السياسة الخارجية الاردنية: احتكار ملكي لسياسة لا وطنية ولا قومية

الأحد 22 حزيران 2014

محمد عمر

لعقود طويلة ظلت السياسة الخارجية للاردن خاصة، في بعض الملفات المعقدة، عصية على فهم أكثرية الناس. وقد حاول بعض الكتاب والمحللين وبعض المسؤولين السابقين تفسير هذا الاستعصاء في الفهم بردّه إلى وصف هذه السياسة، بسياسة الغموض البناء، كما هو حالها الآن مع الملف السوري، أو كما كان حالها غالباً مع ملف السلام الفلسطيني الإسرائيلي.

وقد زادت قلة الدراسات حول السياسة الخارجية للبلد من حالة عدم الفهم هذه، أو على الأقل “الحيرة” تجاه بعض السياسات وتطورها. وها هو السفير السابق فؤاد البطاينة يخرج علينا بكتابه “السياسة الخارجية الأردنية وتطورها”، في محاولة لإلقاء الضوء على “محددات” و”أهداف” و”طبيعة” و”عملية اتخاذ القرار” و”تطور” السياسة الخارجية في الأردن منذ تأسيس الإمارة وحتى يومنا هذا.

وجد الكتاب صدى لدى قطاع من “المعارضة”، إذ اعتبر كتاباً “جريئا” يقول ما “يعرفه الجميع ولا يجرؤون على النطق به”.

محددات السياسة الخارجية

يطلعنا الكاتب في الفصل الأول على “محددين” يتحكمان في تشكيل وتطور السياسة الخارجية “الطبيعية” لأي دولة مستقلة: الأول “ينبع” من ثقافة سكان الدولة وحاجاتهم المادية والمعنوية والوطنية وتعزيز دولتهم ومصالحها. والثاني “ينبع” من التفاهمات الدولية عامة للاسترشاد بها كي لا تسود الفوضى والحروب العالم.
ولا يرى الكاتب وجودا لهذين المحددين “الطبيعيين” في السياسية الخارجية الاردنية: “لا أرى على الواقع وجودا فيها للبعدين الوطني والقومي”.

إذا ما هي “المحددات” الخاصة غير “الطبيعية” التي تحكم السياسية الخارجية الاردنية، من وجهة نظر الكاتب؟ هي ثلاث محددات:

أولها: المشروع الصهيوني والوطن البديل؛ وثانيها: اختزال الهويتين الأردنية والفلسطينية المستقلتين و”دمجهما”؛ وثالثها: المحدد المالي الاقتصادي ومحظوراته.

لتوضيح هذه المحددات يعود الكاتب إلى نشأة “الدولة” الاردنية، وهي نشأت على يد المستعمر البريطاني، لحماية المشروع الصهيوني الذي كان يهدف الى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وإلى استيعاب الفلسطينيين في الأردن وإقامة الوطن البديل.

هذا الهدف يقضي إلى تغييب الهويتين الأردنية والفلسطينية ودمجهما معا وخاصة، منع تبلور هوية فلسطينية مستقلة كما تقتضي الخطة الصهيونية، وقد نجح النظام في الاردن بدمج الهويتين معا ابتداءً من تواطؤ الملك عبدالله الأول مع بريطانيا في تنفيذ توصيات لجنة بيل، وليس قرار التقسيم ومنع قيام دولة فلسطينية على الأراضي التي تم تخصيصها للشعب الفلسطيني في قرار التقسيم، إلى ضم الضفة الغربية.

وقد استند النظام في الأردني على “التأكيد على النظام العشائري والعشائرية” لتفتيت المجتمع الى هويات فرعية وتمرير عملية الدمج. ولم ينفع قرار فك الارتباط الذي اتخذه الملك الراحل في إبراز الهوية الفلسطينية، بل تسبب بويلات على الحقوق الفلسطينية إذ تخلى الاردن بموجبه عن الضفة الغربية وحقه في استرجاعها كما تنص القرارات الدولية “القرار 242”.

وقد سعى المستعمر منذ تأسيس الدولة الاردنية الى جعلها دولة غير مستقرة، هشة وغير قابلة للاستمرار بدون مساعدات خارجية، وأبقى هذه المساعدات دائما في حدود معينة لابقاء الدولة تحت ضغط الحاجة.

أهداف السياسة الخارجية

اما الأهداف التي تتوخى السياسية الخارجية الأردنية تحقيقها فهي: أولاً: الحفاظ على القيادة الهاشمية على رأس النظام؛ وثانياً: توفير المال والمساعدات الكافية لتحقيق الهدف الأول، ولمساعدة القيادة في تنفيذ مهماتها أو “وظيفتها”، وللإنفاق على القطاع العام والمجتمع ككل.

وتتطلب هذه الاهداف مستلزمات يجب تحقيقها على الصعيدين الخارجي والداخلي، وقد تداخلت هذه المستلزمات مع الأهداف بحيث أصبحت أهدافاً للسياسة الخارجية بحد ذاتها، وهي على الصعيد الخارجي تتمثل في المحاولة الدائمة لكسب رضا الغرب وعدم إغضاب إسرائيل وإقناع هذا الغرب بأن لا بديل عن هذه القيادة الهاشمية لحكم البلد وإبقائه مستقرا، أما داخليا فقد تمثلت هذه المستلزمات في تأمين جيش وأجهزة أمن موالية للملك ترتبط مصالحها ومصالح أفرادها بمصالحه وبقائه على سدة العرش، كما تتمثل في تأمين التفاف وولاء غالبية الأردنيين والفلسطينيين المستمر لشخص الملك. وقد نجح النظام في تذويب هوية الأردنيين “الشرقيين” بهوية الملك نفسه وتبلورت قوتهم في الجيش والأمن. ونجح النظام في منع “تبلور هوية فلسطينية مستقلة”، إلى حين، فقد برزت التنظيمات الفلسطينية التي سرعان ما وجدت تأثيرها في الأردنيين من أصل فلسطيني، وقد حاول النظام، مرة أخرى، إعادة دمج هؤلاء ولكن من خلال وعود وتصريحات تشعرهم بـ”مواطنيتهم”، والنظام يسعى بكل جهده إلى إعادة دمجهم مستندا إلى نخب اردنية وفلسطينية منتقاة لا تفكر إلا في تنفيذ “الرغبة الملكية”.

أما المستلزم الثالث فهو المحاولات الدؤوبة للنظام لمنع تبلور تنظيمات بديلة. أي أن النظام يحاول كل جهدة منع تبلور حياة حزبية حقيقية، سيان كانت معارضة أو موالية كي لا يتبلور أي بديل عن القيادة الهاشمية.

وقد سعى النظام إلى توفير المال اللازم، كمستلزم لتحقيق الهدف الثاني، لكن أمريكا تعطي بالقطارة وتمنع أصدقاءها العرب من الاغداق على البلد لإبقاء الملك تحت الضغط. كيف يحصل الملك على المال إذن؟ من خلال أساليب غير استراتيجية وغير جذرية وربما غير حكيمة، قد تكون مقبولة للغرب، ولكنها غير مقبولة للشعب الأردني خاصة عندما ترتبط بالفساد، ومن هذه السياسيات رفع الضرائب والرسوم والأسعار ومحاباة الدول وبيع المواقف والخدمات الأمنية والمتاجرة بالقضايا الوطنية والقومية.

“طبيعة” السياسة الخارجية

تتسم “طبيعة” السياسة الخارجية الأردنية بـ”الاحتكارية”، أي أن الملك – كل الملوك من عبدالله الأول إلى الثاني – يحتكرون بشكل شبه مطلق السياسية الخارجية. فهو، أي الملك، يدير السياسة الخارجية لوحده وغالبا لا يوجد أي دور للحكومة، ووزير الخارجية مجرد ناقل رسائل، كما لا يوجد دور لمجلس النواب في تقرير السياسة الخارجية، وكل ما يصدر عن هذه المؤسسات مجرد تصريحات “شكلية”.

الملك يدير السياسة الخارجية لوحده وغالبا لا يوجد أي دور للحكومة، ووزير الخارجية مجرد ناقل رسائل، كما لا يوجد دور لمجلس النواب في تقرير السياسة الخارجية

احتكارية السياسة الخارجية هذه، أدت في ما أدت إليه، إلى عدم فهم أو جهل “منفذيها” لها، وجهلهم ما يدور في عقل الملك أو ما يريد الملك، لذلك غالبا ما يقع هؤلاء المنفذين في أخطاء، كما حصل عندما صوّت الأردن إلى جانب أميركا وإسرائيل على عدة قرارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة خاصة بالقضية الفلسطينية بين عامي 1985 و1989، فبدا الأردن في وضع شاذ كما لو كان ضد حقوق الشعب الفلسطيني. لكن هذا التصويت، كغيره من مواقف نبع من جهل المنفذين ورغبتهم في “إرضاء” الملك إلى أقصى حد.

والجهل هذا ينطبق أيضا على أمور “أساسية” عاشتها البلد أو سياسات داخلية وخارجية أرادها الملك مثل شعار “الأردن أولاً”، الذي عجز حتى رئيس وزراء الأردن حينها عن تفسيره قبل أن يخرج الملك لتوضيح المراد من “الشعار”. وغالباً ما لا يستمع الملك لنصائح مستشاريه، كما حصل مع عدنان أبو عودة عندما نصح الملك حسين عدة نصائح حول المفاوضات (ص 69). مع أن الملك يحاول دائما إبعاد المسؤولين والمستشارين الناصحين أو أصحاب الرؤى عن المواقع الهامة لكي يبقى لنفسه احتكار هذه السياسة.

أما شعار “الأردن اولا”، فناهيك عن جهل المسؤولين به، فقد جاء لتكييف السياسات الداخلية والخارجية الأردنية مع الوضع الدولي الجديد، ومفهوم الشرق الأوسط الجديد، بما يعني عزل القضية الفلسطينية وتركها ودمج اسرائيل في المنطقة، وهو بهذا ليس “الأردن اولاً”، بل “النظام اولاً”.

اتخاذ القرار

هناك أربعة أنواع من القرار في الاردن، لا تتخذ هذه القرارات بناءً على معايير الدول الديمقراطية، ولا تخضع للمشاركة الشعبية ولا تلمس الرأي العام ولا تصدر بناءً على دراسات وأبحاث متعقلة، بل هي قرارات تتخذ على النحو التالي:

اولاً: قرارات لها صبغة سياسية أو سياسية-اقتصادية أو عسكرية أو أمنية تتعلق في وتؤثر في هدفي السياسة الخارجية سلباً أو إيجاباً. وهذه قرارات يتخذها الملك منفردا وتبقى سرية جدا، ويأمر الجهة المعنية بتنفيذها دون نقاش.

ثانياً: قرارات تتصل بمتعلقات هدفي السياسة الخارجية، يترتب عليها آثار داخلية غير مواتية أو جدلية، يتخذها الملك منفردا أيضا، لكنه قد يشارك نخبة مختارة من أركان الدولة ويشاورهم في أمر اتخاذها لضمان حسن التنفيذ.

ثالثاً: قرارات تتعلق بالقضايا الدولية المعزولة عن هدفي السياسية الخارجية، مثل عقد اتفاقات ثنائية بين الأردن ودول صديقة في مجالات تعاون اقتصادي أو ثقافي، وهذه القرارات متروكة للحكومة، ما لم يكن فيها أي اجتهاد يستدعي مشاورة الملك.

رابعاً: قرارات داخلية غير عسكرية وغير أمنية وليس لها تاثير أو مساس مباشر أو غير مباشر على السياسة الخارجية، وهذه مناطة برئيس الوزراء، ولا يتشاور فيها مع الملك ما لم تؤثر على عموم المواطنين وعلى الاستقرار الداخلي.

باختصار، لا توجد “مأسسة” لصناعة القرار في الاردن، فيما يتعلق بالسياسية الخارجية، وعدم وجود هذه المأسسة، يؤدي أيضاً إلى تهرب المسؤولين من اتخاذ القرارات المناسبة في اللحظة المناسبة مخافة الوقوع في أي محظور أمني. وعليه فإن الحكومات عادة ما تتهرب من ولايتها العامة.

تطور السياسة الخارجية

مع سقوط معسكر الاشتراكية ونهاية القطبية الثنائية في العالم مع بداية تسعينيات القرن الماضي، أعادت الولايات المتحدة تقييم سياساتها الدولية باتجاه مزيد من الواقعية بما يتيح لها تحقيق أطماعها في العالم ومنها منطقتنا.

وقد تساوق الاردن مع هذه السياسة، وربط سياسته الخارجية لتفي بالغرض المراد تحقيقه أميركياً في المنطقة ألا وهو “الشرق الأوسط الجديد”.

وهذا “الشرق الأوسط الجديد” استند إلى ركنين، الأول: إدماج إسرائيل في الوسط العربي والإسلامي كغاية طالما حلمت الصهيونية بتحقيقها؛ والثاني: تحقيق الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في كل منطقة الشرق الأوسط كمصطلح سياسي وليس جغرافي.

كان أمام دول المنطقة ثلاثة خيارات للتعامل مع الواقع الجديد منها: تحقيق الديمقراطية والمواطنة وتعزيز الجبهات الداخلية، وهذا خيار لم تنتهجه أي دولة أو نظام عربي لحماية مصالح الطبقات أو النخب الحاكمة، و/ أو الرفض العلني الهش للمخطط أو السياسة الاميركية، والدول التي انتهجت هذا الخيار ذهبت إلى بيت الطاعة لانها لم تستند الى جبهة داخلية متماسكة ديمقراطية.

أما الخيار الثالث، والذي انتهجته السياسة الخارجية للنظام الأردني، فهو الرضوخ الكامل ورهن نفسها وسياساتها وقرارها الحر وذلك للحفاظ على نفسها وعلى حكمها وسلطتها.

ولتمرير هذا الخيار استخدم النظام، وبعض الأنظمة العربية الاخرى، أدوات سياسية:

اولاً: القطرنة غير الرشيدة، من خلال طرح وتسويق شعار “البلد أولاً”ـ تمثل في الاردن بشعار “الأردن أولاً”، وكما أسلفنا فإن الشعار كان هدفه النأي عن القضية الفلسطينية وعزلها تحت حجة حماية المصالح الاقليمية وبما يسهل استفراد اسرائيل وتمرير “تطبيع” وجودها ودمجها.

ثانياً: التحالف في الحرب ضد الارهاب، كما تفهمه أميركا وليس كما تفهمه وتعرفه المواثيق الدولية خاصة، في تمييز الارهاب عن المقاومة المشروعة. وهي أداة استخدمت لتمرير وتبرير التحالف غير المتوازن مع أميركا.

مظاهر تطور السياسة الخارجية

تجلّت السياسة الخارجية “الجديدة”، إن جاز التعبير، في ثلاث مظاهر:

اولاً: الإحجام عن استخدام أوراق الضغط التي يمتلكها الاردن عند اللزوم، مثل التهديد بإلغاء اتفاقية وادي عربة أو مراجعتها عندما قامت اسرائيل ببناء الجدار العازل وهو أكبر خطر على الأردن كونه يدفع الفلسطينيين إلى النزوح ما يهدد الأردن . وقد اكتفت السياسة الخارجية الاردنية بإجراء “شكلي” كطلب رأي محكمة العدل العليا في لاهاي.

ثانياً: عزل المسار التفاوضي الفلسطيني عن المسؤولية العربية. الأردن بشكل خاص المعني بكل قضايا المفاوضات خاصة تلك المتعلقة بالوضع النهائي والدائم اكتفى بالمراقبة.
ثالثأ: التعامل مع قضية اللاجئين بمعزل عن حق العودة. تمرير فكرة إسقاط حق العودة، كونه غير قابل للتطبيق، وتبني الرؤية الاسرائيلية تجاهه. بما في ذلك إسقاط النظر إلى هذا الحق كحق قانوني وتاريخي وأخلاقي لكل لاجيء، بغض النظر عن آليه تحقيقه لاحقا.

ملاحظات نقدية

لست مختصا في علم السياسة، ناهيك عن السياسة الخارجية، لذلك سوف اكتفي بتسجيل ملاحظات عامة على الكتاب.

أعتقد أن السفير فؤاد البطاينة، الذي عمل في الدبلوماسية الأردنية مدة تزيد على الثلاثين عاماً، أهدر فرصة كبيرة على نفسه وعلى القارىء في تقديم دراسة علمية محكمة تستند إلى أساليب البحث العلمي وتضبط المفاهيم، ناهيك عن اشتقاقها في الحالة “الخاصة” الأردنية، واكتفى من الكتاب بنتاج “فهمي ورؤيتي الخاصة خلال تجربتي الطويلة في العمل الدبلوماسي”، وهو بهذا قد حكم على كتابه بأن يتحول إلى “مجرد وجهة نظر” لك أن تأخذها أو تتركها. وأعتقد أن هذا الأمر هو ما جعل الرقابة رحيمة في قرارها السماح بتداول الكتاب. فالرأي ليس كتابا محكماً وهو ملك لشخصه فقط.

السفير فؤاد البطاينة أهدر فرصة كبيرة على نفسه وعلى القارىء في تقديم دراسة علمية محكمة تستند إلى أساليب البحث العلمي وتضبط المفاهيم، وحكم على كتابه بأن يتحول إلى “مجرد وجهة نظر”

على قدر الجهد المبذول من الكاتب في تسجيل “رؤيته وفهمه” للسياسة الخارجية الأردنية، فإن الكاتب تعامل بقدر أكبر من الاستخفاف بالكتاب والقارىء معا، ذلك أن الكتاب خرج بما لا يحصى من الأخطاء النحوية والإملائية والطباعية وبدون تحرير. وبدا أن الكاتب “يكتب كما يحكي”، فبدا الكتاب كمحاضرة، غير منسقة عموما، ما يجعل أمر قراءة الكتاب عسيرا ويحتاج مجهودا في أغلب الأحيان لفهم فقرات كاملة أو فهم الفكرة.

على رغم تأكيد الكاتب على أن “نتاجه” هذا مجرد أمر ذاتي نتيجة خبرة حسية وفهم خاص، إلا أن عدم استناد الكاتب إلى مراجع أو مصادر أو كتب سابقة أو وثائق، سرية أو علنية، تدعم ما يقول أو يستنتج، يجعل القارىء مستهيناً في ما يقرأ.

استند الكتاب إلى مرجع واحد فقط هو كتاب “أسد الاردن”، لمؤلفه افي شلايم، وقد أكثر من استخدام هذا الكتاب والاقتباس منه، لا بل والاسترشاد به أيضاً. وهذه نقطة ضعف كبيرة جدا في الكتاب، رغم وجود مئات الكتب التي تناولت السياسة والدولة الأردنية، خلافا لقول الكاتب بقلة المصادر أو إن وجدت فهي لموالين للنظام.

تعامل الكتاب مع الأردن ككل، ومع السياسة الخارجية الأردنية عموما، كحالة جامدة “ستاتيك”، وعندما كان يشير لبعض التطورات يعود الى تأكيد الجذور والنشأة. كما أهمل تطور البلد نفسه وتطور وطبيعة الدولة الأردنية الحالية، وعندما كان يشير إلى بعض القوى أو اللحظات التي خضع فيها رأس النظام، مؤقتا، لمتطلبات موازين القوى في “الدولة” أو “النظام” نفسه، تعامل معها كعوامل جانبية عرضية غير مؤثرة.

لا تكفي العودة إلى نشأة الدولة أو النظام في الأردن، كمنتج استعماري لغرض وظيفي، فالدولة في أغلب دولة العالم الثالث كانت نتاج استعماري، لكن هذه البداية تغيرت وتطورت، وصرنا في دولة بيروقراطية تسلطية، لها مصالحها وتناقضاتها وأزماتها وفيها تجري عمليات تبادل للنخب لتمرير سياسات وانتهاج اقتصادات تخدمها.أي أن العودة إلى الجذور والوظيفية لا يكفي وحده لتفسير السياسة الخارجية.

لقد درجت “المعارضة الجديدة” في الأردن، أو من يصفهم البعض بـ”التيار الوطني” أو تيار “الحركة الوطنية الأردنية” الجديدة إلى إلقاء كل تبعات ما يمر به الأردن على كاهل القيادة الهاشمية، وقد لا يختلف الكثيرين مع هذا، لكن بشرط أن لا يكون هذا التحليل والتفسير للتاريخ هدفه إبراء مسؤولية “البيروقراطية” الاردنية، ومنهم الكاتب الذي عمل 31 سنة في الحكومة دون أن يسمع له صوت احتجاجي، أو قصور في تحليل بنية الدولة والنظام بصفتها “دولة بيروقراطية تسلطية”.

لا ندافع هنا عن “القيادة الهاشمية”، لكن كتابة التاريخ وتفسير الواقع لتغييره تقتضي عدم إخلاء مسؤولية طبقات ونخب كاملة أسهمت في خلق هذا الواقع

لا ندافع هنا عن “القيادة الهاشمية”، لكن كتابة التاريخ وتفسير الواقع لتغييره تقتضي عدم إخلاء مسؤولية طبقات ونخب كاملة أسهمت في خلق هذا الواقع، وعليه فإن من حقنا التشكيك في هذا التفسير، إذ المراد به هو تأبيد هذه الطبقات والنخب وتسويقها كضامن للدولة والهوية الأردنية، وهي بهذا المعنى تدافع عن مصالحها مرة أخرى، تدافع عن الدولة البيروقراطية التسلطية، التي استولدتها، بغض النظر عن بعض الرطانة حول الجبهة الداخلية وحقوق المواطنة، لكن بوسائل جديدة، في المرة الأولى تساوقت مع القيادة الهاشمية، وفي المرة الثانية “اختلفت” معها، وفي كلا الحالين فهي تسعى إلى حماية مصالحها.

هذه المعارضة تتكون أساسا من مسؤوليين سابقين، وهذه ليست ميزة للأردن، بل ميزة للدولة البيروقراطية التسلطية التي من صفاتها: الأزمة الحكومية الدائمة، وتتمثل في التغيير المستمر والسريع للموظفين، بما في ذلك كبار الموظفين، رئيس الوزراء، رؤساء السلطات التشريعية والقضائية، وتتمثل في أزمة نظام دائمة تتمثل في تغيير مستمر في آليات التمثيل وأساليب الوصول إلى السلطة، وتفرض تعارضات كبيرة داخل وبين القوى الاجتماعية.

وبهذا المعنى فإن تحليل الواقع أو تفسيره بالاكتفاء بالملك وحده، هو تفسير عاجز وسطحي لنظام كامل شديد التعقيد متغير ومتكيف. وقد بدا عجز المؤلف في التفسير واضحا عندما حلل “مفهوم النظام” سواء في الصفحة 14 أو أينما وردت كلمة نظام، فهو تفسير “قانوني” يصلح لكتب مدرسية وليس لكتاب يحلل ظاهرة ثقافية اقتصادية اجتماعية وسياسية.

وأخيرا، فإن السياسة الخارجية الأردنية، بغض النظر عن احتكارية الملك لها، بتوافق وتراضي النخب المتبادلة والمتبدلة، هي في المحصلة امتداد للسياسة الداخلية، هدفها تأبيد هذه الدولة البيروقراطية وليس فقط تأبيد القيادة الهاشمية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية