كاميرات عماد برناط والشفقة القاتلة

الأربعاء 27 تشرين الثاني 2013

بعد حوالي السنتين على إطلاق الفيلم، ما زالت كاميرات المخرج عماد برناط المحطّمة تستدعي الكثير من الدهشة: دهشة “المتضامنين” باكتشاف إسرائيل، ودهشة بعض الفلسطينيين والعرب بتضامن هؤلاء، ثم دهشة آخرين بدهشة سابقيهم. فقد صنعت الكاميرات الخمس التي حطمتها إسرائيل في قرية بلعين غرب رام الله فيلمًا وثائقيًا رُشّح لجائزة الأوسكار، صنعت أيضًا وعيًا أفضل بجانب من واقع الاحتلال، لكنها قدمت مرآة مشوهة للفلسطينيين، وكرّست لديهم ولدى العرب إجمالًا تعريفًا رومانسيًا للذات جاهزًا للاجترار ومدعومًا بالتأثير السينمائي.

فيلم “5 كاميرات محطمة” (2011) استقبل عربيًا وعالميًا بحفاوة بالغة وصلت به إلى سجادة هوليوود الحمراء، ليعلَن بالأمس عن فوزه بجائزة “إيمي” كأفضل فيلم وثائقي “دولي” لعام 2013،  بعد عدة جوائز وترشيحات دولية أخرى. يقدم الفيلم قصة المصور الفلسطيني عماد برناط -راوي الفيلم وأحد مخرجَيه- في توثيق المظاهرات الأسبوعية في بلعين التي قضم الاستيطان أجزاء واسعة من أرضها. ويسبك الفيلم الحياة اليومية لأهالي القرية بنشاطاتها المقاوِمة الاحتلال عبر كاميرات برناط الخمس التي صوّرت مادة الفيلم بين عامي 2005 و2009.

بين مولد ابنه الأصغر جبريل واستشهاد صديقه المعروف بـ”الفيل”، يقصّ برناط تجربته في تصوير المظاهرات التي كانت عادة ما تتوجه إلى الجدار الفاصل، وكيف انتقل من مجرد رجل يحمل كاميرا وسط المتظاهرين إلى مراسل حر تعتمد وكالات أنباء كبرى صوره وفيديوهاته، وكيف كانت كاميرته شاهدةً على هذه المظاهرات، وكيف كانت مستهدفة من بين ما استُهدف أيضًا.

 فالضحية كائن أحادي البعد، خياره الوحيد بين الشفاء والعطب، لكنه كائن مهزوم في الحالتين لأن الفعل الممارس عليه يشكّل هويته

الضحية المسالمة

الجزء الأكبر من محتوى الفيلم يبدو بعيدًا عن الجدل لمشاهد عربي. فهو يقدم له تفاصيل عن الحياة تحت الاحتلال تكرّس “تعاطفه” مع الفلسطينيين، أو بالأحرى مع فلسطين كفكرة خارجة عن التاريخ والسياسة. عربيًا، قد لا يوجد ما هو متفق عليه أكثر من هذا التعاطف، لكن هذا الاتفاق بالذات هو ما يفتح للفيلم مجالًا للتراخي. فمن دون جمهور متحفز للنقد، لا يمكن للسينما إلا أن تقدم أسهل ما عندها.

“الشفاء هو التزام الضحية الوحيد. أنا بصوّر عشان أشفى”. هكذا يلخص برناط مهمته. مرة أخرى، يستسهل الفلسطيني تقديم نفسه كضحية، يستسهل تسويق هذا العذاب الرومانسي، ليقصي أي فعالية ممكنة للمعذّب ويعفيه من “التزاماته”. فالضحية كائن أحادي البعد، خياره الوحيد بين الشفاء والعطب، لكنه كائن مهزوم في الحالتين لأن الفعل الممارس عليه يشكّل هويته. الضحية غير قادرة على المقاومة وليست مطالبة بها إلا بمعاييرها كضحية، أي -في هذه الحالة- المقاومة اللاعنفية.

التراخي الذي يمارسه الفيلم أمام جمهور العربي كان مدخلًا لترسيخ اللاعنفية شكلًا وحيدًا للمقاومة (ما يعني، ضمنيًا، نزع الصفة الأخلاقية والشرعية عما سواها)، لكنه ليس المدخل الأهم. فالسلمية التي ينادي بها الفيلم بصوت منخفض أحيانًا وجهارًا في أحيان أخرى لا يمكن أن تُفصل عن كون الفيلم أساسًا موجهًا لجمهور غربي، وهو ما يتجلى في لغة أقرب للركاكة منها للبساطة يروي بها برناط الفيلم (لا تهم اللغة ما دام الكلام سيصل المتلقي مترجمًا)، وفي تركيز مفرط على مشاركة “نشطاء السلام” الإسرائيليين في المظاهرات كبرهان على “وحدة الصراع”، وفي مشاهد مسرحيّة تطفح بالابتذال، كتقديم طفل من بلعين غصن زيتون لجندي إسرائيلي، فيما تتردد في الخلفية –ويا للمفاجأة- ألحان الثلاثي جبران.

“صراع مشترك” بتمويل مشترك؟

إلا أن أبرز مقتل للفيلم يظل كونه فيلمًا فلسطينيًا-إسرائيليًا مشتركًا، تمويلًا وتشكيلًا. فبرناط اشترك مع المخرج الإسرائيلي غاي دافيدي في إنتاج وإخراج الفيلم قبل أن تدخل شركة “ألجيري” الفرنسية شريكًا أساسيًا في الإنتاج. وموّل المخرجان فيلمهما بدايةً من مشروع غرينهاوس للتنمية (وهو مشروع “يورومتوسطي” لإنتاج الوثائقيات بدأته مؤسسة إسرائيلية ودعمه الاتحاد الأوروبي) ثم من التلفزيونين الهولندي والإسرائيلي، وصندوق إسرائيل الجديد للسينما والتلفزيون، وهيئة إسرائيل للأفلام، ثم التلفزيون الفرنسي وصندوق المركز الفرنسي الوطني للسينما (CNC)، إلى جانب مساهمات من شركات عديدة أخرى.

حين ثار الجدل فلسطينيًا وعربيًا على هذا التمويل، تسلّح أصحاب الفيلم بالدعم الحذِر الذي قدمته كل من اللجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BNC) والحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI)، بوصفهما الفيلم بأنه “لا يستدعي المقاطعة”. إذ تنص وثيقة معايير المقاطعة الثقافية الخاصة بالحملة على أن المنتج الثقافي الذي يتلقى تمويلًا إسرائيليًا رسميًا بصفة صاحبه مواطنًا إسرائيليًا دون أن يُلزمه ذلك بخدمة المصالح السياسية والدعائية لإسرائيل هو منتج لا تجب مقاطعته. وبما أن الحملة لم تحدد هذه المصالح السياسية والدعائية أو طريقة خدمتها، فقد كانت الوثيقة حجة كافية للمخرجين لنفي الصفة الإسرائيلية عن الفيلم.

إلا أن إسرائيل نفسها لم تتفق مع هؤلاء، فحين أُعلنت ترشيحات الأوسكار الأخيرة، نشرت السفارة الإسرائيلية في واشنطن على حسابها الرسمي على تويتر أن من بين الأفلام الوثائقية الخمسة المرشحة للجائزة “فيلمان إسرائيليان”، أحدهما “5 كاميرات محطمة”. هذا الاحتفاء تُرجم في جائزتين تلقاهما الفيلم السنة الماضية في “مهرجان القدس للسينما“، وفي مهرجان “سينما الجنوب” في سيدروت، وهما مهرجانان إسرائيليان تأسيسًا وتمويلًا وإدارةً. حتى صحيفة “إسرائيل اليوم”، أشدّ صحف إسرائيل يمينيةً، وصفت الفيلم بأنه أفضل وثائقي لعام 2012.

كل هذه الحقائق لم تكن كافية على ما يبدو لهزّ ثقة مؤيدي الفيلم به. ولعل في ذلك ما يوضح أن خطورة الفيلم لم تكمن في المقام الأول في إخراجه أو تمويله، بل في محتواه الذي احتمى بمتانة الشفقة والذنب تجاه فلسطين، واستخدمها كورقة رابحة في كل جولة بغض النظر عن صلابة الانتقادات الموجهة له، وكرافعة لمادة سينمائية لم تكن لترفع نفسها بنفسها لولا أنها أرضت العين الغربية الحساسة، النافرة من الغضب والعنف، واقتاتت على إدمان عربي على كل ما هو سهل وحزين وفلسطيني.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية