موقوف مدان: ثغرات التوقيف القضائي في الأردن

الخميس 05 كانون الأول 2013

ما الذي سيحدث إذا ألقي القبض عليك؟ قد يبدو السؤال لمعظمنا افتراضيًا للغاية، لكن أي شخص قد يكون معرضًا له نتيجة لخلاف مع جار أو حادث سير أو عبارة على لافتة. قد لا يكون التوقيف بحد ذاته عندها مقلقًا، فهو نظريًا إجراء احترازي لضمان تحقيق العدالة، إلا أن الثغرات في القوانين التي تحكمه حوّلته إلى عقوبة سهلة الفرض بيد أجهزة إنفاذ القانون قد تطبَّق بصورة انتقامية وبغطاء قانوني شرعي.

فبينما ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي وقع عليه الأردن على أنه “لا يجوز أن يكون توقيف الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة، ولكن من الجائز تعليق الإفراج عنهم على ضمانات لكفالة حضورهم في أي مرحلة أخرى من مراحل الإجراءات القضائية ولكفالة تنفيذ الحكم”، فإن ارتفاع أعداد الموقوفين قضائيًا (أكثر من 25 ألفًا في عام 2012، في ارتفاع بأكثر من ألفي موقوف مقارنة بعام 2011) لا يؤشر إلى تبني هذه القاعدة العامة.

أصل أم استثناء؟

منح قانون أصول المحاكمات الجزائية المدعين العامين صلاحية إصدار مذكرات توقيف بحق المشتكى عليهم بعد استجوابهم لهم. ويكون ذلك في مرحلة لاحقة للاحتجاز الذي يحال بحسبه المشتكى عليهم إلى إحدى النظارات لمدة يجب ألا تتجاوز 24 ساعة. فبحسب المادة 112 من القانون، على المدعي العام أن يستجوب المشتكى عليه المقبوض عليه بمذكرة إحضار ويصدر قرارًا بتوقيفه أو إخلاء سبيله خلال 24 ساعة من القبض عليه. أما في حال كان المشتكى عليه غير محتجز وحضر للادعاء العام بمذكرة حضور، فعلى المدعي العام استجوابه وإصدار قراره في الحال.

وبحسب المحامية هديل عبد العزيز، المديرة التنفيذية لمركز العدل للمساعدة القانونية، فإن المعايير الدولية للتوقيف رست على 4 حالات فقط لتبريره، هي الخوف من تغيير المشتكى عليه للأدلة، أو إمكانية تواصله مع أعضاء في عصابة جرمية، أو أن يكون في تركه طليقًا خطر على المجتمع، أو إضرار بمصلحة الدولة. “الأصل هو الحرية”، تقول عبد العزيز، “والتوقيف يفترض أن يكون استثناءً. لكن هذه ليست الحالة عندنا”. فبحسب بحث أجراه مركز العدل على عينة من القضايا الجزائية في عام 2009، أُصدرت بحق المشتكى عليهم قرارات توقيف في أكثر من 72% من القضايا.

ورغم أن تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية لعام 2009 شكل خطوة في اتجاه تضييق إطار التوقيف، بربطه مدة التوقيف بطبيعة الجرم المحتمل وتحديده للتهم التي يمكن التوقيف فيها (خاصة قصره التهم التي لا تزيد عقوبتها عن سنتين ويجوز فيها التوقيف بالسرقة والإيذاء) في المادة 114 منه، إلا أن القانون ما زال بحاجة إلى تعديل لتقليص نسبة التوقيف المرتفعة، بحسب تقرير تحالف “إنسان” الحقوقي المرفوع لمجلس حقوق الإنسان خلال الاستعراض الدوري الشامل للأردن في تشرين الأول الماضي.

ويردّ التقرير ارتفاع نسبة التوقيف إلى عدم إلزام القانون المدعي العامين والقضاة بتسبيب قرارات التوقيف، ومنح المدعين العامين سلطة إصدار هذه القرارات “دون الحصول على موافقة قضائية من المحكمة المختصة”. كما أن المادة 114 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لم تشترط لقرارات تمديد التوقيف سوى أن يرى فيها المدعي العام تحقيقًا “لمصلحة التحقيق” في القضية، لكن المادة حددت مدد تمديد التوقيف بما يتوافق مع طبيعة الجرم المحتمل وعقوبته القصوى.

مع ذلك، يشير التقرير إلى مدة التوقيف فاقت مدة الحبس الذي حكمت به المحكمة في حالات الإدانة في ما يقارب 20% من القضايا الجزائية. كما أن 35% من القضايا التي أوقف فيها المشتكى عليهم، حكمت لهم المحكمة فيها بالبراءة أو عدم المسؤولية. ورغم أنها اعتبرت أن هذه النسبة بحد ذاتها مرتفعة، تلفت المحامية عبد العزيز إلى أن النسبة قد تكون مضللة من حيث أن أنها تمثل التوقيف في القضايا المفصولة، بينما قد لا تصل القضايا التي تطول فيها مدة التوقيف إلى المحاكم. أي أن نسبة التوقيف الإجمالية بإضافة القضايا التي أغلقت بعد التحقيق ستكون أعلى.

التوقيف كعقوبة

من جهة أخرى، تشير المحامية لين الخياط إلى أن قانون أصول المحاكمات الجزائية ما زال يسمح باستخدام التوقيف بصورة انتقامية. فالمادة 124 من القانون على أنه “يجوز استئناف القرار الصادر عن المدعي العام أو قاضي الصلح بتخلية سبيل المشتكى عليه أو تركه حرًا إلى محكمة البداية، والقرار الصادر عن محكمة البداية إلى محكمة الاستئناف”، إلا أن ذلك يشمل المشتكي كما يشمل المشتكى عليه. أي أن من حق المشتكي “المتضرر من ترك آخر حرًا أو من تخلية سبيله” أن يستأنف لمحكمة البداية قرار المدعي العام أو قاضي الصلح بذلك، ما يفتح مجالًا للمشتكي بالاستمرار بملاحقة خصمه بما قد لا يفيد سير العدالة في شيء.

وكما هي الحال في قرارات التوقيف وتمديده، فالمدعي العام أو قاضي الصلح أو المحكمة غير ملزمون بإبداء أسباب قرارات رفض تخلية السبيل بكفالة أو قرارات إعادة النظر في قرارات سابقة بتخلية السبيل. أي أن حرية الموقوف ترتهن تمامًا بالسلطة التقديرية التي يملكوها هؤلاء.

لكن توظيف التوقيف كعقوبة –وربما انتقام- يبرز بشكل أوضح في وسيلة تستخدمها أجهزة إنفاذ القانون للالتفاف على مدة الاحتجاز المحددة بـ24 ساعة، هي “الكعب الداير” أي نقل المحتجز عدة مرات بين المراكز الأمنية لإطالة احتجازه قبل عرضه على المدعي العام. وتوضّح المحامية لين الخياط أن الشرطة في هذه الحالات تنقل المحتجز بعد انقضاء مدة احتجازه إلى مركز أمني لا يكون المدعي العام المناوب فيه حاضرًا بعد، وتبقيه هناك إلى أن يقترب حضور المدعي العام لتنقله مجددًا إلى مركز آخر خارج صلاحية الأخير. وحين يلتقي المحتجز بمدعٍ عام أخيرًا في مركز واحد، يكون نظريًا قد عرض عليه فور انتهاء مدة 24 ساعة، وكأن الوقت الذي مضى خلال تنقيله لم يكن سوى مدة إيصاله.

صفر محاسبة على ما يحدث وراء القضبان

فوق هذه الثغرات التي قد تستغل للتعسف في حجز الحرية، لا يبدو أن الضمانات التي تحمي المحتجزين والموقوفين من إساءة المعاملة أو التعذيب وتوفِّر الشروط الإنسانية لبقائهم قد خرجت من صفحات القوانين لتصل المراكز الأمنية بعد، كما لا يبدو أن للمحاسبة وزن في هذا الصدد.

ففي تقريره السنوي الأخير حول حالة حقوق الإنسان في الأردن، يشير المركز الوطني لحقوق الإنسان بعمومية إلى رصده حالات ضرب موقوفين وتعرضهم لـ”الشبح والفلقة” وإساءة معاملتهم بشتمهم وتحقيرهم، إضافة إلى تعذيب محتجزين خلال مرحلة التحقيق الأولي، ما يشير إلى استهداف نزع اعترافات بالإكراه. ويذكر التقرير أن المركز رصد هذه الانتهاكات بشكل خاص في إدارة البحث الجنائي وإدارة مكافحة المخدرات وبعض المراكز الأمنية “المكتظة”، كما رصدها بشكل خاص كذلك بين موقوفي مظاهرات تشرين الثاني 2012. إذ سجل المركز بين هؤلاء 9 حالات تعذيب ، وعاين 13 حالة ضرب بدت آثارها بالكدمات والرضوض، بينما تلقى 53 إفادة بالتعرض للضرب أو إساءة المعاملة خلال التحقيق الأولي في المراكز الأمنية، و54 إفادة بمنع تبليغ أهل المحتجز بمكان احتجازه.

في حالات التعذيب على الأقل، يمكن الجزم بأن جميع الجناة أفلتوا من العقاب. فبحسب التقرير نفسه، شكل الأمن العام 60 لجنة تحقيق خلال عام 2012 للتحقق من إدعاءات تعذيب، لكن أيًا منها لم ينتهِ بإحالة أحد إلى المحاكمة. تزداد هذه النتائج منطقيةً بالنظر إلى أن المحكمة المختصة في النظر في قضايا التعذيب بحسب المادة 208 من قانون العقوبات هي محكمة الشرطة (أو محكمة المخابرات في حالة كانت القضية في مراكزها). أي أن طرفًا واحدًا في هذه القضايا يرتكب الجرم ويحقق فيه ثم يصدر الحكم على نفسه.

أكثر من ذلك، فإن مرتكبي جريمة التعذيب لم يحاسبوا حتى في الحالات التي أصدرت فيها محكمة التمييز قرارات ببطلان اعترافات لكونها انتزعت تحت التعذيب، وحكمت لأصحاب هذه الاعترافات بالبراءة، ووفقًا لتقرير تحالف “إنسان” لمجلس حقوق الإنسان.

قد تكون السلطة القضائية في أي دولة آخر ما يلحقه الاتهام بالتقصير، إذ اعتاد الناس تصويرها على أنها العمود الصامد (الأخير أحيانًا) في هيكل الدولة، لكن حين تمر الجريمة مرور الكرام رغم إقرار أعلى محكمة نظامية بوقوعها، فأسئلة كثيرة تطرح على صلابة هذا العمود.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية