ظهرت هذا المراجعة باللغة الإنجليزية على موقع “الأدب العربي باللغة الإنجليزية” في 6 شباط/ فبراير. وقد وصلت رواية “فرانكنشتاين في بغداد” إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية التي أعلنت في عمّان اليوم الإثنين.
بقلم المصطفى نّجار
“هل سبق لك أن رأيت قطعة ذهبية من الخراء؟” يسأل محمود سوادي، صحفي عراقي ناشئ، نوال الوزير، مخرج يعمل على فيلم عن “الشر الذي نتشارك فيه جميعا ولكننا ندعي محاربته “. بالرغم من أننا كقرّاء لا نتوقع أن نتلقى جواباً على سؤال محمود البلاغي، هذا المفهوم المتناقض يهيمن على رواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد السعداوي.
فالنسبية الأخلاقية هي الموضوع الغالب في الرواية التي تسرد حكاية رجل، من الممكن أن يوصف بأن “رائحة الخمرتفوح منه” وأنه “قذر المظهر ” و”ذو شخصية غير ودية”، يشرع في حملة “نبيلة ” وهي أن يهيم في شوارع بغداد التي مزقتها الحرب الأهلية بحثًا على أعضاء بشرية طازجة.
فهادي العتاق مضطرب من واقع أن ضحايا التفجيرات الانتحارية وأعمال العنف الطائفية في بغداد يتناثرون إلى أشلاء ولا تتلقى جثثهم حتى احترام أن تشيّع من خلال مراسم دفن لائقة ، فيقرر هادي أن يجمع (حرفياً) الأعضاء المتناثرة وأن ويكوّن منها جثة، ليعطيها مراسم دفن لائقة بدلا من أن تترك في الشارع وتُعامَل مثل القمامة.
بالرغم من نواياه الحسنة، هادي تلاحقه حتى الصفحة الأخيرة من الرواية مشاعر متناقضة تجاه خلق هذا الوحش الفرانكنشتايني وبالتالي ما أقحم نفسه فيه. وهادي يذكرنا بشخصية “فون” من كتاب بالارد المشهور “التحطّم” الذي ُنشر في السبعينات ويصف فون ك”ملاك الكوابيس من الطريق السريع” .هادي يتابع مشاهد التفجير في بغداد “بحثاً عن شيء وسط مهرجانات الدمار والخراب”. وعندما يجد هذا الشيء (وهو أنف الإنسان حسب السرد)، يقوم هادي بالتقاطه بدم بارد ويلفه بكيس من الخيش و يطويه ويضعه تحت إبطه ثمّ يترك المكان على عجلة من أمره إلى منزله العتيق في حي البتاوين المكتظ في العاصمة العراقية .
وعند انتهاء تجميع المخلوق، في يوم ربيعي جميل خلال موسم انبثاق براعم الزهور،تقوم جثة الهجين الى الحياة وتنطلق إلى رحلة للثأر لأولئك الناس الذين شكّلت أعضائهم جسده . هادي، وهو في حالة إنكار، يقنع نفسه أن “الشسمه” ليس سوى مجرد نسج من خياله .وبالرغم من حالة الانكار الذي هو فيها، يفاجئ هادي القرّاء بقصّ حكايته إلى الزبائن المتراخين في مجالسهم في مقهى بغدادي. وهذه هي الطريقة التي يسمع بها الصحفي محمود لأول مرة عن “الشسمه” أو فرانكشتاين أو “المجرم X” الذي سوف يروع بغداد بعد فترة قصيرة. فيكتب محمود مقالاً عن الجثة الحيّة على شكل سلسلة من ” الأحداث الغريبة ” المتورّط فيها مجرمون لم يموتوا بالرغم من اطلاق النار عليهم في بغداد.
عدم إمكانية توافق الآراء نحو طابع “الشسمه” جزء واضح من الرواية، وتبقى الجثة الحية مفتوحة للتأويل
وفيما يواصل “الشسمه” انتقامه يدرك أنه بحاجة إلى “قطع غيار”، وهي مهمة خصصها لأتباعه. وبالرغم من أنه حذّر أتباعه من اعطائه أجزاءاً مأخوذة من المجرمين، سرعان ما يكتشف “الشسمه” أن نصف جسده يتكوّن من لحم المجرمين. وعند هذه النقطة، تخضع هذه الجثة الحيّة التي ادعت أنها مثال للعدالة الإلهية لعملية تحول الى الأسوأ، فيصبح “الشسمه” مشغولاً بسؤال واحد بسيط: “ما مدى إجرام المجرم؟”.
عندما يُهدد بامكانية فقدان بصره يقتل “الشسمه” رجلا عجوزاً بريئاً في الشارع و يأخذ مقلتيه. وبالرغم من أنه يعترف أن ما فعله ليس “خياراً مثالياً ” يقنع “الشسمه” نفسه أن هذا كان أفضل حلٍ لمواصلة مساعيه “الكبرى” التي تتمثل في ” اختيار قطع الغيار التي يحتاج من جثث الذين يستحقون القتل”.
عدم إمكانية توافق الآراء نحو طابع “الشسمه” جزء واضح من الرواية، وتبقى الجثة الحية مفتوحة للتأويل. على الرغم من انه يشعر بالقرب منه ، لا يستطيع هادي ألا يتسائل عن النوايا الحقيقية لهذا المخلوق. و نظراً لعدم قدرته على تحليل أفعال الوحش،يقرر هادي ن ينأى بنفسه عنه ويّدعي أنه غير موجود.
إيليشوا، وهي سيدة عجوز تقطن المنزل المجاور لهادي، تجد في “الشسمه” انعكاساً لابنها دانيال الذي اختفى قبل عشرين عام في الحرب العراقية الإيرانية. لتقضية الوقت، تشغل إيليشوا نفسها في حوار صامت مع صورة القديس جورج الذي تتضرع له لأن يعيد ابنها. ومن الجدير بالذكر أن إيليشوا تنفّس عن أشواقها لابنها من خلال أيقونة القديس جورج والتنين، وهذه الأيقونة تمثّل رمزاً مسيحياً يُظهِر في الأبيض والأسود الصراع بين الخير والشر، ومع ذلك ، فالرمز يفشل بإظهار من يخرج منتصراً: القديس الذي يفترض أنه يمثل ما هو جيد، أو التنين الذي يعتبر عادة رمزا للشيطان .وبالرغم من أنها تجد راحة في الحديث إلى الصورة الصامتة، إيليشوا لا تخفي حقيقة أنها “تحب وجهه الوديع ولكنها تكره زيّه ومظهره العسكري. “
فرانكشتاين في بغداد رواية تلتقط لحظة ما في الوسط كما تصف إيليشوا الأيقونة. فليس هناك من هو مجرم بحت أو ضحية بحته في زمن الحرب: كل لديه قليل من كلى الصفتين، حتى القديس طبيعته متضاربة.ولتقديم وتطوير هذه الفكرة يستخدم السعداوي جريمة القتل، كعمل يفترض وجود هويتين اثنتين واضحتي الكيان: المجرم والضحية.
وعلى الرغم من أن “الشسمه” يعمل بدافع الرغبة في الانتقام للضحايا الأبرياء ينتهي به المطاف إلى ارتكاب الجرائم. وبالتالي طبيعة المفارقة على الحكم المطلق الأخلاقي : الجناية رجل واحد قد تكون مناضلة رجل آخر .الرواية يمكن أن تقرأ على أنها محاولة للسخرية من الإحساس المطلق الأخلاقي الذي يصنف الناس إلى أبيض وأسود ، وهو ميل يوظّف في الكثير من الأحيان كمحفز للحرب.
احتفاءً بقدرة رواية “التحطّم” على تثبيط القراء من إصدار أحكام الأخلاقية قال جان بودريار: “لا مكان في الرواية لأن تظهر النظرة الأخلاقية “. من خلال التأكيد على نسبية القيم، “فرانكشتاين في بغداد” هي الرواية التي تعلق اتخاذ حكم أخلاقي .
السعداوي لا يعطي المخلوق اسما معينا . بدلاً من ذلك، تجد في هذا المخلوق كل شخصيّة وسيلةً لتحقيق غاية لها: للجنرال سرور”الشسمه “هو فرصة لترقيّة منصبه، لمحمود هو مادة إخبارية ساخنة، ولإيليشواهو الابن الذي خسرته .
لنعود إلى لغز محمود: ” هل قطعة ذهبية من الخراء هي قطعة جميلة من الذهب أو مجرد قطعة أخرى من الخراء؟ ” فطالما يتوقع محمود أن يجد الجواب النهائي على هذا السؤال ، فمن غير المرجح أن الحرب في العراق سوف تتوقف.
المصطفى نجار مترجم وصحفي سوري في “الشرق الأوسط”، وهو يحمل درجة عليا في “الآداب بعد عام 1900 والنظريات والثقافات” من جامعة مانشستر. وهو مقيم حاليا في لندن.