غزة في أعمدة الرأي: كثير من الدموع وقليل من التحليل

الثلاثاء 22 تموز 2014

خلال العدوان الإسرائيلي على غزة تنهمر دموع كتاب الأعمدة، وقرائهم على السواء، عند مشاهدة آثار القصف الإسرائيلي على بقايا أجساد أطفال وكهول محمولين على أيادي أحبائهم، يعرضهم الإعلام في صور بلا معايير إنسانية ومهنية، وبلا أصوات لأصحابها، مجرد ضحايا يتحملون نتائج حرب لا قول لهم فيها.

وكلما زادت الصور المعروضة، للجثث والدمار أو لأحدث قذائف وطائرات “كتائب القسام”، تسيطر المشاعر على العقول ولا يعود مقبولا سوى البكاء على الضحايا أو التهليل للمقاومة. فينقسم الكتّاب بين هذا وذاك، فمنهم من يذرف “دموع محرمة” “بعيداً عن كل المواقف السياسية والتحليلات الفضائية (الفارغة)… وبمعزل عن المبادرات السياسية”، ومنهم من تكتفي بسؤال “لماذا نكتب عن غزة؟” وتعتذر عن الكتابة، وعن الإجابة عن السؤال، لأن “لا كلمات تفي الشهداء حقهم والمصابين ألمهم، والمشردين هلعهم، وتكون صالحة للنشر”.

وكما يتداخل واقع الضحايا المدنيين مع “الدعاية” للانتصارات العسكرية في الأخبار، تختلط أصوات تدعو لـ”إعلان الحداد” على “المشهد الدموي والقتل المجاني وجثث الأطفال المتفحمة والأرحام التي تنزف دماً” كما تهلل لـ”صواريخ وطائرات المقاومة“، وتتشابك مشاعر الخيبة والحماسة في عبارة واحدة “لك الله يا غزة“، “لك الله يا شعبها الصامد، لك الله يا محمد ابو خضير، وكل الشهداء الذين سقطوا سابقا وسيسقطون لاحقا، ونعرف يقينا أن غزة والخليل والقدس لم تمت، ولن تموت”.

وتَنتج مقالات هجينة كمقال معنون بـ”صواريخ“، يصف مشاعر “الطرب والمتعة، فأخبار صواريخ غزة هي أغنية فلسطينية حقيقية”، فلا يريد الكاتب “التحدث عن الدم الفلسطيني الزكي الذي يهدىء غضب الرب على هذا الكوكب ووحوشه” ولا يرغب في أن “يسمع او يقرأ عن شعب العمالقة في غزة وسائر فلسطين يستجدي حكام العرب وشعوبها الميتة أن يهبوا لنجدته”. “فقط أريد أن أغني للصواريخ…تحدثوا صواريخ وبس”.

في وقت الحروب والدمار والقتل تسود في الإعلام العواطف ومشاعر التضامن والغضب والانتقام، وتضيق مساحة العقلانية والتحليل السياسي، وبخاصة إذا تضمن نقدا أو رأيا مخالفا للسائد. فيتعرض كاتبها لترهيب فكري.

لكن الكاتب إبراهيم غرايبة تحصن ضد الهجوم على شخصه كلما غنى خارج السرب. فكتب ثلاث مقالات متتالية تحرر فيها من محرمات القضية الفلسطينية. ففي “الاستثمار في الكراهية” يقول أن “الكراهية هيمنت على الصراع… يقود هذا المشهد الفوضوي الأكثر تطرفا وغوغائية… ويصبح القتل والعنف لا معنى ولا هدف لهما”. ومن قبلها كتب عن “مأزق إسرائيل و”حماس” معا“. وفي مقاله المعنون “صراع غزي إسرائيلي” تحدث عن “الغضب الذي ما يزال هو الردّ على محاولة فهم وتحليل الحالة الفلسطينية بواقعية”.

وفي هذه الأوقات يصبح غريبا ونادرا الحديث عن إنسانية أهالي غزة. فوحده الكاتب باتر وردم يتحدث عن حق “أطفال غزة” في حياة طبيعية، ويقول وهو يعلم “أنه من الصعب جدا الحديث عن العقلانية في هذا الجو السياسي والعسكري المشحون، أن للطفل الفلسطيني أيضا الحق في أن يحلم بمستقبل لا يرتبط بالموت والشهادة بل بالتعلم واللهو والحصول على حقوق الطفولة كاملة”.

هواة جمع التناقضات

في المقابل، تبدو مقالات التناقضات أو الانفصال عن الواقع أمرا اعتياديا ومقبولا. فتتردد في بعض المقالات لازمة أن الحل يكمن في “قرار عربي جذري“، في حين لم تعد “حروب المحاور في غزة وعليها” خافية على أحد.

وهناك من يهوى الجمع بين التهليل للمقاومة الفلسطينية في غزة وبين العداء لحركة المقاومة “حماس”. فتحت عنوان “صواريخ ودعايات شوربة” يقول الكاتب “أنا لا أكتب عن حماس..أكتب عن الشعب الفلسطيني في غزة العظيمة، شعب محاصر مغلقة حدوده، وحتى البحر تم تضيقه عليهم..ومع ذلك ينتجون صواريخا وطائرات استطلاع ويقتحمون قنوات البث الإسرائيلية”.

وكثر من يتوهمون الانتصارات في غزة وقد صموا آذانهم عن أصوات الجرحى والمهجرين وأهالي القتلى. فـ”ما بعد تل أبيب” “قد تنجح المقاومة بتوجيه ضربة موجعة لحكومة نتنياهو العاجزة عن تحقيق مكاسب على الارض”.

مبادرة مصر السيسي/مصر مرسي

التعاطف غير المألوف الذي أظهره كتاب صحيفة الرأي تجاه حركة حماس خلال الأيام الأولى من العدوان الإسرائيلي، انقلب إلى هجوم بعد رفض “حماس” للمبادرة المصرية. وفي “الرأي” الهجوم على “حماس” هو الثابت والمفسر لأنه يعكس طبيعة العلاقة بين الحكومة الأردنية وحركتي الإخوان المسلمين وحماس. ولا تفسير للمتغير (التعاطف مع حماس) إلا لإرضاء قطر بعد أن تحسنت علاقتها مؤخرا بالأردن وأصبحت أحد الداعمين للاقتصاد الأردني.

التعاطف غير المألوف الذي أظهره كتاب صحيفة الرأي تجاه حركة حماس خلال الأيام الأولى من العدوان الإسرائيلي، انقلب إلى هجوم بعد رفض “حماس” للمبادرة المصرية

فقبل 20 تموز أعلن صالح القلاب “إننا مع غزة ومع شعب غزة ومع فلسطين وشعب فلسطين ولنترك ترف اللوْم والتلاوُم إلى فترة استراحة محارب لاحقة!!”. ودافع سميح المعايطة عن حماس بأنه “لم يسجل عليها انها بادرت بشكل منظم بأي عمل عسكري ضد الاحتلال، بل العكس يكون الاستفزاز اسرائيليا”. وشخص طارق مصاروة “مشكلة حماس ان احدا من العرب لم يدافع عنها، حين تم وضعها على قائمة الارهاب”. وفي مقال آخر يبدي مصاروة تعاطفا مع “حماس وتردّدها في قبول «التهدئة». لأنها تقبل ضريبة الدم.. بانتظار أن يفهم الأشقاء والعالم إنهم مستعدون للمذابح إذا كانت توصلهم إلى شيء.. إلى لقمة الخبز الشريف.. إلى بعض الحرية والكرامة.. إلى وقف التجبّر الصهيوني!”.

لكن يبدو أن الأهداف الأمنية تتصدر أولويات قائد أوركسترا كتاب صحيفة الرأي الذين التزموا جميعا، وفي نفس اليوم (20 تموز)، بوقف التعاطف وبدء الهجوم على “حماس”، بعد أن مضى أكثر من أربعة أيام على بدء النقاش حول المبادرة المصرية في أعمدة رأي صحيفتي “الغد” و”الدستور”.

يستند كتاب صحيفة “الرأي” في هجومهم على رفض “حماس” للمبادرة على فرضية تطابق مبادرة السيسي واتفاقية مرسي في 2012، بالرغم من عدم دقتها. فهناك فروقات بين المبادرتين يمكن وصفها بالجوهرية، على الأقل بالنسبة لـ”حماس”، توضحها صحيفة “المصري اليوم“. وبناء على الفرضية يحلل كتاب “الرأي” رفض “حماس” للمبادرة بأنها نتيجة لإملاءات المحور القطري-التركي الداعم للاخوان المسلمين في المنطقة مقال المحور المصري-السعودي.

لكن الإشارة إلى المحور الثاني تتضمن مصر فقط من دون ذكر السعودية، ويشار إلى المحور الأول بذكر تركيا والإخوان من دون قطر، باستثناء سميح المعايطة الذي ذكر قطر بالاسم لمرة واحدة فقط. فيقول: “على الأرض السياسية وفي الإقليم حرب موازية تستعمل مايجري على أرض غزة من أحداث ودماء وقصف في صراع المحاور في الإقليم طرفها الأول مصر وقيادتها من جهة ومحور اﻻخوان وحماس وقطر وتركيا من جهة اخرى”. ويلمح طارق مصاروة للحلفين: “…فاذا كان السيسي «وأمثاله» لم يفعلوا إلا ما فعله مرسي عام 2012 واجترح تهدئة غزة التي ورثها من حسني مبارك، فلماذا يشارك (رئيس الوزراء التركي) في مبادرة «تهدئة» اخرى، بالشراكة مع «طاغية» آخر عربي؟!”.

الرقابة على ذكر الأسماء تبدو أوضح في مقالة فهد الفانك “من أفشل المبادرة المصرية” حيث تظهر الجملة مجتزأة عندما يقول أن “موافقة حماس على المبادرة المصرية كانت أمراً مفروغاً منه لولا إيعازات، التي لا مانع لديها من قتل مئات أخرى من الفلسطينيين وتدمير القطاع إذا كان هذا يخدم أجندتهم ضد النظام المصري”.

ويلتقي من كتب في “الدستور” مع كتاب “الرأي”. فيصف عريب الرنتاوي المبادرة المصرية بأنها “نسخة تكاد تكون غير مزيدة وغير منقحة من اتفاق 2012”. ويقول الرنتاوي في مقال آخر عن أن “حماس”، بعد “الربيع العربي وعواصفه، غاصت في رمال الأزمتين السورية والمصرية كما لم تفعل الحركة الوطنية الفلسطينية من قبل”. ويتحدث عمر كلاب عن “اتهامات واضحة من إعلام المحور “الإخواني القطري التركي” لمصر والإمارات بدعم العدوان البري للتخلص من حماس والإخوان…واتهامات للمحور الإخواني برفض التهدئة المصرية بضغط من تركيا وقطر والسماح بجريان الدم الغزّي لحسابات حماس”.

من كتب عن المبادرة في صحيفة “الغد” أبدى تأييدا، أو تفهما على الأقل، لرفض “حماس” للمبادرة المصرية. فوصف ياسر أبوهلالة المبادرة بأنها ولدت “مشوهة”، “فلا يمكن إطلاق مبادرة من دون استشارة الطرف الآخر”. ويفسر أحمد جميل عزم رفض “حماس” للمبادرة “فلا بد من إنهاء الحظر على لقاء قادتها ومخاطبتهم مباشرة”. ويرى فهد الخيطان أن “كتائب القسام التي تخوض المواجهة الميدانية مع قوات الاحتلال، محقة في مطالبها. وكان على وزراء الخارجية العرب، وقبل الموافقة على المبادرة المصرية، إدخال تعديلات عليها تراعي مصالح الجانب الفلسطيني”.

في الخلاصة، ترتفع وتيرة الاهتمام والتعاطف مع غزة في أعمدة الصحف الأردنية باشتداد القصف وزيادة الضحايا، إلى أن تتم “الهدنة”. ثم تتراجع غزة تدريجيا في قائمة اهتمامات الكتاب الصحفيين المنشغلين بحروب أكثر جدة، تاركين خلفهم تداعيات الحرب والمعاناة المستمرة لمن بقي حيا في غزة، كما كان الحال بين العدوانين الإسرائيليين في عامي 2012 و2014.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية