناد هذه الافكار إلى نصوص قرآنية وإلى مرحلة تاريخية “سلفية” لا يقدم الاقتصاد الإسلامي إجابات على الكثير من معضلات الاقتصاد المعاصر، ناهيك عن أن بعض أفكاره تتعارض مع “طبيعة” الإنسان.

– الاقتصاد الإسلامي يساهم في زيادة “الانفصالية الثقافية” للمسلمين عن غيرهم من الجماعات والدول، وقد يشجع على تمويل وتشجيع الإسلام السياسي والأصولية الإسلامية أكثر من كونه فكر علمي ينشد نمط إنتاج اقتصادي خاص.

– قد تكون هناك اقتصادات فرعية ناجحة للمسلمين، وقد يكون الثري أو رجل الأعمال أو رب العمل الإسلامي ناجحا، يتقي الله في أعماله لا يغش ولا يسرق ولا يأكل حق العامل، لكن لا يوجد اقتصاد إسلامي مترابط يشكل بديل عن الاقتصادات العلمانية. والحال هنا مثل السياسية فقد يستطيع الإسلام خلق دولة مسلمين ولكن ليس دولة إسلامية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية