صحافة تحت النار: مقابلة مع عبير السعدي

الثلاثاء 27 أيار 2014

في السنوات الثلاث الأخيرة انقلبت أحوال العالم العربي سياسيًا وأمنيًا، فوضعت دول الثورات العربية خانات تتراوح بين “مناطق توتر” و”مناطق نزاع مسلح”. هذه التحولات فرضت على الصحفيين في هذه الدول إعادة تقييم نمط عملهم، تحديدًا بعد أن أصبحت المخاطرة أعلى من يتم تجاهلها.

الصحفية المصرية عبير السعدي، ذات مسيرة 23 عامًا في العمل وتدريب الصحفيين، قدّمت خبرتها في التغطية الصحفية لمناطق النزاعات في دورات تدريبية في أكثر من تسع بلدان عربية. وبعد مقتل عدد من زملائها المصريين خلال عملهم الميداني، باتت قضية حماية الصحفيين أكثر أهمية بالنسبة لها، ما دفعها في شباط الماضي إلى تجميد عضويتها في نقابة الصحفيين التي كانت وكيلها احتجاجًا على عدم ضغط النقابة باتجاه فتح تحقيقات جدية لمحاسبة قتلة الصحفيين.

حبر قابل عبير السعدي على هامش مشاركتها في منتدى الإسكندرية للإعلام للحديث عن إعادة تعريف مناطق النزاعات بحكم التحولات الأخيرة، وإعادة تشكيل فهم الصحفيين لعملهم فيها.

حبر: كيف تغير فهم الصحفيين لمناطق النزاعات في السنوات الثلاث الأخيرة؟

السعدي: كنا نشعر أن مناطق النزاعات هي مناطق بعيدة نركب طائرات حتى نصلها، لكنها أصبحت مناطق تحت بيوتنا. أنا شخصيًا حدث تحت منزلي تبادل إطلاق نار. هذه الأصوات لم تعد أصوات استثنائية ولا حتى أصوات أتوقف عندها. أنا آسفة لتحول الأمور في هذا المنحى لكن هذه طبيعة المرحلة.

هناك عنف شديد، كان هناك ثورات هي حالة من الغضب يخرج فيها الشعب. هذه الحالة تتحول إلى درجة أكبر في العنف، إلى خلافات واشتباكات وحروب شوارع، في بعض الدول العربية تحولت إلى حروب حقيقية مثل الوضع في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن في بعض الأحيان.

كان دائما هناك قلة من الصحفيين يعملون كمراسلين حربيين، لأن المراسل الحربي يسافر مسافات بعيدة ليكتب، وكنا نعتمد (في أخبار الحروب) على التقارير الخارجية. لكن الآن أصبح المراسل الحربي أو مراسل النزاع هو صحفي عادي مثل صحفي الحوادث أو أي صحفي يغطي الأخبار أو القصص المصورة. لذا هناك تغيير حقيقي في هذه المفاهيم وفي طبيعة العمل الصحفي.

الميزة أننا لن نخترع العجلة، فالتدريب على العمل في مناطق النزاعات أمر لن نخترعه. لكن طبعا لن نأخذ الخبرات السابقة كما هي لأن الخبرات المحلية التي تشكلت تختلف من دولة لأخرى وبين مناطق في نفس الدولة، وتختلف من محرر إلى مصور صورة ثابتة إل مصور فيديو، ومن صحفي محترف إلى مواطن صحفي. هناك قواعد عامة لكن هناك أيضًا اللمسة المحلية، وأصبحت حتى الأدلة (الاسترشادية) التي يصدرها الاتحاد الدولي للصحفيين ولجنة حماية الصحفيين ومراسلون بلا حدود فيها إضافات حقيقية يقدمها الصحفيون المحليون خلال التدريبات.

ما الذي جعلك تشعرين بأنه لا بد من تغيير في فهم الصحفيين للعمل في مناطق النزاعات؟

حقيقةً أصعب لحظة هي لحظة استلام جثمان زميل أو زميل من مشرحة. إنها لحظات قاسية جدًا أن زميلاً هو غالبًا في سنوات العشرين (فالصحفيون الذين استشهدوا في مصر العام الماضي  كانوا 12 صحفيًا وصحفية كلهم في سنوات العشرينات) كنت تراه وتتحدث معه وتعرفه جيدًا وتعرف أحلامه وتسمعه يتحدث عن مستقبل طويل أمامه لتجده فجأة ممددًا أمامك فاقد الحياة، فاقد القدرة على الحلم لأنه لم يعد بيننا.

هذه اللحظة مهمة جدًا وأنا أستدعيها حين أقنع الصحفيين بأن لا خبراً يسوى حياتك، لا خبر يمكن أن يكون مساويًا لسلامتك الشخصية. فضلًا عن الشهداء، بعض الصحفيين وخاصة المصوريين فقدوا أعينهم في أحداث استهدفهم فيها قناصة. هناك حالة كبيرة من العنف ودائمًا مرتكب العنف يبحث عن الشاهد، والصحفي هو الشاهد الصامت الذي يستهدفه الجميع ولا أحد يريده موجودًا.

الإحصائيات العالمية تقول أن هناك 70 صحفي استشهدوا عام 2013، 49 قتلوا منهم في المنطقة العربية. وهناك 3 دول عربية احتلت المراكز الثلاثة الأولى. بالتأكيد سوريا التي تشهد حرب كبرى هي الدولة الأولى في قتل الصحفيين، إذ أن 55% من الصحفيين التسعة والأربعين قتلوا في سوريا. يليها العراق ثم يليها مصر. مصر تحديدًا ليست دولة في حالة حرب، وهذا يدق ناقوس الخطر لا بد أن يكون هناك ضمانات حقيقية لممارسة المهنة. العام 2014 بدأناه باستشهاد صحفيين، منهم الصحفية الشهيدة ميادة أشرف ذات ال23 سنة، وبعدها عدد من الصحفيين ـصيبوا برصاصات حية. كل ذلك ينذر بأن مهنة الصحافة تحولت من مهنة البحث عن المتاعب إلى مهنة البحث عن القتل.

ذكرت أن الصحفيين يجب أن يتعلموا التغطية الحساسة للنزاعات والتي لا تؤججها. كيف يمكن أن يفعل الصحفي ذلك ويظل في ذات الوقت دقيقًا ووفياً للقصة ولا يلطف الواقع؟

من المهم جدًا التدرب على الصحافة الحساسة للنزاعات. هناك تدريبات خاصة للكتابة عن التنوع في المناطق المتوترة، فهناك بعض الألفاظ وبعض المعالجات الصحفية تؤجج الصراع. كلمة إبادة أو مجارز مثلًا يجب أن تستخدم فقط في ما تشير لغويًا إليه. كما لا يمكن استخدام بعض العبارات المسيئة لبعض أطراف الصراع إلا عندما ننسبها إلى قائلها، لكن لا يمكنني أن أنقل بعض الإساءات لبعض الكيانات أو الأديان، ففي بعض الأحيان حين تنقل بعض العبارات أنت لا تضيف للمعنى لكنك تضيف للصراع. لا بد أن تكون كتابتك داعية للسلام.

بالتالي الصحافة الحساسة للنزاعات لا تعارض الدقة، بل بالعكس تدعو إلى أن يكون هناك مزيد من التدقيق والمعرفة وعدم تأجيج الصراع، لأنك بالنهاية تكتب لهدف وهو أن تنقل القضية للرأي العام لا أن تكون طرفًا في الصراع بتأجيجه سواء بقصد أو بدون قصد.

كيف يمكن الحفاظ على أولوية التحقق من المعلومات حين يكون التحقق صعبًا في بيئة نزاع كهذه؟

يعتمد ذلك على مهارة الصحفي وقدرته على استثناء الشائعات لأن بيئة النزاع دائمًا فيها الكثير من الشائعات. على الأقل يمكنني ألا آخذ المعلومة من مصدر واحد، بل أن أتحقق من أكثر من مصدر. أحد الأمثلة التي نعطيها في التدريب عن منطقة حصل فيها تلوث للمياه جراء تسرب من أحد المصانع المملوكة لأحد مرشحي الرئاسة. أنت هنا أمام نارين، إما أن لا تنقل الخبر فيتسمم الناس من المياه الملوثة، أو أن تنقل الخبر وتشوه المرشح الرئاسي وقد يكون أحد خصومه قد زج بالخبر. هنا المهنية هي المعيار، فمهاراتك في المهنة نفسها هي التي تحكم وهي التي تستطيع أن تجعلك أن تضع المعلومة على الميزان، وتتحقق من عدة مصادر على الأرض. لا يمكن أن يكون السبق الصحفي هو المحرك الأساسي. السبق الصحفي مهم، لكن الصحافة العميقة أصبحت ما نبحث عنه اليوم. فمواطن صحفي بسيط قد يكون أكثر جذبًا من صحيفة تدعي السبق، لكن القيمة المضافة للصحيفة هي التحقق من الخبر وتعدد المصادر التي تلقت المعلومة مباشرة ونقل المعلومات المتوفرة للقارئ ليستطيع هو أن يكون وجهة نظره نحو الحدث.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية