اسرائيل في عالم متغير: “العدو الديالكتيكي”

الإثنين 02 أيلول 2013

كان الباحث الفلسطيني ماهر الشريف لاحظ ذات مرة، محقاً، أن الانشغال الفكري العربي بقضية فلسطين، وهذا يشمل إسرائيل طبعاً، قد تراجع خلال العقدين الاخيرين من القرن العشرين. ولا يزال هذا التراجع مستمراً، فقد احتلت قضايا أخرى اهتمام الباحثين والمفكرين العرب كالدولة والديمقراطية والمواطنة والأصولية والتراث والحداثة..الخ، ففي العالم العربي ما يكفيه من المشاكل والتعقيدات إن لم تكن أكبر فهي لاتقل أهمية عن قضية الصراع العربي الاسرائيلي.

وخارج هذا السياق تأتي بضعة كتب، منها كتاب “تحولات اسرائيل في عالم متغير”، للباحث ماجد كيالي، والصادر مؤخراً لدى منشورات مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية.

وصف المفكر محمد أركون الإسلام السياسي، او الأصولية السياسية الإسلامية بـ”العدو الديالكتيكي” بالنسبة للغرب. فهذا الغرب بقدر ما يكافح ضد هذا العدو، هو في حاجة له أيضاً، ربما لتعويض غياب “شبح الشيوعية”، وفي المقابل فان هذه الأصولية تتغذى على الغرب، على استمعاريته وعنصريته…الخ.

الأنظمة العربية كانت دائما بحاجة إسرائيل، رغم عدائية هذه لها، لتغذية استبدادها. فيما لا تقل حاجة اسرائيل للأنظمة العربية لتغذية “أساطيرها المؤسسية” 

والحال، فإن العلاقة بين العرب واسرائيل هي علاقة صراعية مع “عدو ديالكتيكي” أيضاً. فالأنظمة العربية كانت دائما بحاجة إسرائيل، رغم عدائية هذه لها، لتغذية استبدادها. فيما لا تقل حاجة اسرائيل للأنظمة العربية لتغذية “أساطيرها المؤسسية” أو الجارية الآن.

لكن اسرائيل ليست مجرد عدو ديالكتيكي إزاء “الخارج” أو “الآخر” فهي أيضاً حالة شديدة من التعقيدات والتناقضات، النجاحات والإخفاقات، هي أيضاً حالة ديالكتيكية بذاتها ولذاتها. وهذا استنتاج شخصي خرجت به وأنا أقرأ كتاب كيالي.

هنا محاولة قراءة، أو بالاحرى انطباعاتي الشخصية، في الكتاب الذي أنهيته أمس:

بعد مرور أكثر من 65 عاماً على قيامها، ظلت اسرائيل “عصية” على الفهم، رغم كل الدراسات والدعوات “نحو فهم أعمق وأدق” لاسرائيل.

وظلت “التصورات” حولها تدور بين من يصفها بالدولة المصطنعة، وهي كذلك، تعتمد على تفوقها التكنولوجي والعسكري، وعلاقاتها الاستراتيجية بالولايات المتحدة وحجم الدعم والمساعدات الغربية لها، وبين من يبالغ في قدراتها لدرجة “أسطرتها”.

ومع هذا لا يخفى أن كلا التصورين يتعامل مع اسرائيل كظاهرة استاتيكية جامدة خارج الحركة والتغير والتغيير وخارج الزمان والمكان، وخارج ذاتها، وكما لو كانت علاقاتها بـ”الخارج” عاملاً معزولاً وليست جزءاً من الظاهرة ذاتها.

وهكذا جرى التعامل معها كما لو لم تكن ظاهرة اجتماعية اقتصادية سياسية، في الأول والأخير، لها ما لها من الميزات الذاتية، التي ساعدت على “تطورها”، ونقلتها من النشأة المصطنعة، الأيديولوجية الصهيونية، التي ظهرت قبل “الدولة” وخارجها، إلى واقع الدولة الحديثة التي استغلت ميزاتها الذاتية هذه لتسبق في تطورها الكثير من دول المنطقة التي سبقتها أو زامنتها في النشأة.

فإسرائيل ليست فقط محصلة التفوق العسكري والتكنولوجي والمساعدات والحماية الاميركية والغربية، بل أضافت إليها ميزاتها الفردية من، اولاً: طبيعة نظامها السياسي المتسم بمشاركة سياسية واسعة جنّبت “اليهودي الاسرائيلي” الاغتراب عن حكوماتها، وأبقته في اطار السياسة والمشاركة.

وثانياً: قدرتها على إدارة واستغلال مواردها البشرية التي وضعتها في مصاف الدول المتقدمة. فاسرائيل محدودة الموارد والسكان حققت ما لم تحققه أي دولة عربية بعمرها أو أكبر منها، فقد استطاعت أن تضاعف عدد سكانها اليهود بعد 64 سنة تسع مرات من حوالي 700 ألف عام 1948 الى حوالي ستة ملايين عام 2012. وضاعفت قدرتها التصديرية 11 الف مرة من ستة ملايين عام 1948 الى حوالي 70 مليار دولار عام 2011. وضاعفت ناتجها الإجمالي حوالي 120 مرة من ملياري دولار الى حوالي 242 مليار وزاد دخل الفرد من 1132 دولار عام 1962 الى نحو 31 الف دولار. وتنفق حوالي 4.8 بالمئة من ناتجها المحلي على البحث العلمي وتكاد تخلو من البطالة.

وثالثاً: إرادة الإجماع لديها على “ثوابت” مثل يهودية الدولة والتفوق والاستيطان والتقدمات الاجتماعية والشأن الفلسطيني والعربي، هذه الشؤون وغيرها التي لا يقرر فيها بشكل حاسم حزب لوحده أو أغلبية برلمانية بسيطة أو كبيرة.

ورابعاً وحدتها او توحدها ازاء اي خطر خارجي يتهددها أو يتهدد وجودها.

هذه الميزات الفردية التي أضافتها إسرائيل الى ما سبق أتاحت لها ليس فقط التحول من دولة مصطنعة إلى دولة متقدمة، ومجتمع يبدو أكثر تماسكاً من كثير من مجتمعات المنطقة، بل وضعها في مقدمة دول المنطقة ومجتمعاتها.

لكن كل هذا لا يعني أن الصورة وردية بالنسبة لها، فهي تعاني أيضاً من تعقيدات وتناقضات وعلاقات صراعية “داخلية” و”خارجية”، تضعها أمام قلق وجودي مستمر، واستحقاقات وأسئلة، ربما حان أوان الإجابة عنها لكنها تتأجل باستمرار.

وهكذا فان الميزات الذاتية لاسرائيل، هي نفسها، إضافة إلى عوامل أخرى، تشكل تضادات وحدتها، وعوامل أو اسباب التغيير الذي جعل من اسرائيل الآن، اسرائيل أخرى، اسرائيل لم تعد ذاتها ولم تعد تلك “الدولة” التي كانتها قبل ست أو خمس عقود.

وبات على اسرائيل أن تعيش في تناقضات بين صهيونية، حركة وايديولوجيا، أسّستها، وساهمت في نموها وتثبيتها، وبين “اسرائيلية” تكاد تحول الصهيونية الى “جثة هامدة”.

كما أنها أمام تناقضات داخلية أخرى، بين أن تكون دولة ديمقراطية لكل مواطنيها أو دولة عنصرية يهودية. وبين أن تكون دولة لليهود الإسرائيليين أو دولة ليهود العالم. بين أن تكون دولة عصرية تحت القانون أو دولة محتلة لشعب آخر، صمد وكافح وأثبت حضوره وأبطل كل مقولات الصهيونية المؤسسة.

وفي هذا التناقض أيضا فان اسرائيل تقف أمام مآل قد يتطور في نهاية الأمر، لأسباب عدة من بينها التركيب الديمغرافي، لتجد نفسها دولة ديمقراطية “ثنائية” القومية، تقبل في النهاية بحل على غرار ما جرى في جنوب افريقيا، ولهذا الحل دعاة موجودون فيها مثل ابرهام بورغ. إنه حلم ولكن لم لا فالدول ليست ذات طبيعة جوهرية أزلية غير قابلة للتغيير والتغير والتبدل.

وبين أن تكون دولة علمانية حديثة أو دولة متدينة، حيث لم يعد الصراع حصراً مع الفلسطينيين، بل أن الصراع على طبيعة الدولة بين علمانييها ومتدينيها يزداد باضطراد، ويزيد معه الطابع الديني لها، ويكاد يحوّلها لإيران ثانية.

واسرائيل كذلك تهتز بشدة بفعل تأثير العولمة التي تكاد تعصف بكل منجزات الدولة وخاصة الطابع “الاشتراكي” الذي كان لها عند التأسيس، وهي تنحو بشكل مضطرد نحو “الأمركة”، ونحو المزيد من الاعتماد على صناعة “هاي تك” متطورة ومعقدة تشكل إحدى الدوافع عند البعض للجنوح لـ”السلم” او الجنوح للانخراط في المنطقة.

وهي أيضا تعيش حالة صراع وتناقض بين كونها دولة موجودة جغرافياً في منطقة الشرق الأوسط، لكنها تعتبر نفسها امتداداً للغرب. وهو تناقض يعمق التباسها والتباس مواقفها تجاه الصراع العربي الاسرائيلي.

وهذ الصراع كان دائما جزءاً أساسياً من تناقضاتها الداخلية، وليس عاملاً خارجياً صرفاً، فهو قد يدفع في حالة انخفاضه، كما هو الحال الان، الى استرخاء المجتمع الاسرائيلي وابتعاده عن القلق الوجودي، وعنايته بواقعه الاقتصادي والاجتماعي المعاش، وقد يدفع أيضاً إلى مزيد من التشدد والتوحد نحو الخارج، أو يدفع البعض الى محاولة البحث الجاد نحو تحقيق تسوية أو سلام ينهي هذا التتاقض مرة وإلى الأبد.

وبمقدار ما قد تشكل الميزات الذاتية لإسرائيل، وتطورها، وما قد تشكله تناقضاتها واستحقاقاتها دافعاً للسلام أو التسوية مع العرب عامة، والفلسطينيين خاصة، بمقدار ما قد تشكل أيضاً عائقاً أمام هذا السلام.

وأمام هذه العلاقات المعقدة، أمام هذه الظاهرة التي تعج بالتناقضات والتعقيدات التي تدفع نحو السلام أو تدفع نحو تجاهله، اختارت اسرائيل، بكل حكوماتها أن تتجنب “السلام”، أي ان تتجنب تحقيق حل قائم على “الحقيقية والعدالة” لصالح “تسوية” هدفها التعامل أو التهرب من الاستحقاقات والأسئلة “الوجودية”.

لأنها حتى الآن ليست مهيّأة لحل أسئلتها الوجودية: طبيعة الدولة، الحدود، الدستور، الايديولوجيا، المكانة

والحال، فإن اسرائيل في كل المفاوضات التي دخلتها طوعاً أو كرهاً بسبب الضغوط الخارجية بقيت في إطار “عملية تسوية” لأنها حتى الآن ليست مهيّأة لحل أسئلتها الوجودية: طبيعة الدولة، الحدود، الدستور، الايديولوجيا، المكانة. وليس متوقعاً في ظل الظروف الحالية، سواء الاسرائيلية منها او العربية والفلسطينية، أن تصل هذه التسوية إلى نهايات “سعيدة”، بحسب وصف رابين، ناهيك عن تطورها إلى عملية سلام.

وضمن كل تلك التناقضات التي تعيشها إسرائيل تبرز أيضاً العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية، وهي أيضاً علاقة داخلية صراعية، وليست مجرد علاقة خارجية ميكانيكية.

وهذه العلاقة على درجة عالية من التعقيد، وتتحكم فيها أو تحددها عوامل كثيرة بدءاً من المصالح الاقتصادية والاسترايجية مروراً بضغط اللوبي ضمن ظروف ملائمة لهذا الضغط وليس انتهاءً ببعض التفسيرات الدينية، البروتستانتية، السائدة في الولايات المتحدة والمستندة الى سردية العهد القديم. وهي على ذلك علاقة مثار اختلاف في اسرائيل على سوسها، وهي خارج اسرائيل علاقة ملتبسة.

وعلى أي حال، فرغم تشابك العلاقة وتعقيدها وتناقضها، فهي ككل ظاهرة اقتصادية سياسية اجتماعية لها في نهاية المطاف طرف مقرر، وهو في هذه الحالة الولايات المتحدة، لكنها لا تقرر ما تريد، ولا تملي على اسرائيل شروطاً كتابع بل تقرر بحسب مصالحها وبحسب ما تراه مصلحة لاسرائيل نفسها، أو أنه قرار يأتي في لحظة تشابك مصالح الطرفين، عادة، أو في لحظة مصلحة أميركية استراتجية لا يمكن تجاهلها، لكن يبقى قراراً لا يذهب بعيدا في الضغط على اسرائيل “الهشة” أو اسرائيل التي لا تزال “مخلوقاً وجودياً”، لذلك فالسياسية الأميركية، مثلاً، تميل إلى عدم ربط التقدم في عملية التسوية بالضغوط على اسرائيل.

وأخيراً، فان اسرائيل هذه صارت امام واقع عربي جديد بعد الثورات العربية. وهي وإن كان لم تصل بعد الى نهايتها، ولا تزال في سيرورة مستمرة، لكنها شكلت هزة كبيرة في المنطقة، ووضعت اسرائيل أمام وضع جديد كلياً، يميل أغلب الاسرائيليين إلى رؤيته كعامل”سلبي” سيعمل ضدها، على الأقل في المدى الطويل.

فهذه الثورات أعادت، أقلّه، المجتمعات العربية إلى السياسة، ولم تعد اسرائيل والحال هذه تتعاطى مع أنظمة “مستقرة” قمعية تتخذ أي قرار مهما كانت درجته خطورته دون الرجوع لأحد، دون أن تناقشه في برلمان مفبرك حتى.

وقد يكون الربيع العربي قد أثر ايجاباً على اسرائيل في المدى الحالي، فقد أخرج جيوش سوريا ومصر، حتى وإن كانت لم تحاربها منذ زمن طويل، أخرج هذه الجيوش من المعركة. والربيع العربي أيضا بسبب حالة عدم الاستقرار جعلها في حالة استرخاء حتى في التفاوض والتسوية مع اسرائيل. لكن في النهاية فان ما يجري وضع اسرائيل امام تعقيدات وتناقضات جديدة، فاقمت تناقضاتها، في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى حل أسئلتها الوجودية السابقة وتحديد أو تعريف نفسها للتحول من هذا “المخلوق الوجودي” الى دولة عادية ككل دول العالم الذي لم يعد فيه مكان لظواهر “خارقة”.

أخيراً، فان اسرائيل هذه في قراءة ماجد كيالي لتحولاتها بدت وهي كذلك، عدواً ديالكتيكاً، سواء في علاقتها مع الخارج، مع الأنظمة العربية خصوصاً، التي غذتها وتغذت على الصراع معها. أو سواء في بنيتها الداخلية شديدة التناقض والتعقيد لدرجة تبدو معها كحالة ديالكتيكية “مثالية”، لتطبيق المنهج “الديالكتيكي” في تحليل تحولاتها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية