سنوات الثورة المصرية العجاف: محاضرة لعمرو حمزاوي في عمّان

الثلاثاء 14 كانون الثاني 2014
تصوير حسام دعنة.

مع اقتراب الذكرى الثالثة لاندلاع ثورة 25 يناير، يبدو المشهد المصري أكثر إثارة لحيرة –وربما يأس- المراقب العربي العادي خارج مصر من أي وقت مضى خلال السنوات الأخيرة. فمسار التقلبات الدراماتيكية التي مرت بها أحداث ما بعد الثورة وصولًا إلى استفتاء اليوم على ثالث تعديل دستوري منذ 2011 لم يعد سهل الفهم أو التفسير.

“كيف لثورة لم تكن تحمل أي شعارات أيديولوجية أن تقع في ثنائية الديني والمدني بالسرعة التي حدث بها الأمر في مصر؟”، “كيف يمكن لثورة شاركت بها المرأة المصرية على قدم المساواة مع الرجل المصري أن تدفع بالمجتمع للحظة ممتدة من انتقاص حقوق وحريات المرأة، سواء في المساحة العامة أو الخاصة؟”، وكيف لمسار التحول الديمقراطي أن يمر سريعًا باستحقاقات انتخابية في وقت كان فيه النظام بمؤسساته وشبكات مصالحة لا يزال قائماً، ودون أن تكون هنالك “محاولات حقيقية للتطوير والتطهير والإصلاح”؟

هذه الأسئلة التي تتعذر في الظاهر الإجابة عليها كانت مصادر الحيرة المصرية والعربية بنظر الأكاديمي والسياسي المصري عمرو حمزاوي، الذي قدّم مطلع الأسبوع الحالي روايته لمسار السنوات الثلاث الأخيرة، في محاضرة ألقاها في مركز جامعة كولومبيا الشرق أوسطي للأبحاث في عمان عُنونت بسؤال كبير: لماذا تعثر التحول الديمقراطي في مصر؟

وثيقة غير دستورية؟

لعل في الوثيقة الدستورية المعروضة على المصريين والمصريات للاستفتاء كتعديل لدستور عام 2012 وفي سلسلة الأحداث التي مهدت لهذا الاستفتاء مؤشرات واضحة على المأزق الحالي في مصر. يتحدث حمزاوي، الذي اعتبر نفسه أحد أصوات “القلة الديمقراطية” التي لا زالت تتحدث خارج أطر العسكر أو الإسلاميين في مصر، عن عدد من المشاكل المبدأية في هذه الوثيقة الدستورية. إذ يصفها بداية بأنها “وثيقة صنعت من جانب سلطة لم تأت إلى مكانها بإرادة شعبية مصرية”، في إشارة إلى لجنة الخمسين التي عينتها المؤسسة العسكرية وكلفتها بصياغة التعديلات، معتبرًا أنه “لم يكن متسقًا أبدًا مع المنطق الديمقراطي أن يتم تعطيل الدستور [دستور 2012] بإرادة من لم يخوّل من جانب الشعب بأن يفعل ذلك”.

لم يكن متسقًا أبدًا مع المنطق الديمقراطي أن يتم تعطيل الدستور [دستور 2012] بإرادة من لم يخوّل من جانب الشعب بأن يفعل ذلك

أما على مستوى توقيت وسياق الاستفتاء على هذه الوثيقة، فإن اللحظة التي وضعت فيها الوثيقة هي “لحظة استقطاب مجتمعي حاد” يتجاوز الخلاف السياسي، وهي حالة يقول حمزاوي أنه لا يمكن أن يتصور معها أن يوضع دستور ليبقى. “هذا الاستقطاب الحاد انعكس على عمل اللجنة باستبعاد فصيل أنا لست من مؤيديه لكن من مؤيدي حضوره” من نقاشات التعديلات الدستورية وهو جماعة الإخوان المسلمين، كما انعكس على استبعاد النقاش العام حول الوثيقة الدستورية إلا بصيغة التأييد. “الآن ونحن نتحدث السلطات المصرية تعتقل وتعوّق حركة كل من يحاول علنًا أن يبدأ حملة ينبغي أن تتيحها القوانين المصرية لنا لرفض الدستور، (…) في حين أن ملصقات ‘نعم للدستور’ تملأ المكان”.

بشكل أكثر تفصيلًا، يرى حمزاوي أن الوثيقة الدستورية “أعادت مصر إلى الوراء” على مستويين. أولًا عبر مساهمتها في عسكرة النظام السياسي بتكريس “الوضعية الاستثنائية للجيش باعتباره دولة فوق الدولة”، بعد أن كان “دولة داخل الدولة” في 2012. جرى ذلك من خلال إعطاء الجيش حق الفيتو على تشريعات خاصة بالقوات المسلحة، وإلغاء قدرة البرلمان على مناقشة موازنة الجيش بصورة تفصيلية، وعدم تمكين أي رقابة مدنية على النشاط الاقتصادي الكبير للجيش المصري، وعدم الالتزام بمبدأ كان معمولًا به في مصر حتى وقت مبارك وهو أن رئيس الجمهورية يعين وزير الدفاع، إذ لا بد الآن من موافقة القوات المسلحة لذلك.

الوثيقة الدستورية تساهم في عسكرة النظام السياسي بتكريس “الوضعية الاستثنائية للجيش باعتباره دولة فوق الدولة”

أما المستوى الثاني فهو انتقاص الوثيقة لحقوق وحريات المصريين، من خلال إجازتها لمحاكمة المدنيين عسكريًا، وحرمانها المواطن من حقه في الحصول على المعلومة، وفي مخاطبة السلطات العامة مباشرة، إضافة إلى عدم إقرارها لضمانات التقاضي الكافية، إلى جانب تفاصيل أخرى عدة. في نفس الوقت، تنتقص الوثيقة بحسب حمزاوي حقوق السلطات التي ينتخبها المواطن، أي البرلمان، إذ تغلّب المعين على المنتخب في مجمل بنية النظام السياسي المصري الذي تقرّه.

رغم ذلك، يعتقد حمزاوي أن المشاركة في الاستفتاء برفض التعديلات أفضل من مقاطعته، رغم عدم اعترافه بـ”شرعية الترتيبات” وإقراره بأن “ضمانات النزاهة غائبة”، لأن المشاركة تمنح المعترضين إمكانية “وضع إطار كمي على الاحتجاج”.

HamzawyCUMERCعسكرة بتأييد شعبي

ووسط طغيان التهليل للوثيقة الدستورية قيد الاستفتاء، يقر حمزاوي بأن الترتيبات الحالية لما بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي في 3 يوليو الماضي تحظى بتأييد شعبي واسع “على الأرجح سيؤهل وزير الدفاع الحالي [عبد الفتاح السيسي] عندما يترشح لرئاسة الجمهورية للفوز بالرئاسة”، لكنه رفض أن يكون هذا التأييد الواسع مدخلًا لتهميش قطاعات شعبية تحمل رأيًا مغايرًا وتبحث عن مخارج.

هذا التأييد كان امتدادًا للحراك الشعبي الواسع في 30 يونيو الرافض لاستمرار محمد مرسي في منصبه ولهيمنة جماعة الإخوان المسلمين في الدولة، والمعبر عن الخوف “على طبيعة مصر على تنوعها وتعددها” بتعبير حمزاوي. لكن هذا الحراك خرج بمطلب “ديمقراطي” دعمه حمزاوي، وهو الانتخابات الرئاسية المبكرة، إلا أن ما حدث لاحقًا في تموز بعزل مرسي كان بتعبيره “خروجًا واضحًا على الآليات الديمقراطية، وهو انقلاب – ليس له أي مسمى آخر”. ورغم تعبيره عن عدم ندمه لمشاركته في فعاليات 30 يونيو، إلا أن ما ندم عليه كان “تضييع الوقت مع من تبين لاحقًا أنهم ليسوا سوى مجموعة من الفاشيين”، على حد تعبيره، في إشارة إلى مشاركته في جبهة الإنقاذ الوطني التي تشكلت وساندت عزل مرسي.

إحداث هذه القفزة وتحول حراك 30 يونيو إلى حالة تأييد المؤسسة العسكرية الغالب على المشهد اليوم ارتكز بحسب حمزاوي إلى سوء إدارة السنوات الثلاث الماضية وتدهور الأوضاع المعيشية فيها. “هناك حالة من التمني لأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل 25 يناير 2011 وتعود ذات المقايضة بين الأمن والحرية”. ويفسر حمزاوي استخدام المؤسسة العسكرية الحاكمة لهذه الحالة في حشد التأييد بسياستها في تصنيع الخوف تحت يافطة “الحرب على الإرهاب”، إضافة إلى استدعاء “صور رومانسية للمؤسسة العسكرية والبطل العسكري” لها وقع شديد الإيجابية في المخيلة الجمعية المصرية لارتباطها بسنوات الخمسينات والسيتينات.

كل ذلك ساهم في وضع كل رافض لتدخل الجيش في 3 يوليو في خانة الخيانة. “هناك صعود مرعب لمقولات فاشية ترحب بالدم والتصفية والعقاب الجماعي وخطابات الكراهية”، يقول حمزاوي، مشيرًا إلى أن هذا الخطاب يطول الإخوان المسلمين حلفائهم ووالقلة الليبرالية أو اليسارية التي رفضت التسليم لحكم المؤسسة العسكرية، كما اتسعت لتطول الفلسطينيين والسوريين في ما أسماه حمزاوي “شوفينية ضد الفقراء العرب” دونًا عن أغنيائهم.

مع ذلك، لا يعول حمزاوي على بقاء هذا التأييد على ما هو عليه طويلًا. فما وصفه بحالة “التململ الشعبي” و”العجز عن الصبر” تجاه الوعود بـ”تصفية العنف والإرهاب” سيهزّ هذا التأييد، خاصة وأن الأمور لا تسير باتجاه الاستقرار، وأنه يمكن أن “نستشعر يوميًا قلق أكبر مما كان عليه الحال قبل التطورات الأخيرة”، على حد تعبيره.

خيارات المعارضة

هذا التململ الشعبي قد يكون رأس المال الوحيد لمن يسميهم حمزاوي “القلة الديمقراطية” في مصر اليوم. لكن تعويل هذه القلة على تنمية الامتعاض الشعبي من الترتيبات الحالية ليس بالأمر السهل، “فالمساحة المتاحة للأصوات الديمقراطية مغلقة وتتقلص أكثر فأكثر” كونها باتت تحرم من منصات التعبير، كما تشن عليها حملات تمتد من التشهير حتى الملاحقة والاعتقال. “الحركة في الشارع كانت أسهل بكثير في الأعوام الأخيرة لمبارك مما هي عليه الآن. مبارك لم يحاكم النشطاء، لا أحمد دومة ولا أحمد ماهر ولا علاء عبد الفتاح، ولم يهددني ولم يهدد آخرين بعمليات تقاضي ممتدة كما هو الحال الآن”.

ورغم هذه الضغوط، فإن العمل في الشارع خارج السياسة الرسمية هو الخيار الأمثل حاليًا وفقًا لحمزاوي، وعلى أصحابه التفكير بطرق مبتكرة للتأثير على توجهات الرأي العام، تحديدًا توجهات الشباب، “خاصة وأن هناك انقسامًا جيليًا حقيقيًا في مصر، فأنصار الترتيبات الحالية هم من متوسطي وكبار السن، أما الشباب هم في الغالب في مكان آخر ويبحثون عن بدائل”. كل ذلك يعيد مصر إلى حالة مشابهة لما قبل ثورة 25 يناير “وهذا يعني أن لا حلول قريبة سريعة أو مؤكدة”.

أما خيارات الإخوان المسلمين فليست أكثر إشراقًا، خاصة مع اشتداد الحصار على الجماعة بإعلانها حركة إرهابية وتحولها إلى ما يشبه “الطائر شديد السواد” الذي يلام على كل المأساة المصرية بوصف حمزاوي، دون أن يدفعها ذلك إلى تبني أي نوع من المرونة أو مراجعة الذات.

“جماعة الإخوان تتحمل المسؤولية التاريخية بقدر أكبر من غيرها بشأن الإخفاق في بناء توافق لدعم التحول الديمقراطي في مصر”، يقول حمزاوي، “فالإخوان تخلّوا عن حلفائهم الديمقراطيين الذين معهم صنعوا ثورة يناير، بالتالي كان ثمن هذا التخلي أن تخّلت عنهم الأطراف التي ظنوا أنهم بتحالفهم معها سيستقر لهم الأمر في مصر”، من المؤسسة العسكرية، إلى الجهاز الأمني، إلى نخب المال والأعمال، إضافة إلى السلفيين؛ أي الأطراف الأربعة ذاتها هذه الأطراف الأربعة انقلبت عليهم تمامًا في 3 يوليو.

“لا أعلم عن حالات كثيرة في العالم استطاعت بها حركات أو مجموعات أو أحزاب سياسية أن تعيد النظر بسياستها وهي تتعرض للحظة قمع ممتدة وعنيفة”

ورغم اعتباره أن الإخوان غاب عنهم بصورة واضحة النقد الذاتي في ما يخص تعاملهم مع الحراك الشعبي في لحظة يتهمون فيها بالترويج للعنف، وفي عدم مراجعتهم لنجاعة الفعاليات في الشارع، وفي تعاملهم مع استحقاقات الثورة المصرية، إلا أن حمزاوي لا يرى أن اللحظة الحالية تساعد بأي شكل على دفعهم لهذا النقد. “أنا لا أعلم عن حالات كثيرة في العالم استطاعت بها حركات أو مجموعات أو أحزاب سياسية أن تعيد النظر بسياستها وهي تتعرض للحظة قمع ممتدة وعنيفة”، يقول حمزاوي، “وهنا مأساة الترتيب الحالي لأن الدولة الأمنية لا تدفع بك إلا إلى المزيد من الاختيارات الراديكالية”.

تحالف عربي ديمقراطي: ماذا عن الأردن؟

في مقابل هذا الحصار المتزايد للمعارضة في مصر، يبدو أن خيار النظر أبعد من حدود الدولة بات أكثر قيمة. إذ يعترف حمزاوي بأنه وغيره من الليبيراليين المصريين كانوا مشغولين بتطورات الأحداث حتى أنهم لم ينتهبوا بما يكفي للتحالفات العربية المعادية للثورة التي تجري حولهم. كما أنهم كانوا “مهجوسين” بمقابلة نائب الرئيس الأسبق عمر سليمان التي صرح فيها بـ”عدم جهوزية” الشعب المصري للديمقراطية لدرجة أنهم لم يولوا اهتمامًا كافيًا إلى المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية للتحول الديمقراطي.

كل ذلك زاد من أهمية تكوين تحالف عربي داعم للديمقراطية في مقابل ما أسماه حمزاوي “النادي العربي للدكتاتورية”، والذي لعبت فيه دول مجلس التعاون الخليجي دورًا بارزًا باستخدامها للمال بطرق “غير صديقة للديمقراطية”، من أجل صناعة خوف من الثورات على مستوى إقليمي، بعد أن صوّرت ما حدث في 3 يوليو الماضي على أنه “تصويب” للانحراف الذي مثلته الثورة.

لكن النقاش الذي دار حول هذه النقطة أثار مفارقة في طرح حمزاوي. فوسط حضور نخبوي في عمّان ضم شخصيات نافذة في السياسة والاقتصاد والإعلام –من بينهم باسم عوض الله وإبراهيم سيف وعمر الرزاز- تبادل حمزاوي مع بعضها الحوار بصيغ بالغة الود تشي بعلاقات شخصية لم يخفِها هو، وبعد أن عبر عن امتنانه للمنصة التي دُعي إليها في الأردن وحرم منها في مصر، مرر مزحة تنم عن هشاشة هذه المنصة عندما وجه إليه عمر الرزاز سؤالًا حول دور دول الخليج في المعادلة، ليقول ضاحكًا “مسموح أتكلم؟ أنا عاوز أرجع للأردن تاني”.

ربما كان السؤال المفتقد في هذا النقاش هو حول هوية الحلفاء الأردنيين المحتملين في نادي الديمقراطية العربي الذي يسعى إليه حمزاوي، وإذا ما كان يرى في أصدقائه الأردنيين منتسبين صالحين له، فضلًا عن سؤال ما إذا كان دعمهم للديمقراطية في مصر كافيًا لتجاهل تقويضهم لها في الأردن.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية