ما أُريدَ له أن يكون تمثيلا لعينات من آراء عامة الناس في الشارع، ينشرها أو يبثها الإعلام إلى جانب أكوام تصريحات وآراء المسؤولين والنخب، أضحى تضليلا إعلاميا للقرّاء. قلّة من وسائل الإعلام تستطلع رأي الناس في الشارع، وكثرة من هذه الاستطلاعات يتم فبركتها وتزويرها، أو على الأقل إساءة استخدامها وتفسير نتائجها.
فمن استطلاعات الرأي اللافتة في وسائل الإعلام كان في صحيفة “المقر” الالكترونية التي أعدت استطلاع رأي فيديوي لعينة عشوائية في الشارع، تضمنت 15 رجل وامرأة من أعمار مختلفة، أجابوا على سؤال بسيط: “هل تعرف صاحب هذه الصورة؟” (صورتي أمين عمان عقل بلتاجي ورئيس مجلس النواب عاطف الطراونة). وعرضت “المقر” نتائج الاستطلاع من دون التعليق عليه.
لنحاول تصور دوافع “المقر” في اختيار أمين عمان ورئيس مجلس النواب لاستطلاع مدى معرفة المواطنين بهما. يمكن تفسير اختيار أمين عمان بأن الاستطلاع تزامن مع الأزمة الثلجية وللأمانة دور رئيسي في إدارتها. ويمكن أن يكون سبب اختيار رئيس مجلس النواب لكونه أبرز مسؤول منتخب.
ولنتائج الاستطلاع تفاسير عدة، منها أن عدم معرفة غالبية المشاركين بكلا المسؤولين يرتبط بدور الإعلام الرئيسي في شهرة المسؤولين وتحديدا صورهم. فنسبة تغطية الوزراء في الإعلام عموما تفوق تغطية أية مؤسسة حكومية أو غير حكومية أخرى، مثل أمانة عمان ومجلس النواب. كما أن كلا المسؤولين تسلما المنصب مؤخرا.
وللطراونة خصوصية إضافية، فهو لم يحظ بالاهتمام الإعلامي الذي حظي به سالفوه من رؤساء مجلس النواب لأسباب تتعلق بتوجهاته السياسية التي لا تمثل الجهات الرسمية المؤثرة على الإعلام، ولكونه لا يتمتع بالكاريزما والخبرة في التعامل مع الإعلام وهي المواصفات التي تتطلبها صناعة النجوم بغض النظر عن أدائهم السياسي. فنتخيل لو أضافت “المقر” صورة النائب يحيى السعود إلى الاستطلاع. على الأرجح أن يكون معروفا أكثر من رئيس مجلس النواب نفسه، ليس لأدائه النيابي وإنما لما يحظى به من اهتمام إعلامي وهو صانع أكشن بامتياز.
سؤال افتراضي آخر يثيره استطلاع “المقر”: ماذا لو قارنا بين نتائج الاستطلاع الذي يظهر فيه أن غالبية المواطنين المستفتين لا يعرفون من هما أمين عمان ورئيس مجلس النواب، وبين استطلاعي الرأي الأخيرين لمركز الدراسات الاستراتيجية عن شعبية الحكومة، وتضمن كل منهما سؤالا عن رأي المواطنين بتعديلات قانون المطبوعات والنشر وسؤالا عن رأيهم بمبادرة “زمزم”. وتظهر النتائج معرفة المواطنين بتفاصيل قانون المطبوعات والنشر وأن غالبية المشاركين يؤيدون حجب المواقع الإخبارية، وأنهم مطلعون ومهتمون بمبادرة “زمزم” التي أطلقها مجموعة من المنشقين عن جماعة الإخوان المسلمين.
ولكم أن تصدقوا أيا من الاستطلاعين.
عودة إلى استطلاعات الرأي التي تعدها وسائل الإعلام. يمكن التعليق أيضا على استطلاع موقع وتلفزيون الحقيقة الدولية الذي خرج بنتيجة قاطعة عن أن “أغلبية المواطنين يؤيدون إعادة العمل بعقوبة الاعدام” عنوان استطلاع تلفزيوني أسقط عليه معد التقرير موقفه المؤيد لعقوبة الإعدام. فكان استطلاع رأي ستة من المواطنين في الشارع كافيا لصاحب الاستطلاع لكي يعمم النتيجة على المواطنين جميعا. تعميم بدأ من العنوان واستمر حتى نهاية التقرير.
كان استطلاع رأي ستة من المواطنين في الشارع كافيا لصاحب الاستطلاع لكي يعمم النتيجة على المواطنين جميعا
إشكالية الاستطلاع تبدأ منذ اختيار قالب إعلامي غير ملائم لمعالجة قضية كبيرة. فمنفذ الاستطلاع اختار أن يقوم باستفتاء سريع عشوائي لستة أشخاص فقط ليخرج بحكم كمي على قضية جدلية كعقوبة الإعدام. والنتيجة بالتأكيد ستكون مضللة أو على الأقل غير دقيقة. كان الأجدى بالتقرير الإعلامي أن يعالج القضية بطرح أسئلة مفتوحة تحفز النقاش وعرض الآراء المختلفة من زاوية أوسع من ثنائية “المعارضة والتأييد” والنسب والأرقام.
موقع خبرني كان أقرب للدقة عندما حدد في عنوانه أن نتيجة استطلاعه الالكتروني لـ”أولويات مقترحة للحكومة” تمثل “قراء خبرني” فقط، وكذلك عندما وصف الاستطلاع بأنه “غير علمي”. لكن الأهم في التأثير على نتائج الاستطلاع هو اختيار الموقع الالكتروني للاختيارات التي يقدمها للقارئ وصياغتها، تماما كأهمية نوعية الأسئلة المطروحة على المستطلعة آرائهم في الشارع.
ففي استطلاع خبرني جاء خيار “فرض هيبة الدولة” للدلالة على أولوية الأمن في حياة الناس، وخيار “تنمية المحافظات وتوفير فرص عمل للأردنيين” كمؤشر لأهمية العامل الاقتصادي. لكن لا يمكن تفسير فصل “قانون انتخاب ديمقراطي” و”تعزيز الحريات العامة وحقوق الإنسان” في خيارين منفصلين. فالأول جزء رئيسي من الحقوق السياسية للإنسان. وفصلهما في خيارين شتت الأصوات بينهما فبدت حقوق الإنسان كمسألة ثانوية ليست من أولويات المواطنين ولم تتجاوز نسبتها 4% من المشاركين في الاستطلاع. وبذلك أظهر الاستطلاع انشغال المواطنين أولا بالهاجس الأمني ثم الاقتصادي ويليهما بفارق كبير حقوق المواطنين وحرياتهم بأصوات مشتتة بين خيارين.
ولماذا أصلا توضع جميع القضايا الملحة ضمن أولويات لا يمكن للمشارك في الاستطلاع سوى اختيار واحدة منها؟ وكأن الحكومة بوزاراتها المختلفة لا تستطيع العمل على أكثر من ملف بالتوازي.
أسئلة عديدة وغيرها الكثير تثيرها استطلاعات الرأي التي تعدها وسائل الإعلام، إما كسل واستسهالا من دون عناء التفكير في أهدافها، أو استخفافا بعقول الجمهور في استطلاعات مفبركة وموجهة، تصنع رأيا ولا تنقل الآراء.