الإعلام الأردني والعدوان على غزّة: الصوت الهادئ على حافّة بركان

الأحد 20 تموز 2014

القول بأن الإعلام المصري انفعالي ليس دقيقاً، فالإعلام الذي يستطيع المساهمة بتغيير مزاج الكثير ممّن يتوجّه لهم هو منصّة مسيطر عليها بقرار واضح. هذا الإعلام الذي يجعل زميلي المصري في العمل يقابلني صباحاً بانزعاج ويقول: “شفت اللي بيحصل في غزة”؟، أجيبه “فعلاً حرام اللي بيصير”، ليرد عليّ: “يا راجل بيلفّوا الميتين بأعلام حماس”.

في المقابل، الإعلام الأردني مسيطر عليه بقرار واضح، لكنّه مجرّد ذراع تخديري أو في أحسن الأحوال ماكنة “بيزنيس” يحاول جيوش حملة شهادات التسويق والإدارة تحويلها إلى منصّة ترفيهيّة شعبويّة، ربما مع استثناءات قليلة.

لكن في النهاية وسائل الإعلام في البلدين تتواءم في خطاب، إذا ما تم تكديسه في منصّة واحدة، انفعالي تخديريّ. هكذا على السطح ينفعل مذيعو القناة المصريّة الأولى وأون تي في وغيرها، بينما يخضع كثير من الإعلاميّين الأردنيّين إلى متلازمة “الصوت الهادئ على حافّة بركان”، كالعادة.

في متابعة لعشرات المقالات في الصحف والمواقع الأردنيّة، نجد تلك النبرة الفاترة التي تدافع عن الموقف الرسميّ في جانب، وتحاول تحييد القرّاء بتحليل سياسي ركيك في جانب آخر.

عبد الهادي راجي المجالي مثلاً، الذي كان قد كتب في مقال قديم له ممازحاً شريكاً له في لعب الشدّة ينحدر من غزّة ويحمل جوازاً مؤقّتاً تبرّع له بالدم: “عليك أن تشكرني مطوّلاً لأنّني أعطيتك دماً برقم وطنيّ” (مقال “من هو الأردني”، الرأي 26.12.2012)، ينشر مقالاً في نفس الجريدة بعنوان “صواريخ ودعاية وشوربة” بنبرة تسطّح ما يجري في غزّة، منقلباً فيها على تشويهه المستمر للأردنيين من أصل فلسطيني (الرأي، 16.07.2014).

أمّا فهد الفانك الذي طالما حمّل الناس عبء الحكومة الاقتصادي والمجتمعي والسياسي، فيستمر في تسطيح الحرب على غزّة وتحميل حماس ما يحمّله لإسرائيل، في مقاله “حماس بدون أصدقاء“، معتبرًا أن الحرب تبدو وكأنها “ليست عدواناً من طرف واحد، بل صراع بين دولة (تدافع عن نفسها) ومنظّمة متّهمة بالإرهاب”.

ثمّة أيضاً من يستعمل هذه النبرة لإيجاد مخارج للخطاب الرسميّ الأردنيّ – الذي حذّر إسرائيل، على لسان وزير الأوقاف، في ذروة هجماتها على غزّة، من “اختلاق الذرائع لاقتحام المتطرفين للأقصى. ففي وقت تنعدم فيه المقالات التي تناصر المقاومة، نجد في مقال عريب الرنتاوي “ما الذي بمقدور الأردن أن يفعله“، نموذجاً مرتهناً في دعوة الحكومة لبذل جهودها في التهدئة – مع أنّه يدعو الحكومة للسماح بالغضب الشعبي والابتعاد عن ملاحقة النشطاء.

هنا تبرز مسؤوليّات كتّاب لطالما كانوا أقرب (لكي لا نقول على تماس) مع الشارع. لكن سلسلة المقالات التي كتبها إبراهيم غرايبة في الغد في الأيام الأخيرة لا تبتعد عن هذه النبرة الفاترة. إذ يوازن مقاله “الاستثمار في الكراهية” بين المقاومة الفلسطينيّة والعدوان الإسرائيليّ من باب أن عمليّات المقاومة تهدف (فقط) “لخلق الرعب والخوف والهلع”، وبأنّها “فوضى لأجل الفوضى” يديرها “دعاة القتل”.

على الجانب الآخر، استغلّت بعض المقالات العدوان على غزّة لتصفية حسابات سياسيّة مع خصوم إقليميين. في مقال لياسر زعاترة  بعنوان “غزّة بين صوت الصهينة وصوت الهزيمة وصوت الشبّيحة“، لا نعثر على وجهة النظر الداعمة للمقاومة إلا بمعاداة أعداء “حماس”، فيسترسل المقال بالهجوم على إيران والنظام السوري والأصوات التي تمثّلهما.

ينسحب هذا التسطيح في التحليل على مقالات حلمي الأسمر في هذه المرحلة أيضاً. فمن دون أن يذكرهم، يتحوّل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع بين حماس وقوى الممانعة. وبدلاً من دعم منصّة شعبيّة أردنيّة تحتضن خط الدفاع الأوّل عن فلسطين، تنشغل المقالات في انتقاد “خطاب الهزيمة” وهو ذات خطابها.

خارج دوائر الإعلام التقليدي وفي الإعلام الإلكتروني، نجد نبرة أوضح تكاد أن تقترب من انفعاليّة الخطاب الإعلامي المصري. لنتذكّر أوّلاً بأن القائمين على المواقع الإلكترونيّة هم في معظمهم أبناء الإعلام التقليديّ. لذلك تتفلّت وجهات النظر من الرقابة الحكوميّة- التي لم تعد بحاجة إلى ممثّل رسميّ في مقرّات الصحف- لكن إلى الجهة الأخرى، حيث يتم تفسير دعم غزّة من دون الاعتراف بالدور الأردنيّ “الحاسم” في “حماية أهلنا” على أنّه “خيانة”.

العقيد المتقاعد زياد عبابنة في موقع “زاد الأردن” مثلاً يعلّق على مظاهرة جامع الكالوتي في ٩ تموز، والتي تم فضها بعنف، مستعيداً كليشيه تواجد السفارة الإسرائيليّة لخدمة الفلسطينيين، في مقال بعنوان “هل يريدون نصرة غزة أم توريط الأردن؟“، ويعتبر أن من ينتقد الدولة الأردنية- التي “تقوم بواجبها من خلال القنوات الرسميّة المنطقيّة المعقولة والمقبولة” متهوّر ويمتلك امتيازاً في حريّة التنظير.

هذا ما يظهر أيضاً في تعليق مقتضب لمحمود دويري على موقع “تاج الأردن”، متحدّثاً عن “تجاهل إعلامي محلّي” لـ”جهود” الأردن في غزّة من خلال “دور” الملك والحكومة الدبلوماسي في “الطلب من دول العالم التدخّل لوقف المجزرة الإسرائيليّة”، وفي المستشفى الميداني هناك.

ثمّة من أعاد استنساخ حملات القصر ضد الحكومة وبالعكس بركاكة أيضاً، إذ نشر موقع جفرا مقالاً بدون اسم الكاتب يهاجم فيه دور الحكومة تجاه الحرب، بينما يقوم الملك والقوّات المسلّحة في المستشفى الميداني “بموقف مشرّف”.

نضطّر في النهاية إلى إعادة إرساء البديهيّات الأردنيّة: الإعلام الأردني في معظم منصّاته ليس انعكاساً للشارع، بل إعلام تم تقييده في البداية، ومن ثم أطلق ليسير وحده. فبينما يتم توجيه اتهامات لأهالي وأطفال مخيّم مادبا في محكمة أمن الدولة تحت بنود قانون “مكافحة الإرهاب”، ينشغل الإعلام إمّا بالنظر إلى قيوده المنحلّة والتحسّر عليها، أو بالعودة إلى الخطاب الشوفينيّ الذي يذكّرنا كل مرّة بأن الحل يكمن في الإشارة إلى خلل هذا الخطاب ومراقبته قبل أن يتحوّل إلى خطاب معادي إقليميّاً مثلما نجح ضد الحراك الشعبي في الأردن.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية