الإسكندرية من البحر إلى الصحراء: مقابلة مع إبراهيم عبد المجيد

الأحد 09 شباط 2014

وصل الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية بروايته “الاسكندرية في غيمة”، التي باتت خاتمة ثلاثية كتبها عن مدينته البحرية. ولد عبد المجيد في  الإسكندرية سنة 1946، ودرس الفلسفة في كلية الآداب جامعة الأسكندرية.

مهجة حسيب حاورت عبد المجيد عن إلهام روايته وعلاقتها بحياته في الإسكندرية وبرواياته السابقة.

 

ما الذي دفعك للكتابة ثلاثية عن الأسكندرية، وكيف جاءتك الفكرة؟ هل كنت تنوي من البداية كتابة ثلاثية؟

بعد أن كتبت رواية “لا أحد ينام في الأسكندرية” التي تدور أحداثها في الحرب العالمية الثانية، أدركت كيف مرت المدينة بثلاث مراحل كبرى في تاريخها. المرحلة الأولى هي تاريخ الإسكندرية العظيم كمدينة العالم الكوزموبوليتانية التي كانت هذه الرواية نافذة عليها رغم أهوال الحرب العالمية الثانية، مدينة التسامح بين الأديان والأجناس.

وكإسكندري المولد والنشأة رأيت كيف تحولت المدينة بعد حرب السويس عام 1956 إلى مدينة مصرية بعد خروج الأجانب منها بسبب سياسة جمال عبد الناصر التي كان شعارها التحرر السياسي والإقتصادي. لا أحد يختلف على ذلك، لكن ما صحب هذه السياسة من خروج كبير للأجانب والتخلي عن روحها العالمية كان خطأ. صارت المدينة مصرية حقًا، لكن بدأت تفقد وضعها كمدينة عالمية. إلا أن تاريخ المدينة كان ماثلاً وأهلها لا يزالون يعرفون وضعها العظيم كمدينة متوسطية، تطل بمصر على البحر المتوسط وهو مجالها الحيوي بحضارته وحضارتها، رغم أن حكامها لم يعرفوا ذلك. وكانت رواية “طيور العنبر” هي الممثل لهذه المرحلة الثانية.

ثم كانت المرحلة الثالثة في سبعينات القرن الماضي حين تحالف السادات مع التيارات الإسلامية المتخلفة، وتسلل الفكر الوهابي والسلفي المتزمت إلى المدينة، ففقدت روحها العالمية والمصرية معًا وصارت مدينة مفتوحة على الصحراء. الروايات الثلاث عن المدينة في ثلاثة تحولات كبرى، ويمكن أن تقرأ كل رواية على حدة. فالبطل هنا هو المدينة. إذن، فكرة الثلاثية جاءتني بعد أن كتبت “لا أحد ينام في الأسكندرية”.

لقد حصلت على العديد من الجوائز من قبل، أغلبها مقدمة من مؤسسات ثقافية مصرية. بالنسبة لجائزة البوكر العربية، كثير من الكتاب انتقدوها ورفضوا ترشيح أعمالهم للمشاركة فيها. هل تعتقد أن جائزة كهذه في صالح الأدب العربي أم لا؟ أم أن تأثيرها مركب؟

جائزة البوكر يتقدم إليها الناشرون بالأساس. وكان أكبر انتقاد لها منذ سنوات حين كانت لجنة التحكيم معروفة سلفًا بينما الأصل هو سرية اللجنة حتى يتم الإعلان عن القائمة القصيرة. بعد ذلك لم يتكرر الأمر. وفي النهاية أي جائزة هي في صالح الأدب العربي، المهم أن تكون معايير الاختيار على أعلى درجة ممكنة. أقول ممكنة لأنه حول الإبداع، لا يتفق الناس دائمًا، فالفن ليس كالعلم. وفي الفترة الأخيرة صارت الجوائز تساهم في ارتفاع نسبة مبيعات الكتب وهذا أمر جيد.

ما الذي جعلك في هذه الرواية مهتمًا بإعادة النظر في هذه الفترة التاريخية المحددة للإسكندرية؟ هل لها صدى خاص؟

ببساطة لأن المدينة فقدت روحها المصرية والعالمية معًا. الآن بعد ثورة يناير، تستيقظ المدينة ضد ما جرى عليها من تخلف مقصود من النظم السابقة في تحالفها القبيح مع الاتجاهات الرجعية التي باسم الدين أفقدت المدينة تسامحها وتعدديتها اللتين هما أبرز ملامحها عبر التاريخ. ولأنها مدينتي ولقد عاصرت ذلك مع جيلي وساهمنا في مقاومته ولا نزال نفعل.

لقد ذكرت العديد من الكتّاب الروس في روايتك. هل ترى أوجه مشتركة محددة بين رؤيتك لمصر والمجتمع الذي رصده الكتاب الروس؟

في شبابي قرأت كثيرًا من الآداب العالمية ولا أزال. أغرمت غرامًا كبيًرا بديستويفسكي وتولستوي وتشيخوف، ومن الشعراء بماياكوفسكي ويسينين وألكساندر بلوك. قصيدة “سحابة في سروال” لمايكوفسكي قرأتها بالإنجليزية وأنا في السادسة عشر من عمري، وكدت أحفظها وعرفت أنه كان قد أطلق عليها عنوان “الحواري الثالث عشر”، لكن الرقابة في العصر القيصري رفضت العنوان باعتبار أن الحواريين اثنا عشر، فغير عنوانها إلى “سحابة في سروال” أو “غيمة في بنطلون” ويعني بها نفسه، أي هو الغيمة التي تتجسد في شخص زائل.

بطل روايتي “الأسكندرية في غيمة” الرئيسي شاعر مغرم بمايكوفسكي، استعار منه الغيمة على المدينة باعتبارها زائلة أيضًا، الغيمة لا المدينة. أدهشني أن في هذه الرواية التي سلمتها لدار النشر في سبتمبر 2012 حوار يقول فيه أحد ابطالها: “سيصل أصحاب هذه الاتجاهات التي يسمونها إسلامية إلى الحكم، لكن الشعب سيتخلص منهم بعد وقت قصير جدًا. عام على الأكثر وسيعود إلى حياته الحقيقية شعبًا مصريًا أصيلاً لا يعرف التطرف ولا إنكار الأديان والآخر”. فاجأني القراء والمعجبون بهذا النص الذي كتب قبل التخلص من الإخوان المسلمين بتسعة أشهر .

كمتخصص في قسم الفلسفة، كيف ترى الأسئلة الفلسفية التي تظهر في عملك؟ هل شكلت دراستك أسلوبك في كتابة الرواية؟ هل أنت وجودي؟

دراستي للفلسفة كانت رافدًا هامًا لي في الكتابة مع خبراتي في الحياة ودراساتي وقراءاتي الأدبية. ولقد اخترت دراسة الفلسفة في الجامعة قصدًا لأعرف القضايا الكبرى التي شغلت العقل الإنساني. كان يمكن أن أكون طالبًا في الجامعة في قسم اللغة العربية أو الإنجليزية، لكنني اخترت الفلسفة لهذا السبب. وأيضًا لأنني عرفت من حياة نجيب محفوظ أنه كان دارسًا للفلسفة ولقد رأيت ذلك واضحًا في نصوصه وشخصياتها.

شغلتني الماركسية في فترة من حياتي بحكم اشتراكي في المعارضة لسياسة السادات الاجتماعية والاقتصادية التي انحدرت بالبلاد وسلمتها للصوص، وكذلك لتحالفه مع الإخوان المسلمين. لكن الوجودية كانت الأقرب إلى روحي، وبالذات تيمة الاغتراب الإنساني. ساعد في ذلك حياتي بين مهمشين لا يستطيعون صنع حياتهم بأيديهم، فكل ما حولهم أكبر وأقوى منهم يحدد طريقة عيشهم. كذلك حياتي في أماكن واسعة لا نهاية لها أو قريبًا منها. ففي الإسكندرية  كنا نعيش في حي كرموز قريبًا من ترعة المحمودية التي كانت قديما طريقاً للنقل النهري، فكانت تفد إلى المدينة سفن عليها غرباء يختفون في عالم أدركت أنه أكبر وأوسع مما نرى حولنا. كذلك كنت قريبًا من بحيرة مريوط التي كنا في صبانا نخرج إليها لصيد السمك فنرى اتساعا في المكان يختفي فيه الناس ولا يبدو أنهم كانوا موجودين. كذلك كان أبي يعمل في السكة الحديد ويسافر كثيرًا وفي الإجازات الدراسية يصحبني معه إلى الصحراء الغربية وأنا صبي فأرى اتساعًا ولا أحد حولي. وهكذا شعرت دائما بضآلة الإنسان في هذا الكون، وساعدتني أيضًا الماركسية التي رأيت من خلالها كيف أن الإنسان ترس في آلة جهنمية يفوز بخيرها الرأسماليون.

أجل، كانت الوجودية مع حياتي الشاطئ الذي ارتكنت إليه رغم مواقفي السياسية المعارضة لما حولي.

لقد أطلقت على الحكم الناصري في رواية “الإسكندرية في غيمة” بالشيوعية، بينما العديد من الناس يرفضون ذلك ويصفونه بالحكم الاشتراكي. لماذا اخترت أن تسميها بالشيوعية؟ كيف ترى الفرق؟

لا أذكر أني أطلقت على الحكم الناصري صفة الشيوعية. ربما أطلقت عليه صفة الديكتاتورية والشمولية وهي سمة شيوعية. لكن طبعا أنا أعرف أنه لم يكن شيوعيًا بالمعنى الشامل. الرواية أيضًا تصور كيف عادى هذا الحكم الشيوعيين وأدخلهم السجون. أبطال الرواية شيوعيون مراهقون وليسوا شيوعيين مكتملين، ويعانون من السجن بين حين وآخر على يد النظام، وإحدى بطلاتها، نوال، متهمة قديماً بالشيوعية وأحد أبطالها، عيسى سلماوي، شيوعي سابق عانى من سجون عبد الناصر، لكنه في الرواية معارض للسادات الذي فتح الباب للتيارات الدينية المتخلفة والوهابية الرجعية.

في كتابة هذه الرواية، هل اعتمدت أكثر على الذاكرة أم على كتب عن تلك الفترة؟

اعتمدت على الذاكرة إلى حد كبير لأنني عشتها وتوزعت روحي بين شخصياتها. لكن أيضًا اعتمدت على الصحف للتوثيق للأحداث وعلى بعض الكتب في تقديم معلومات صحيحة عن بعض الأماكن، وكتبت ذلك كمراجع للرواية. ولقد فعلت ذلك من قبل في روايتي السابقتين، “لا أحد ينام في الإسكندرية” و”طيور العنبر”.

هل تم اعتقالك لأسباب سياسية وقت حكم السادات؟

لم يتم اعتقالي أيام السادات لكن -وكانت هذه مفارقة مضحكة- تم اعتقالي أيام مبارك عام 1985، واتهمت بالانتماء إلى تنظيم تروتسكيّ. وكان هذا شيئًا مضحكًا. لم يختلف مبارك عن السادات في تلفيق التهم للمعارضين اليساريين أو المثقفين بشكل عام. وأذكر أني ضحكت وقوات أمن الدولة تقتحم بيتي عند الفجر وقلت للضابط لقد تأخرت كثيرًا.

كيف ترى تأثير الاعتقالات السياسية على كتاب جيل السبعينيات؟

مؤكد أن الاعتقالات تركت أثرها على الكتاب وبعض أعمالهم في الرواية والقصة القصيرة أيضًا، لكن ذلك لم يجعلنا جميعًا نكف عن التجديد في الأشكال الأدبية. بمعنى أن السياسة لم تجعلنا نكتب أدبًا مباشرًا، وكانت هذه من أهم ملامح الكتابة. فرغم أن حياتنا مفعمة بالمعارضة والنضال، إلا أن أننا نعرف أن الأدب في النهاية نشاط روحي أكثر مما هو عقلي، وأن الكتابة لا يجب أن تكون صحفية ولا زاعقة وأن الفن غير السياسة.

في الشعر الذي جاء لسان نادر “تمتزج قصة حبي الضائع بالشعب الذي كان سعيدا”، هل تمثل يارا جزءًا أكبر من المجتمع، أم هل هي حب مصر المفقود؟

أميل إلى أن تكون حبًا مفقودًا، لكن الأمر متروك للقارئ في النهاية. بعض القراء اعتبرها تمثل الإسكندرية ومصر، وبعض القراء اعتبر كاريمان وليست يارا تمثل الإسكندرية ومصر خاصة أنها عانت من زوج أمها السلفي الكاذب. يارا عانت من البوليس وأمن الدولة وكاريمان عانت من الوجه الآخر للنظام القبيح.

كيف رسمت هذه الشخصيات وجمعتها معاً؟ هل تمثل هذه الشخصيات أشخاصًا حقيقيين تعرفهم؟

بعضهم قابلته في الحياة، وبعضهم زاملته وزاملني أيام الجامعة، لكن أيضًا بعضهم من الحياة من حولي بعيدًا عن العلاقة الشخصية، وأيضًا من العمل الأدبي نفسه أثناء الكتابة. فأثناء الكتابة تأتي وتخرج شخصيات لم يفكر فيها الكاتب. وفي النهاية توزعت روحي وثقافتي ومعرفتي عليهم جميعًا، وإن كان “نادر” الشاعر، قد أخذ منها النصيب الأكبر- من روحي.

ترصد روايتك بدايات ازدياد النشاط الديني في مصر. ككاتب و كشاهد على العديد من الحراكات السياسية في مصر، كيف تحاكي روايتك مصر الأن، هل هنا أوجه تشابه؟

كما قلت لك من قبل. الرواية دون أن اقصد بها نبوءة بما جرى في مصر بعد السبعينات وحتى الآن. وكما قلت لك لقد أرشدني القراء إلى ذلك.

الرواية تسلط الضوء على ذبول الهوية الكوزموبوليتانية الإسكندرية. كيف ترى الإختلاف  بين الإسكندريتين؟

الاختلاف كبير جدًا. الإسكندرية الكوزموبوليتانية مدينة للعالم وللمصريين والأجانب وللمسلمين والمسيحيين وكل الملل والأديان. الإسكندرية منذ السبعينات مدينة وهابية لا تعترف حتى بالمصريين المسيحيين رغم أن كنيسة الإسكندرية هي كنيسة الأرثوذوكس في الدنيا كلها وقبل الإسلام. الإسكندرية كانت قطعة من أوروبا في المأكل والملبس ونظام البناء والطرق وغير ذلك مما رصدته الرواية وضاع وصارت مدينة متزمتة عشوائية في كل شيء. الإسكندرية كانت أول مدينة في مصر عرض فيها فيلم سينمائي عام 1895، وهو فيلم الأخوين لوميير بعد عرضه في فرنسا بعدة أشهر. صارت مدينة هدمت سينماتها لتقوم مكانها عمارات ومولات وورش، هدمت ملاهيها ومراقصها، حرمت فيها الموسيقى في الحدائق كما كان قديمًا، حرمت فيها الأزياء النسائية العصرية وصار الحجاب والنقاب [سائدين] وهكذا كثير جدًا مما رصدته الرواية. الإسكندرية تحولت من مدينة تطل على البحر المتوسط إلى مدينة تطل على الصحراء.

هل يمكن أن تلقي الضوء على مشروعك القادم؟

مشروعي القادم هو رواية ستنشر هذا الأسبوع عن القاهرة عنوانها “هنا القاهرة”، هي بدورها أيضًا إطلالة على القاهرة في السبعينات وكيف رآها البطل الغريب لأول مرة وكيف عاش فيها. الآن أنا في راحة ستمتد عدة أشهر أكتب مقالاتي الأسبوعية عن أحوالنا، لكن لم أفكر في رواية أخرى بعد. الانتهاء من رواية يجعلني أنتظر شهورًا لأعود إلى عالمي الخيالي الجميل.

مراجعة أدبية للرواية “الإسكندرية في غيمة: قدّاس مكتظّ لراحة نفس المدينة” بقلم نسرين سالم

**اذا كان لديك اهتمام باجراء مقابلة مع أحد الكتّاب المذكورين أو بمراجعة احدى الكتب الرجاء ارسال بريد الكتروني لعنوان [email protected]

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية