بقلم ميساء الخضير
من هو “أنطوان الدويهي” في سطرين؟
أنا كاتب من لبنان. منذ حداثتي، أدركتُ أنّ دعوة الكتابة هي دعوتي. كنتُ ولا أزال مهجوساً ب “الكتابة المطلقة”. إضافةً إلى المشاعرالكبرى،عن عبور الزمن، والحبّ، والغياب، والعنف، والظلم، وهشاشة الجسد، وجراح الروح، وجراح الطبيعة، والموت، ثمّة همّان لديَّ: الحريّة والجمالية.
تأتي “حامل الوردة الأرجوانية” بصوت الراوي وحيدا. كيف تختار الصوت في الرواية ولماذا اعتمدت على الصوت الوحيد في “حامل الوردة الأرجوانية”؟
كلّ أعمالي السرديّة والروائية تأتي بصوت واحد، هو صوت الراوي، من “حديقة الفجر” (1999) إلى “حامل الوردة الأرجوانية” (2013). لا أرغب في كثرة الأصوات. مع أنّ الراوي ليس هو أنا حتماً ، فإنّي أتماهى كثيراً معه. كما أنّ أعمالي، وهذا هو الأكثر دلالة، مستمدّة من عالمي الداخلي. هو عالم واحد، يتحدّث عنه هذا الصوت الواحد. ربّ قائل : هل يتّسع المدى الداخلي، هل تتّسع الحياة الداخلية، لكلّ هذه العوالم الروائيّة؟ كما ذكرتُ مرّةً، الحياة الداخلية هي أوسع وأغنى من ذلك بما لا يُقاس. إنّها الكون برمّته. وحين تنطفىء الحياة الداخلية في هذه الذات أو تلك، ينطفىء الكون.
لماذا تكتب؟ وهل هناك هدف معين من ممارستك للكتابة؟ هل تستهدف أحدا أم هي عبارة عن إبداع خالص؟
أكتب لأن هذه هي دعوتي. لا أستهدف أحداً مباشرةً. الغاية من فعل الكتابة لديَّ جمالية وإبداعية. فطالما اعتبرتُ نفسي شاهداً، أشهدُ لِما أنا فيه، ولِما أنا موصول به من عوالم. أسعى إلى الإضاءة، قدر ما تتيحه لي اللغة، على تلك اللحظات، على تلك الحالات، الغنيّة، الفريدة، الكثيفة، المعبّرة، التي يمكنها احتواء كلّ شيء، واختصار كلّ شيء. أعتقد أيضاً بأنّ الكتابة لديَّ هي، في جوهرها، ردّ على الموت.
هل تتوافر على رؤية مسبقة لنصك الروائي أم تتداعى لديك الكتابة تلقائيًا؟
هناك بالطبع رؤية مسبقة يتكوّن منها النّص الروائي لديَّ، هي المنبع والأساس وبوصلة المسار. مع ذلك، الرؤية عندي لا تقوم على فكرة أسعى إلى معالجتها، أو موضوع أعمل على توسيعه، كلا. إنّها تنبثق من هاجس، أو شعور، أو حلم، يكون مهيمناً عليَّ. لكن الكتابة الروائية هي عمل طويل، يمكن أن تتخلّله، على نحوٍ تلقائي، أمورٌ عديدة. إنّه كالنهر، تخرج منه وتعود إليه سواقٍ كثيرة. المهمّ أن لا تنأى به هذه السواقي عن مجراه الكبير وتجعله يتيه، بل أن تغنيه وتندمج عميقاً في مجراه الواحد، في عالمه، وحركته، ورؤيته.
ما هو شعورك حيال ترشيح روايتك للبوكر العربية؟
أفرحني ذلك. في مكانٍ ما في داخلي، كأنّي لم أفاجأ به حقّاً، لا أدري. أشعر بما يشبه العزاء، والأخوّة الجمالية والروحية، لأنّ أحداً ما، لأنّ موقعاً ما، في هذا العالم العربي الشاسع، الذي هو عالمي، تفاعل على هذا النحو مع “حامل الوردة الأرجوانية” وأحبّها واختارها، وهي رواية تنطوي على مسارٍ شعوري، وأدبي، وجمالي، وإنساني، على قدر من الخصوصية. مع الاشارة إلى أنّ مجمل أعمالي الأدبية صدر قبل ظهور البوكر العربية، و”حامل الوردة” هو العمل الوحيد المنشور بعدها.
هل يكتب الدويهي للناس عموما أم لفئة معينة؟ وهل يخفف الاستهداف من إبداعية النص ولجوء الكاتب إلى التفصيل؟
في الحقيقة، لا أفكّر في ذلك قطّ. ليس لديَّ من استهداف لفئة معيّنة من الناس أتوجّه إليها في ما أكتب. لذلك لا آخذ مثل هذا الأمر في الحسبان، ولا تأثير له البتّة على إبداعية النّص لديَّ . بالنسبة إلى “لجوء الكاتب إلى التفصيل”، هل المقصود به اللجوء إلى تفاصيل محدّدة لإرضاء هذه الفئة أو تلك من القرّاء؟ هذا الأمر، في أيَّ حال، غير وارد عندي، ولا يراودني قطّ.
من أين تأتي بأفكارك لبناء الشخصيات؟ هل هي حقيقية، من وحي الخيال أم مزيج من هذا وذاك؟
الشخصيّات الروائية التي أرسمها آتية من عوالمي الداخلية. لذلك هي في مجملها حقيقية وليست من وحي الخيال. لا بدّ أن يشعر القارىء بمدى حقيقتها. لكنّها لا تبقى على حالها. تحتفظ بأساسها وجوهرها، لكن جوانب عديدة فيها تبقى عرضة للتغيُّر والتحوّل.
حدثنا عن رأيك بالرواية العربية بشكلها الحالي؟ هل تعتقد بأن الرواية العربية قد بدأت تتجاوز محليتها؟
هناك اليوم انتاج روائي غزير في العالم العربي، يتّسم بقدر كبير من التنوّع، وفقاً لتنوّع البيئات العربية في مداها الجغرافي الشاسع. في أيّ حال، الرواية هي النوع الأدبي المهيمن على العصر. ربما بدأت الرواية العربية تتجاوز محليّتها، لكن لا يمكن القول إنها تتمتّع بانتشار عالمي. ثمّة مسافة كبيرة لا بدّ من اجتيازها. مؤسسة مثل البوكر العربية يمكنها أن تؤدّي دوراً مهمّاً ومؤثراً في هذا المجال. إن على صعيد نشر الرواية في مختلف أنحاء العالم العربي، أو على صعيد تشجيع نقل الابداع الروائي العربي إلى لغات العالم، خصوصاً ما يتمتّع منه بأبعاد جمالية وإنسانية، تمكنّه من اختراق الحدود والثقافات وولوج روح العصر.
ماذا كان دافعك لكتابة “حامل الوردة الأرجوانية”؟ هل أثرت الأحداث الجارية في المنطقة على هذا الدافع؟
كان الدافع إلى كتابة “حامل الوردة الأرجوانية” هو هاجس الخوف من فقدان الحريّة. بدأ هذا الخوف قبل الأحداث التي تشهدها المنطقة بسنوات، ثمّ تفاعل في صورة ما معها. نشأ الخوف لديَّ عند عودتي من هجرتي الباريسية الطويلة أواسط التسعينات، ثم اشتدّ أكثر فأكثر مطلع العقد الأخير من الزمن. هالني تسرّب شبح الاستبداد المقنّع إلى المكان اللبناني الذي لم يعرفه من قبل، ولمستُ مدى قوّته واتّساع رقعته. كنتُ اتساءل إذا ما بقي حقّاً من حرمة وحصانة لمكان أو منزل في هذه البلاد، التي بدت متروكة آنذاك لشأنها، من قِبل العالم أجمع. كنت اعتدتُ السهر في بيتنا المحاط بحديقة البرتقال المسوّرة، بعد أن يكون الجميع استسلم للكرى. في الليالي الشديدة المطر، حين تعصف الرياح العاتية في الخارج على مدى سهول الزيتون وصولاً إلى جبل المكمل، كنتُ أنظر من وراء بلوّر النافذة الكبيرة إلى المشهد الغارق في الظلمة، وتنتابني الخشية من سماع وقع أقدام مجهولة على الدرج الخارجي وطرق على الباب. كان ثمّة خوف في الهواء.من هذه الخشية تكوّنتْ “حامل الوردة الأرجوانيّة”، التي هي في الأساس قصّة اعتقال كاتب. تداخلت الرواية مع عوالم الهجرة. كما تأثّرتْ بالاهتزاز الكبير الذي انتاب المنطقة في السنين الأخيرة، خصوصاً في صياغة نهاية الرواية وما تفتحه من آفاق. لكن كلّ هذه المعطيات تأتي في صورة ضمنية، بعيدة من المباشرة، ما يوليها تأثيراً أشدّ، وقدرة إيحائية أشمل وأعمق، كما أعتقد.
أين تكمن خصوصية قلم الكاتب عموما ولديك تحديدا؟ هل في اللغة والأسلوب أم في الفكرة ومعالجتها؟
أودّ الذهاب أبعد من ذلك وتجاوز هذه العناصر. أودّ طرح التساؤل الآتي : “بماذا يختلف الأدب الكبير عن سواه؟”. ثمّة فوضى في النظرة المعاصرة إلى الآداب والفنون، لم يعرفها ربّما أيّ زمن. أعتقد، من جهتي، أنّ الأدب الكبير الذي يجب أن يتوق المرء إليه، هو إعادة تظهير العالم، تظهيرعالم جديد على صورة الكاتب ومثاله. ولا بدّ أن يكون هذا العالم فريداً، وغنيّاً، وموحّداً، وشعريّاً في جوهره. ليس من أدب كبير إذا لم تكن له فرادته وشعريته. وينطبق ذلك على جميع الأنواع الأدبية. كما أودّ أن أضيف أمراً آخر. أعتقد أنّ ما يميّز العمل الأدبي، أو الفنّي، الكبير، أنّه يكون موجوداً بأكمله، وجوداً مسبقاً، في ذات الكاتب، ويكفي لتحقيقه شعورٌ ما يدلّ عليه، كأنّه مفتاحه، والبقيّة تأتي كفعل تأليفي ولغوي لا أكثر. لا أدبَ كبيراً ربّما غير هذا. لذلك، في حال مثل هذا العمل الابداعي، غالباً ما تتوالى أعمال المؤلّف كلّها وكأنّها عمل واحد، ويكون له أسلوبه الواحد ولغته الواحدة التي هي لغة نفسه. وغالباً ربما ما تكون لغته وأسلوبه مكتملين بلا تغيير، منذ البداية. لكن لا يمكن التعميم في ذلك.
هل تركز على الرواية كعمل فني أم أن تركيزك الأكبر على معالجة الأفكار وإيصال رسالة؟
أنظر إلى الرواية كعمل فنّي. الأمور الأخرى تأتي بعدئذٍ من تلقائها، بقدر ما تتيح لها الرؤية الفنّية ذلك.
هل تستحوذ الرواية على مساحة من حياتك أم هي مهنة كباقي المهن؟
قمتُ بأعمال كثيرة في حياتي. تخصّصتُ في الأدب الفرنسي، وقمتُ بتدريسه قبل هجرتي. كما تخصّصتُ في علم الاجتماع، وأكملتُ علومي العليا بحصولي على دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، وهو علم الحضارات المقارن، من جامعة باريس الخامسة- السوربون. وأنا عملتُ كأستاذ جامعي في هذا المجال منذ عودتي إلى بلادي أواسط التسعينات، ولي فيه مؤلّفات أكاديمية والعديد من المقالات. وخلال إقامتي الباريسية، على مدى عشرين عام، وبعد انجازي علومي، عملت كمحلّلٍ للعلاقات الدولية وللشؤون الأوروبية في بعض الصحافة اللبنانية المهاجرة آنذاك، وصدرتْ لي مقالات كثيرة عنها.
كلّ ذلك يدخل في باب العمل والمهنة، أمّا الكتابة الأدبية فلا تدخل إطلاقاً في هذا الباب. هي دعوة حياتي وغايتها، خصوصاً بالمعنى الذي قصدتُه عند اجابتي عن أسئلتكِ 1 و2 و3 و10. ليست الكتابة السردية والروائية فقط التي تندرج فيها “حديقة الفجر” (1999)، و”رتبة الغياب” (2000)، و”الخلوة الملكيّة” (2001)، و”عبور الركام” (2003)، واخيراً “حامل الوردة الأرجوانية” (2013)، بل أيضاً الكتابة الشعرية، كما في “كتابُ الحالة” (1993)، الذي يحتوي جوهر عالمي الشعري. كذلك كتابة يوميات الحياة الداخلية، التي أوليها منذ صباي الأوّل، الكثير من الاهتمام.
هل يخشى الدويهي القارئ ورد فعله؟ وهل ينعكس ذلك على كتابتك للرواية؟
لا أخشى ذلك، ولا ينعكس على كتابتي في شيء.
هل تراعي الفروقات بين القراء بحيث تحترم القارئ النهم والقارئ البسيط؟ وكيف تكون لغة الكاتب بسيطة دون ركاكة أو سخافة في رأيك؟
لا أفكّر في ذلك كلّه. ولغة الكاتب تكون هي لغة نفسه، أو لا تكون.
مراجعة لكتاب “حامل الوردة الأرجوانية” بقلم ميساء الخضير.
**اذا كان لديك اهتمام باجراء مقابلة مع أحد الكتّاب المذكورين أو بمراجعة احدى الكتب الرجاء ارسال بريد الكتروني لعنوان [email protected]