تعاطفاً مع الرقابة

الإثنين 16 حزيران 2014
RomanAmphitheatreHussamDana

إن كان لما بعد الحداثة من سمات تدل عليها وتميزها عن غيرها، فهي السيولة الهائلة والفوضى العارمة. ورواية أحمد الزعتري ذات العنوان المفزع ليس بالإمكان تصنيفها إلّا ضمن روايات ما بعد الحداثة، فالرواية -وهذا لا يعيبها- فوضوية جدًا لا تكاد تمسك طرف خيطها حتى ينزلق من بين يديك وتضيعه، فتضطر إلى القراءة من جديد، إلى تسجيل الملاحظات، وإلى الاستعانة بقاصّ أثر حتى تدخل بخطى ثابتة إلى عالم الرواية العجيب.

وعلى طريقة روايات كافكا الكابوسية المزعجة، يروي لنا أحمد الزعتري واقعًا موازيًا تعيشه المدينة المكتظة ذات الغابات الإسمنتية والأفق الذي تحجبه عن الأعين أبراج غير مكتملة وعمارات شاهقة. لكن المشكلة في العالم الموازي الذي خلقه الزعتري في هذه الرواية هو أن هذا الخيال قابل للتحقق قبل أن ينتهي أحدنا من إكمال صفحات الرواية. أو ربما أن هذا الواقع ليس موازيًا أبدًا وإنما هو واقعنا الذي نعيشه كل يوم، ولكننا وفي اتفاق شبه جماعي نادر قررنا غض البصر عنه ونبذ كل من يشير إليه من قريب أو بعيد. وكما تقول الرواية: “كان البناء مكتملا، لكن ما كان ينقصه هو شخص يلوّح بمسمار صغير من بعيد ويصرخ سينهار”.

الواقع البائس تفضحه الرواية وهي تقص علينا ما يحصل في حمامات مدارس الذكور التي سمعنا عنها قصصا مرعبة، والحارات والشوارع التي يعد المرور فيها مغامرة معروفة النتيجة سلفًا، وصولًا إلى تجلي الانفصال بين شطري المدينة “الشرقي والغربي” في كاريكتير لعماد حجاج بعنوان جسر النقيفة ، يذكرنا هذا المشهد بما قاله فرانز فانون عن الفارق بين مدينة المستعمِر (اسم فاعل) ومدينة المستعمَر (اسم مفعول): “إن مدينة المستعمِر مدينة أنوارها ساطعة وشوارعها معبدة بالأسفلت، وصناديق القمامة ما تنفك تبلع نفايات ما عرفها الآخرون، ولا رأوها يومًا، ولا حلموا بها يومًا. أما مدينة المستعمَر فهي مكان سيء السمعة، فيه يولد المرء أين كان وكيف كان. هو عالم بلا فواصل، الناس يتكدسون فيه بعضهم فوق بعض، إن مدينة المستعمَر مدينة جائعة، جائعة إلى الخبز، وإلى اللحم، وإلى الأحذية، وإلى الفحم”.

الرواية الصادرة منذ شهرين أو أقل لم تعرف طريقها إلى القارئ الأردني ببساطة لأن دائرة المطبوعات والنشر -أو مهما يكن اسمها الجديد- قررت منح الرواية شهرة تستحقها عبر منعها، ولذا سيقرأ الرواية الأردني في السعودية وفي لبنان ومصر قبل أن يتمكن ابن عمّان المقيم فيها من الاطلاع عليها!

ولأصارحكم بأمر، فأنا أشعر بكثير من التعاطف مع هذا الرقيب الذي قرر أن هذه الرواية غير مناسبة للقراءة في الأردن، فالرجل -أو المرأة- قد تعوّد على نصوص سهلة تقول ما تريد الحكومة أن يقال، نصوص بسيطة اللغة والتركيب، حبكتها يسيرة وفي المتناول، ورواية الزعتري فيها العكس تمامًا. الرقيب لم يخطر بباله أن يقرأ في يوم من الأيام انتقادًا لأغنية “وطنية”، وصدمَه جدًا أن يتحدث أحدهم عن أقدم نشاط إنساني، أعني الجنس!

أتعاطف مع الرقيب لأن الرواية فعلت به ما فعلته بي، الرواية ومن دون شك إن لم تغيّر من نظرتك للمدينة فهي على الأقل ستربك علاقتك بها. لن يكون للمدرج الروماني ذات المعنى الذي عرفناه منذ كنا أطفالًا، أعني مكانا تدفع 15 قرشًا لكي تدخله، وإنما ستدخله لمحاولة العثور على النفق الموصل إلى جبل القلعة من داخله. وعند وقوفك على إشارة للمرور في عمان الغربية لن تراودك مشاعر إيجابية تجاه من يقف إلى جوارك بسيارة يكفي سعر الوقود الذي ينفق عليها يوميا للإنفاق على عائلتك أسبوعًا. أما جسر النقيفة فستعبره يوميًا في الطريق إلى عملك ولكن بكثير من الحذر وبفوضى من المشاعر، الرواية ستريك من المدينة أجزاءاً كنت تراها ليل نهار لكنك مع ذلك كنت تصر على تجاهلها، ولذا قرر الرقيب منعها.

صحيح أنني أشعر بكثير من التعاطف مع الرقيب، لكننا نكون مجرد زومبيات -أحياء أموات- كما وصفتنا الرواية إن قبلنا أن تمارس جهة ما رقابة على الأدب الذي نقرأ والفن الذي ننتج مهما تكن دوافعها!

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية