حديث الجنود: توثيق التاريخ ورهان الرواية “الإسلامية”

الثلاثاء 17 حزيران 2014

(في الصورة، الكاتب أيمن العتوم يوقّع كتابه “حديث الجنود” في معرض نون للكتاب. الصورة من صفحة معرض نون)

محمد عمر

ثمة احداث كثيرة مرت بنا، ولم يكتب عنها. وثمة شهود كثيرين كتموا شهادتهم، ولا زلنا في انتظار من يكتب لنا، او من يقول لنا “هذا ما حدث”، ليس لاننا “ماضويون”، نعيش الماضي، ونشعر بالحنين لـ”زمن جميل”، استبدل بالانحطاط. بل لاننا بحاجة لمعرفة كيف وصلنا إلى هذه الهاوية. ولأن من أوصلنا إلى هذا المنحدر أفلت من العقاب فعاث بنا وبالبلد.

في آذار عام 1978، انتفض طلبة الجامعة الاردنية، استمرت انتفاضتهم احد عشر يوما، انتهت بقمع شديد: اعتقالات، ضرب مبرح، تحقيق، فصل كلي، فصل جزئي، حرمان من المنح…الخ

وقد كنت من ضمن الطلبة المنتفضين ونالني ما نال عشرات الطلبة من الإجراءات القمعية.

كانت “انتفاضة” طلبة الجامعة الاردنية المنسية بدأت لإحياء “أيام” سياسية، يحفل بها شهر آذار، وتزامنت مع توقيع اتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية، لكنها تطورت نحو شعار مطلبي بإعادة إحياء اتحاد الطلبة عوضا عن “الجمعيات الطلابية” التي فتتت وحدة الطلبة، وأدت ضمن أسباب أخرى إلى تراجع الأداء الأكاديمي للجامعة، بعد أن لم يعد للطلبة دور فاعل في عملية التعليم.

طويت صفحة هذه الانتفاضة، ولم يكتب عنها احد، ولم يعد يذكرها أحد، مع أن قمعها شكل بداية الانحدار في الوسط الطلابي.

بعد هذه الانتفاضة بثمان سنوات، كان طلبة “جامعة اليرموك”، حديثة التأسيس حينها، قد بدؤوا تحركا شبيها في أيار 1986، لكنها تحركات، على عكس الاردنية، بدأت مطلبية وانتهت مطلبية.

وبالكاد كان قادة “انتفاضة اليرموك 1986″، قد سمعوا عما حدث مع انتفاضة زملائهم في الاردنية. وربما لو أن أحدا انبرى لتوثيق “أحداث الاردنية”، لتمكن طلبة اليرموك من “تجاوز” بعض أخطائهم.

على كل، أخيرا وجدنا من انبرى لتوثيق “أحداث جامعة اليرموك”، بحسب العنونة الرسمية لها، أو  “الانتفاضة” او “الثورة” الطلابية، التي كادت، أو هي هزت الأردن.

في روايته الاخيرة، حديث الجنود، يتصدى الشاعر والروائي أيمن العتوم لتوثيق هذه الأيام المجيدة من تاريخ الحركة الطلابية، ولكن هذه المرة على لسان جنودها، الذين لا يزالون ينتظرون، ولا نزال ننتظر معهم، الإنصاف، ومحاسبة من تسبب لنا في هذا الانحدار ورمى بجامعاتنا وطلبتنا إلى التشاجر والتناحر الأهلي، وهبط بمؤسساتنا التعليمية الى الحضيض.

يستعير العتوم، كعادته، عنوان روايته من الآية القرآنية: “هل أتاك حديث الجنود..”، والإحالة هنا ربما لا تعود إلى الآية وحدها، بل إلى كامل “سورة البروج”، لعل فيها ذكرى تنفع الضحايا، أو عبرة لمن طغى وتجبر. وتأثر العتوم بالقرآن لا يقتصر على العنوان بل ينسحب على أسلوبه السردي في مجمل الرواية كما في روايته الاخرى. فهو شديد التأثر بالنص القرآني.

يتوسل العتوم “أوراق”، او مذكرات “شاهر ورد”، قائد انتفاضة طلبة اليرموك، كحيلة لسرد ما حدث فيها، فالرواي هنا هو بطل الرواية والحدث، وإن كان الروائي في بعض الفقرات والأسطر ينسى الراوي، ويتدخل بلسانه هو. إلا أن العتوم يخصص آخر حوالي 100 صفحة لسرد شهادات عدة طلبة بناء على طلب “ورد”.

من واكب تلك المرحلة أو كان معنيا بها سيتعرف فورا على شخصية “شاهر ورد” الحقيقية، فهو سعد الطاهر، طالب الهندسة، ابن مدينة نابلس، الذي كان مثل مئات غيره من طلبة الضفة الغربية يدرس في اليرموك، ويشاركون في أنشطتها وتظاهراتها دون أي حساسية ودون أن يتهمهم أحد بأنهم ليسوا من “هنا”، وقد كان هذا قبل أن نرتد جميعا إلى عصبياتنا الضيقة وهوياتنا الفرعية ويتشاجر الأهل مع الأهل من شتى المنابت والأصول والطوائف والعشائر والمناطق والجهات.

وقد تعمد العتوم، إمعانا منه في ابراز “الفكرة الجامعة” أو بوصف آخر “الوحدة الوطنية” قبل أن يفتتها القمع جماعات أهلية وهويات متقاتلة، أن يختار كل “ابطال” الرواية/الحدث من الضفة الغربية، يقودون حشودا بالآلاف من ابناء الـ”هنا” .

رغم ذلك، كان بعض قيادات الانتفاضة من “هنا”، مثل الطالب رمزي الخب، الشيوعي ابن الرمثا، وهو كان إلى جانب سعد (شاهر) القائد الثاني للانتفاضة. رمزي، “وصفي طلب” في الرواية، أخذ قسما طويلا من الرواية خاصة السنة والأشهر السبعة التي قضاها في سجن المخابرات إثر تظاهرات 5 شباط 1984 الطلابية التي كانت تطالب بإلغاء الخطة الدراسية الجديدة للجامعة، وقد تراجعت الجامعة عن خطتها تحت ضغط الطلبة فشكلت هذه التظاهرات “بروفة” انتفاضة 86.

انتهت انتفاضة اليرموك 86 بمأساة أو فاجعة عندما اجتاحت قوات من الجيش والامن المركزي وقوات البادية والشرطة ومكافحة الشغب الجامعة وأسفر القمع الوحشي عن استشهاد ثلاثة طلبة وجرح واعتقال المئات، إن لم يكن الآلاف.

وقد أصدر الملك الراحل حسين عفوا عاما عن الطلبة، لكن المخابرات تجاهلت هذا العفو واحتفظت ببعض القيادات الطلابية أو اعتقلتهم لاحقا ومنهم سعد (شاهر) الذي أدلى باعترافات كبيرة وخطيرة تحت التعذيب أصيب على إثرها بحالة نفسية سيئة دفعته لمغادرة البلد الى الولايات المتحدة، وبعدها إلى دولة خليجية للعمل هناك، ولم يعد للبلد، إذ يبدو انه لم يحتمل هذا السقوط فآثر الهرب من لوم واتهامات رفقائه على خذلانه لهم.

شكلت لجنة “تحقيق” وزارية، لكنها ككل اللجان توصلت الى نتائج “مغمغمة”، نتيجتها الوحيدة كانت إقالة أو استقالة رئيس الجامعة، عدنان بدران، رئيس الوزراء لاحقا، المسؤول الأول والأخير عن تأزم الوضع بسبب تعاليه وتجاهله لمطالب الطلبة، وضعفه امام الأجهزة الأمنية.

شكلت “انتفاضة اليرموك” أو “ثورة” اليرموك حالة خاصة وفريدة في تاريخ الحركة الطلابية، وربما في تاريخ بعض الحركات السياسية وخاصة “جماعة الإخوان المسلمين”، فقد كانت “ثورة اليرموك” بداية عودة الجماعة إلى العمل الجماهيري والاحتجاجات بعد عقود طويلة من العمل الدعوي والتحالف مع السلطة ومع القصر تحديدا. هذا التحالف والعلاقة الدافئة التي كانت بدأت بعد الانقلاب على حكومة سليمان النابلسي البرلمانية عام 1957.

وقد رضخت الجماعة أو ِ”شيوخها”، كما هو واضح في الرواية، وفي شهادات أخرى، لضغوط “شبابها”، ويبدو أن “الشيوخ” خافوا ان يفقدوا مصداقتيهم أو تأثيرهم على “الشباب” فوافقوا بعد مناقشات طويلة على استمرار طلبتهم في التظاهرات، وإن كانت قيادتهم أو بعضها مثل “الدكتور احمد الكوفحي”، المذكور في الرواية “الدكتور احمد” يضغط في اتجاه انسحاب “شباب الاخوان” من التظاهرات، بعد ضغوطات من الحكومة والمخابرات على الجماعة، وبعد أن استشعروا الخطر القادم وعدم قدرتهم على السيطرة على “الانتفاضة”. وهو ما حصل في اليوم قبل الأخير للانتفاضة حيث انسحب بعض طلبة الإخوان فيما أصر الاخرون، وخاصة سعد (شاهر) على الاستمرار حفاظا على مصداقيتهم وحفاظا على زخم التحرك الطلابي.

لا يكفي ذلك، فقد ترك سعد (شاهر) من جهة، ورمزي الخب، والزيتاوي، من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وآخرون، بصمتهم الخاصة على الانتفاضة، إذ كانت المرة الاولى في تاريخ الحراك الطلابي التي يجتمع فيها كل مشرب سياسي بتشاركية وتنسيق كامل، دون ان يمزقهم الخلاف الايديولوجي او التنازع السياسي على الصدارة والمكاسب الصغيرة. غابت الايديولوجيا وتوحد الجميع خلف مطالب محقة، وتندر رمزي الخب بشعار “يا عمال العالم صلوا ع النبي”. اذ لم تخلو الانتفاضة من روح النكتة ايضا، ربما بسبب شخصية الخب “المرحة” او الساخرة، كصديقه ورفيقه في الحزب والسجن وابن مدينته الرمثا، الكاتب الساخر احمد ابو خليل، احد نشطاء الطلبة والانتفاضة.

 قمعت انتفاضة الطلبة بوحشية وأفلت المسوؤلون عنها من المحاسبة أو العقاب، وربما هذا ما أوصلنا أو أوصل طلبة الجامعات إلى ما هم عليه الآن من مشاجرات وتدني في مستوى التعليم 

على اي حال، قمعت انتفاضة الطلبة بوحشية وأفلت المسوؤلون عنها من المحاسبة أو العقاب، وربما هذا ما أوصلنا أو أوصل طلبة الجامعات إلى ما هم عليه الآن من مشاجرات وتدني في مستوى التعليم طالما لا حسيب ولا رقيب، وطالما هناك من أثر تصحير الجامعات من السياسة والثقافة وفضل هذا الانحدار على نشاط هنا او نشاط هناك او تظاهرة هنا او هناك تطالب بمطلب بسيط قد لا يتعدى تخفيض بسيط في رسم مادة او ثمن ساعة معتمدة كما حصل في اليرموك. فلو تراجع او قام رئيس الجامعة بخفض رسوم التدريب لطبلة الهندسة لربما كانت اليرموك على غير هذه الحالة ولتجنب اراقة الدماء وماء الوجه والانحدار. لكن هذه هي السلطة في الدولة القمعية.

رهان الرواية

هل يكفي التوثيق التاريخي، أو النية الحسنة، واللغة الجميلة لصناعة رواية؟

لقد كان أيمن العتوم حريصا على توثيق الانتفاضة، او الثورة كما يصفها الطلبة المشاركين، ويبدو انه، على غرار روائي التوثيق التاريخي اجهد نفسه في البحث عن مجريات الحدث، انتفاضة اليرموك موضوع الرواية.

مع ذلك فقد سقطت روايته في الكثير من الهنات، ان لم نقل العثرات الكبيرة، فهو لم يطلعنا على السياق العام للأحداث، المجال العام في الاردن حينها، إذ لم يغادر اليرموك، فكانت كما لو أنها “جزيرة” معزولة عن البلد، فهو لم يجهد نفسه حتى في متابعة رد فعل الأردنيين عل الانتفاضة، ناهيك عن ردود الفعل الدولية، التي كادت أو هي هزّت “صورة” البلد في الخارج. فلم يرصد العتوم كل هذا. وقد يسأل قارىء الرواية : أين كانت الناس من كل هذا؟ وماذا كانت مواقفهم؟ ولماذا ترك الطلبة لمصير مشؤوم كهذا؟

أغرق العتوم روايته باللغة، لغة جميلة لكنها لم تكن نافعة في كثير من الرواية، بلاغة ووصف تفصيلي بلاغي خارج السياق، ومقدمات طويلة نسبيا للرواية ولكل فصل تصيب القارىء بالملل. وربما تدفعه للقفز عن صفحات كثيرة للوصول إلى ما حدث، فقد ضاع العتوم في السرد وأضاع الحبكة، ولم يستطع تشويق القارىء وأخذه الى قراءة روايته كلمة كلمة وملاحقة خيط السرد، وقد فضل الراوي “استعراض” قدراته “اللغوية” على البناء والشخوص والسرد والحبكة. وقد وقع في التقريرية أحياناً وفي الخطابة أحيانا أخرى فبدت بعض الفقرات كما لو كانت “خطبة جمعة”. وبدت الفقرات المتعلقة بمجريات الانتفاضة كما لو كانت تقريرا صحفيا مطولا، أضيفت اليه لغة شعرية.

تحتاج الرواية الى قدر كبير من الفضول أو طول البال لمتابعتها، ناهيك عن قراءتها قراءة ثانية وثالثة. واخشى أن هذا قد يؤثر على موضوعها الرئيسي، وحجم قارئيها، فنجد من ينفر منها فتضيع الغاية “النبيلة” للمؤلف في أطلاع أكبر قدر ممكن من الناس على ما حدث.

بدا الراوي كذلك غير منطقي تماماً في الحوار الذي كان يجريه مع “نعيمة”، فأجرى على لسان امرأة، مفترض انها من عامة الناس، كلاما بلغة لا ينطق بها سوى ضليع لغويا، وحكما لا يقول بها سوى فيلسوف أو آراء لا يدلي بها سوى سياسي متمرس، فضاعت شخصية “نعيمة” البسيطة العفوية، وضاعت فكرة الراوي في بث أفكاره في هذه الشخصية، ولا أستبعد ان يحاول الكثير من القراء تجاوز أغلب الصفحات التي ينقلها الراوي عن “نعيمة” أو تقولها هي على لسانها.

أخيرا، فقد ترك الراوي شخوص الرواية عراة، بدون أي أبعاد، وكأنهم مجرد عدد في حزب أو جماعة ينفذون أوامر أو يعصونها، وليسوا بشرا أكثر تعقيدا، وأكثر من مجرد “ابطال” سياسيين.

تحتاج الرواية إلى اكثر من النية الحسنة في إطلاع الأجيال الجديدة على ماض قريب ترك فينا أثره للآن، ويحاول البعض أو السلطة نسيانه أو تناسيه، أو في التذكير بأن من كانوا مسؤولين عن الاحداث أفلتوا من العقاب، أو أن من قادوا الانتفاضة اصابوا واخطأوا. تحتاج الرواية إلى اكثر من “العبرة”، ويحتاج القص ليس إلى أحسن القصص وحسب، بل إلى حُسن القص أيضا.

وربما تحتاج “الرواية” الإسلامية، خاصة، إلى مزيد من التحرر، وإلى التقليل من الوعظ والوصاية، وإلى القليل القليل من الخطابية والتقريرية، ومزيد من التشويق، فلا تكفي الافكار السامية والمضامين الجميلة لصناعة رواية.

على أي حال، وحتى أكون موضوعيا، فقد أحببت الرواية، أحببت “موضوعها” أقصد، وجعلتها ضمن مكتبتي كوثيقة على العصر. وأعجبني أن الكاتب حاول كل جهده أن يكتب بتجرد وموضوعية ولم يسقط في التعصب لجماعته فحاول أن يعطي كل ذي حق حقه.

في النهاية، الطبعة الثانية من الرواية منعت، ضمن اعمال اخرى، من التداول في البلد، بسبب قرار الرقيب، الذي يبدو انه فضل التكتم على كشف الحقائق كي تبقى الرواية الرسمية وحدها السائدة بدون مساءلة او تشكيك. انها عقلية الوصاية التي تريد للمواطن ان يتعامل مع رؤية السلطة للحياة والناس وكأنها هي “الفطرة السليمة”، وما دونها “شاذ”.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية