عن الضجر وغواية الأسئلة: رد على رشا الأطرش

السبت 15 آذار 2014
سياج «حدودي» في بلدة مجدل شمس في الجولان السوري المحتل.

منذ بداية الثورة السورية وجمهورها ومراقبوها يقلّبون فلسطين الفكرة والسياسة والناس. يتأبطونها معلنين إفرادهم الانتماء لها أو يلقون بها كافرين بدين أبائهم. مواقف من فلسطين بنيت بناءً على مواقف من سوريا، وانحيازات في سوريا تمت بناءً على انحيازات في فلسطين. وفي هذا التفاعل الذي قد يبدو متوترًا تذكير بضرورة خلق آليات تضامن وعمل عربية-عربية تتجاوز ما تسمح به الأنظمة والمعارضات التي لا تعيش بدون أنظمتها.

لكن هذه الفرصة غير ذات موضوع بالنسبة لرشا الأطرش التي تختار في المقابل عبر هذا المقال تقديم مفاضلة باطلة منطقيًا بين سوريا وفلسطين كبوصلة للأخلاق والسياسة، تثقلها التناقضات وتفسد واقعيّتها الدراما.

تحاول الأطرش ببساطة تفسير وجوب نقل لقب “قضية العرب المركزية” من فلسطين إلى سوريا التي ترى فيها “معيارًا” جديدًا للتفكير و”ميزانًا” للعلاقات، عاقدة لأجل ذلك منافسة مفتعلة ومختلة على عدة مستويات.

فهي تحاول قياس شدة “الوضوح” في القضيتين لتخلص إلى أن “فلسطين لم تكن، في ذاتها، أداة لقياس الصواب السياسي” بسبب تجاذب الأنظمة العربية لها واستخدامها لسد أفواه الجياع بالكلام. فالقضية الفلسطينية “أخلاقياً، ومن حيث المبدأ، هي قضية واضحة”، لكنها أنتجت تناقضات كثيرة سهلة الاستغلال. وحين يكون المستغِل هو قومية عربية فشلت في بناء دول و”أثبتت (..) أنها ليست سوى مَركَبة للاستبداد والقمع والتهميش”، وجب آنذاك أن يسقط المستغِل والمستغَل عن “عروشهما”.

لا ادّعاء آل سعود “لصداقة” سوريا يعيب ثورتها ولا استغلال الأسد لفلسطين يسمّم قضيتها إلا بقدر ما يتماهى ناس سوريا وفلسطين مع المتاجرين بهم وينصاعون لهم.

في المقابل، تقرر الأطرش أن “شيئاً لا يضاهي القضية السورية اليوم كمحكّ إنساني وتاريخي”، دون أن تنتبه أن المعيار نفسه الذي استخدمته آنفًا يعطي نتيجة مناقضة. فالقيمة التي تعليها الأطرش في الثورة السورية هي تساؤلها الملحّ والجسور حول الثوابت والمسلّمات، واستبدالها للثنائيات التبسيطية بمقاربات أكثر تركيبًا ووفاءً للتعقيد الإنساني. لقد فعلت الثورة السورية ذلك بحق، لكن أليست هذه القيمة نقيضًا للوضوح الذي تطالَب فلسطين به؟ أليست التعقيدات التي حولت الثورة السورية “من حراك سلمي إلى تمرّد فأزمة فحَرب” سهلة الاستغلال أيضًا؟ كما استغل نظام الأسد فلسطين كقناع عروبي وسيم يغطي قبح الديكاتورية، استغل نظام آل سعود سوريا لتصدّر مشهد دعم براعم الديمقراطية، بينما يقبع السعوديون في سجن كبير يحاول إذلالهم إلى حد الاقتناع بأنهم لا يريدون الحرية أساسًا.

لا ادّعاء آل سعود “لصداقة” سوريا يعيب ثورتها ولا استغلال الأسد لفلسطين يسمّم قضيتها إلا بقدر ما يتماهى ناس سوريا وفلسطين مع المتاجرين بهم وينصاعون لهم. لكن المفارقة هي أن تُلام فلسطين على إنتاجها تعقيدات ثقافية من قبيل تعميم “نظرة تنميطية لليهود” أو “نفي المحرقة النازية” (وكأن فلسطين تفرز بنفسها هكذا اعتقادات بمعزل عن إرادة ومصالح ووجود إسرائيل!)، بينما تُغفر –بل تمجَّد- تعقيدات الثورة السورية المتجسدة موتًا وخرابًا كثمن طبيعي لتطهير الجروح المتعفنة، بمنطق قدَري حالم ينكر المادة ويعلي التساؤل كباب لمستقبل أفضل، وكأن التاريخ يكتب من على أسرّة المتسائلين عن معنى الوطن.

الحجة الثانية التي تقدمها الأطرش لإثبات تفوق سوريا على فلسطين في المضمار الذي زجّتهما فيه، هي أن فلسطين “ظُلمت عندما صودرت من الفلسطينيين”، لتصير قضية عربية أولًا. في هذا الافتراض جهل متعدد الأوجه. فهو يساوي بين جميع الفصائل الفلسطينية في انصياعها لهذه “المصادرة”، كما يسطّح الطروح القومية لبعض هذه المجموعات ليرى فيها مجرد موافقة على التبعية. في المقابل، فإن تحسُّر الكاتبة على ما يبدو أنه فرصة ضائعة لتسليم القضية الفلسطينية للفلسطينيين منذ زمن يتجاهل أنه هذا التسليم تحقق فعلًا، وقدّم قبل عشرين عامًا أهم نتائجه في اتفاق قد يكون أول لقاء حقيقي للفلسطينيين مع احتمالية فناء قضيتهم الوطنية.

هل كان “الخيار الفلسطيني المستقل” -الذي تتأمل فيه الأطرش خيرًا- أكثر صوابًا عندما تُرك لقيادة كانت تتأهب منذ عقود للحظة الاستسلام؟ ألم تحوّل “فلسطنة” القضية الفلسطينية اللاجئين إلى خونة وفشلة في أسوأ الأحوال وزوار كريهين في أحسنها؟ ثم كيف يستقيم أن تحذر الكاتبة من مساوئ نقل قضية ما إلى مستوى عربي ثم تدعو لجعل قضية أخرى بوصلة بديلة لها؟

لا تهتم الكاتبة لكل هذه الأسئلة، فهي تبدي ضجرًا من ثقل القضية الفلسطينية وطول أمدها أكثر مما تقدم طرحًا فعليًا حول موجبات فلسطنتها. لذا، فهي حين تعيد تعريف فلسطين “باعتبارها فلسطينيين في اليرموك بدلاً من أرض مجرّدة لا يدخل أهلها في حسابات الشرف والكرامة”، لا تترك مسافة بين طرفي هذه الثنائية. فالقضية الفلسطينية إما قضية إغاثة إنسانية معدومة السياق يتساوى فيها الاحتلال بالكوارث الطبيعية، أو هي فكرة عن قطعة مسلوبة من الجنة، خارجة عن السياسة والتاريخ ولا مكان للبشر فيها.

ما تطلبه الأطرش من القضيتين هو أن تمارسا إثارة دائمة وأن تهدما سريعًا كل ما استقر، حتى يتسنى لمن هم خارج سوريا وفلسطين مراجعة معتقداتهم هم وإغناؤها بمسحة لاأدرية جذابة. أما السؤال عن خطورة ما يعنيه لفلسطين الانعزال أمام الحتميات وتفكيك معنى الصراع، وعن فداحة ما يتجسد في سوريا من جراء تساوي الأضداد في دورة تساؤل بلا نهاية، فغير مهم، بل مضجر ومستنفد في حالة فلسطين، وخائن للدم في حالة سوريا.

يبقى التأكيد على ما يحاول مقال الأطرش نفيه عن بعد، من أن وجود إسرائيل تهديد دائم ونافذ لسوريا. فالانهزامية المبثوثة في محاولات تفكيك مقولة “فلسطين هي البوصلة” تهمس بأن الصراع مع إسرائيل أثقل كاهل العرب الذي لم يدخلوه سوى استجابة لنداء النخوة. لذا، فعليهم أن يلتفتوا إلى أنفسهم ويستثمروا في قضاياهم القطرية التي لا تتقاطع القضية الفلسطينية معها في شيء.

ألم تستثمر معاهدة وادي عربة لسرقة مياه الأردن في أمس الحاجة لها أو لإغراق السوق الأردني بمنتجات زراعية إسرائيلية معينة؟ هل توقفت إسرائيل عن استنزاف ثروة مصر من الغاز بأسعار تفضيلية؟ 

لكن هذا السيناريو تحقق فعليًا دون أن يعود بشيء على القضايا القطرية. هل أحجمت إسرائيل عن قتل الأردنيين؟ ألم تستثمر معاهدة وادي عربة لسرقة مياه الأردن في أمس الحاجة لها أو لإغراق السوق الأردني بمنتجات زراعية إسرائيلية معينة؟ هل توقفت إسرائيل عن استنزاف ثروة مصر من الغاز بأسعار تفضيلية؟ ثم هل أنهت إسرائيل احتلال أرض سورية واختطاف جزء من شعب سوريا؟!

بشيء من القراءة المنطقية للواقع، لن نحتاج لبوصلات أخلاقية تتنافس على الهيمنة. فتسليم القضية الفلسطينية للفلسطينين لا يستتبع منطقيًا تحللًا من عداء إسرائيل، ولو كانت البلدان العربية جادة فعلًا في “التفاتها إلى أنفسها” ووضعها فلسطين جانبًا، لكانت أدركت تهديد إسرائيل لها وحاولت الدفاع عن نفسها مقابله من منطلق غريزي بحت لا “تلوثه” العروبة.

أما ارتباط قضايانا وتفاعلها المحتوم، حتى في عالم ما بعد إسرائيل، فذلك أمر لن نفهمه إلا حين لا يعود انتهاء إسرائيل ككيان استعماري توسعي عنصري مستحيل التصوّر. وإن كانت ثورة سوريا بتعقّد علاقتها بفلسطين قد كشفت شيئًا فهو ضرورة إعادة تعريف هذه العلاقة، بعيدًا عن هيمنة أنظمة السلاح والمال، وباحترام خصوصيات المجتمعين وتجاربهما، لا بتحميل فلسطين ذنوب الأنظمة العربية ولا بالاستخفاف بثمن الأسئلة.

الصورة في الأعلى قرب الحدود بين سوريا وسوريا، في بلدة مجدل شمس في الجولان المحتل.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية