ثورة الأثرياء تنتصر

الثلاثاء 22 تموز 2014

“بالطبع هناك حرب طبقية، لكنها طبقتي، طبقة الأثرياء، التي تشن هذه الحرب، ونحن نكسبها”، وارن بافيت.

في عام 2012، صدر في المكسيك كتاب “ثورة الأثرياء”، للخبيرين الاقتصاديين كارلوس تيو وخورخي إيبارا، أستاذي الاقتصاد في الجامعة الوطنية المستقلة المكسيكية. الكتاب على صغره (أقل من 200 صفحة)، أحدث جدالاً كبيرًا، وأصبح أرضية لنقاش التطورات الاقتصادية العالمية، واعتبر صرخة احتجاج على النيوليبرالية.

العبارة الاستفزازية لوارن بافيت، كانت محور فرضية الكتاب واستنتاجاته. ففي النهاية، وعلى مدار الأعوام الخمسة والثلاثين الأخيرة كانت الثروة تتركز، وبشكل متزايد، في أيدي قلة قليلة من الأشخاص، يتناقصون أيضًا بشكل مضطرد. وإذا كان بافيت يشير إلى وجود هذه الحرب، أو هذا الصراع الطبقي، فهي بشكلها التقليدي، الصراع بين من يملكون وسائل الإنتاج ومن لا يملكونها، أي بين رأس المال والعمل. لكن في السنوات الأخيرة صار لهذا الصراع خصائص أخرى، فلم يعد كما كان في السابق صراعًا بين الرأسماليين والعمال وحسب، بل أصبح صراعًا بين النخبة العليا من البرجوازية العالمية ضد الجميع (البرجوازية الصغيرة أو صغار الملاكين، الطبقة الوسطى والعمال). هذه هي الحرب التي يشير إليها بافيت، وتؤكدها الأرقام، وتفوز بها طبقة الأثرياء، بل أثرياء الأثرياء. ويكفي للتدليل على ذلك ملاحظة تدهور حصة الدخول في الناتج العالمي الإجمالي (بما في ذلك أجور موظفي ومديري ثروات الأثرياء) في الدول الصناعية المتقدمة. هذه الخصائص الجديدة للصراع الطبقي هي ما يدرسه كتاب “ثورة الأثرياء”.

عالمياً، لم يترافق التفاوت الكبير في المساواة مع تحسن في أداء الاقتصاد: بين عامي 1951 و1973 كان متوسط نمو إجمالي الناتج العالمي الحقيقي، هو 4.8%، مقابل 3.2% ما بين 1973 و2007. وخلال هذه السنوات عانى النظام الاقتصادي من خمس مراحل ركود على المستوى العالمي، مقابل صفر مرحلة في الأعوام 51 و73. وكان النمو في الناتج العالمي بالنسبة للفرد 4.4% بين عامي 1951 و1973، مقارنة مع نمو متواضع بلغ بين 1973 و2010، 1.8% فقط. وكل ما تحقق سابقًا لم يخفض التضخم سوى بنسبة سبعة أعشار بالمئة عما هو عليه الآن (3.9% خلال 1951 إلى 1973، و3.2% بين 73و 2012). بمعنى آخر، فان خصائص ثورة الأغنياء ليست في التفاوت الكبير في عدم المساواة وحسب، بل في توليد نمو اقتصادي ضعيف وهش أمام الازمات.

(لمزيد من المعلومات حول الناتج العالمي والتفاوت، أنظر تقرير مؤتمر التجارة العالمي 2012)

ينقسم الكتاب إلى ثمانية فصول تحليلية نقدية، وفصل أخير للخلاصات النهائية.

الفصل الأول: المقدمة، العصر الذهبي للرأسمالية. يقدم لنا الكتاب موجزًا بسيطًا للاقتصاد العالمي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكيف تم تخطي المشاكل التي وقع فيها بعد الحرب العالية الأولى والتي أدت إلى “الكساد الكبير” 1929-1933، وجولته الثانية. الفكر الكينيزي؛ المطالبة بدور للدولة؛ الاعتقاد بأن السوق لا زالت بعيدة عن أن تكون ناضجة، كل هذا، من بين أمور أخرى يجب أن تؤخذ بالاعتبار، أدى وبعد مرحلة طويلة إلى نمو عدة اقتصادات.

وبالطبع لم يكن كل شيء يسير بشكل مرضٍ، وبقيت الكثير من المشاكل البنيوية التي لم تحل، بحيث بدأت تظهر على هذا العصر الذهبي أول ملامح الإنهاك منذ أعلن الرئيس الأميركي نيكسون في خريف 1971 فك ارتباط الدولار بالذهب، موجهًا ضربة قاتلة للنظام النقدي والمالي العالمي الذي كان تأسس على اتفاقية بريتون وودز. هذه الاتفاقية، على محدوديتها الواضحة، كانت أسهمت في الانتعاش والأداء الجيد نسبيًا.

الفصل الثاني: العقيدة النيوليبرالية. الدور المركزي للفكر الاقتصادي. هنا نجد لمحة شاملة عن تطور الأفكار التي سادت الدراسات الاقتصادية (وتأثيرها في الاقتصاد السياسي)، منذ ظهور النيوكلاسيكية الحالية وحتى الآن، ونقرأ كيف أن نيوليبرالي اليوم اجتزؤوا وفسروا (أو حتى ابتذلوا) على طريقتهم أفكار النيوكلاسيك، وبشكل خاص منذ اجتماع (مونت بيريلين)، في سويسرا، عام 1974، الذي عقد بمبادرة من مؤسسة فردريش فون هايك، بمشاركة 36 مفكرًا من أشد المعارضين لدور الدولة أو أي شكل من أشكال التشريعات والقيود على الحرية الفردية المطلقة.

الفصل الثالث: تموضع المشروع النيوليبرالي. يبحث في العلاقة الوثيقة بين مصالح الجماعات الاقتصادية الكبيرة مع أفكار كبار المفكرين المتحمسين لدور السوق المطلق في قيادة الاقتصاد والمجتمع ككل، وكذلك بعض الجماعات والأحزاب السياسية. يسلط الضوء هنا على دور هؤلاء في إدارات الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وحكومة مارغريت تاتشر في بريطانيا، وحكومة المستشار الألماني هلموت كول والرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، ودور هؤلاء الجمعي وتأثيرهم في تسويق وانتشار النيوليبرالية. ويحلل بدقة مواقف دعاة النيوليبرالية الجدد، خاصة المستفيدين منهم، ودفاعهم المستميت ضد الكينيزية واليسار.

الفصل الرابع: التغيرات في الهياكل المؤسساتية، وإعادة توجيه السياسات الاقتصادية. يوضح هنا الحالات الملموسة لهذه المتغيرات في اتجاه النيوليبرالية، والدور الذي لعبته المؤسسات الاقتصادية الدولية في هذه المتغيرات.

لقد حدثت تغيرات مؤسساتية في مختلف دول العالم، من تقييد دور الدولة إلى مفهوم استقلالية البنك المركزي (مستقل عن من، وعن ماذا؟ هذا هو السؤال)، مروراً بالمتغيرات في علاقات العمل ومنظومات الحماية الاجتماعية.

هذه المتغيرات ترافقت بالضرورة مع متغيرات أخرى في السياسة الاقتصادية التي تم أخذها في الاعتبار لتعميم النيوليبرالية على وعبر العالم أجمع. وفي هذا السياق يتناول الكتاب بالتحليل مثال تشيلي منذ انقلاب بينوشيت الفاشي، إلى التجربة البريطانية وتركزها في المجال النقدي، وقرار الرئيس الاميركي جيمي كارتر عام 1978 بتخفيض الضريبة على الأرباح الرأسمالية عشرين نقطة مئوية، وتحرير الأسواق المالية الآسيوية، إلى الطريق التي أدت إلى اتفاقية (ماستريخت) ورؤيتها النيوليبرالية للوحدة النقدية الأوروبية (هذه الوحدة التي يدفع ثمنها المرتفع، ليس منطقة اليورو وحدها، بل كل الاتحاد الأوروبي).

الفصل الخامس: الزخم. التدريس والبحوث الاقتصادية. يخصص هذا الفصل لتحليل معمق ونقدي للوضع الحالي لتدريس وبحث الاقتصاد في أكثر الجامعات تأثيرًا، وكيف فرضت هذه الجامعات المقاربات النيوكلاسيكية والنيوليبرالية فقط على المواد التي تنشر في المجلات العلمية المتخصصة. وفقًا لهذا التيار فإن كل دراسة لا تعتمد المنهج الرياضي والنماذج المعيارية ليست دراسة علمية. ما يهم هنا، هو أن النموذج يعمل، لكن لا أحد يهتم بتحليل ما إذا كانت الفرضيات التي يستند عليها حقيقية أم لا. وبالنسبة للنيوكلاسيك – النيوليبرال فالمهم هو، أولاً: صياغة الحجج التي تدعم مبدأ فعالية السوق. ثانيًا: تنحية كل الدراسات التي تتناول مفاهيم بديلة لا تركز على الموازنات وحدها، الأطر المفاهيمية والمبادئ التوجيهية المنهجية للاقتصاد التقليدي. ثالثًا: عدم نشر دراسات تختلف مع رؤيتهم في المجلات العلمية المحكمة. رابعًا: ليس لديهم أي اهتمام بأعمال الاقتصاديين من تيارات أخرى، ولا يعطون أي اهتمام جدي لنقاش أي من الأفكار التي تقع خارج الحدود التي وضعوها هم أنفسهم.

الفصل السادس: عدم كفاءة وفعالية العقيدة النيوليبرالية، فيه يحلل المؤلفان الأداء الاقتصادي تحت النظام النيوليبرالي، كما أشير سابقًا. لقد انخفض نمو الناتج الإجمالي العالمي الحقيقي، بـ 1.6 نقطة مئوية، في المرحلة ما بين تعطيل بريتون وودز ونشوء اجماع واشنطن. وفي نفس الوقت ارتفعت البطالة: من 1.6% إلى 7.4% في بريطانيا، من 3.1% إلى 7.5% في ألمانيا، من 4.8% إلى 6.1% في الولايات المتحدة. وكل هذا ترافق مع تزايد مضطرد في عدم المساواة. هذا التفاوت هو جوهر هذه الدراسة، (توزيع لأجل النمو)، والتي يتم إثباتها بالأرقام: ارتفعت حصة الدخول في حجم الناتج الكلي للولايات المتحدة إلى 70% في الفترة ما بين 1960 الى 1980، لكنها انخفضت إلى 65% في عام 2008. وكان الوضع نفسه في الدول الخمس عشرة التي كان يتشكل منها الاتحاد الأوروبي قبل عام 2004، فمن ارتفاع هذا المؤشر إلى 70% عام 1960 إلى 74% عام 1981، هبوطًا إلى 65% عام 2008. وبطبيعة الحال فقد كان القطاع المالي أكبر المستفيدين في تركيز الأرباح، فقد ارتفعت ارباحه من 10% الى 30% في نفس الفترة.

هذه التطورات سيتم تحليلها بتوسع في الفصل السابع، “إعادة التوزيع الارتدادية” للثروة والدخل. لا يستخدم المؤلفان هنا أرقامًا صادرة عن معارضي النيوليبرالية، ممكن أن يكون مشكوكًا بها، بل أرقامًا صادرة عن منظمات دولية. يقول تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، عام 2013: “حصل أغنى عشرة بالمئة في مجتمعات الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على دخل يزيد أكثر من 9.5 مرة من دخل أفقر عشرة بالمئة في عام 2010، ارتفاعًا من تسعة أمثال في 2007. والفجوة الأكبر بين الأغنياء والفقراء كانت في تشيلي والمكسيك وتركيا والولايات المتحدة في حين كانت آيسلندا وسلوفينيا والنرويج والدنمارك من أكثر الدول عدالة في توزيع الدخل. وقال آنخيل غوريا الأمين العام للمنظمة في بيان “هذه النتائج المقلقة تؤكد الحاجة إلى حماية الأكثر عرضة للخطر في المجتمع خاصة مع انتهاج الحكومات الإجراءات الضرورية للسيطرة على الإنفاق العام”.

كما أن معامل جيني في دول منظمة التعاون كان 0.29 منتصف ثمانينيات القرن الماضي وارتفع إلى 0.32 خلال الأعوام الأخيرة من العقد الأول للقرن والواحد والعشرين. ويقتبس الكتاب ما قاله مرة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، وهو من المتحمسين للنيوليبرالية: “إن مواطنينا يشعرون بالقلق فأداء الاقتصاد ترك العمال في الأسفل. عدم المساواة في التوزيع لهو أمر حقيقي، فهو لا يزال يتزايد باضطراد منذ 25 عاماً”. هنا تكمن “ثورة الأثرياء”، التي لم يخطىء وارن بافييت حين قال بأن طبقته تفوز بها.

للمزيد من المعلومات حول عدالة التوزيع ومعامل جيني في الأردن، أنظر مثلا مقال الخبير الاقتصادي الأردني يوسف منصور، عدالة التوزيع.

الفصل الثامن: الأزمة الاقتصادية الحالية. يحلل الكتاب في هذا الفصل الأزمة الاقتصادية الحالية من خلال مسألتين، أولا: تأثير السياسات النيوليبرالية فيما بات يعرف بـ”الركود العظيم” الذي يمر به مجمل الاقتصاد العالمي منذ العام 2007، وثانيا: الاختلافات بين وجهات النظر والسياسيات المتبعة لمواجهة هذه الازمة. بالنسبة لبعض المتفائلين، يمكن إحداث بعض التغييرات مع الحفاظ على النهج: في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يشير الكتاب إلى حالتين تعتبران الأكثر تمثيلاً لسياسات المواجهة: ضخ موارد مالية، واتباع سياسيات نقدية تعود للمدرسة الكينيزية للتخفيف من أثر الركود. أما في أوروبا فقد بقيت هذه السياسيات أمينة للمدرسة النيوليبرالية الأكثر رجعية، كما تمثلت في “اتفاقية الاستقرار، التعاون والحوكمة“، الذي وقعت في آذار-مارس 2012. مع “الركود العظيم” تبين أن السوق عاجزة، في نهاية المطاف، عن مواجهة الأزمة، وهل هذا أمر جديد؟ وهل كانت السوق سابقا أفضل؟

ينتقل الكتاب إلى تحليل مواقف اليسار في مواجهة النيوليبرالية، يقول: “إن فشل اليسار في مواجهة الهجمة النيوليبرالية بات أكثر وضوحا مع مرور الوقت. حاليًا، فإن قسمًا كبيرًا من اليسار الأوروبي والأميركي ليس عاجزًا فقط عن هذه المواجهة بل لا يمتلك أي برنامج أو خطة محددة وواضحة، وهم في كل يوم يخسرون دعم الطبقات الشعبية”.

على مدى صفحات الكتاب، يتضح لنا أن النيوليبرالية، ليست تيارًا فكريًا محايدًا ابتدعته حفنة من المثقفين في اجتماع “مونت بريلين”، تتم مناقشته في المؤتمرات والأندية الفكرية. إنما هو مركب من الأيديولوجيا والمصالح والطموحات، هدفها إدامة وتعزيز الفوارق الاجتماعية. ولهذا نرى حركة الاحتجاجات الواسعة والغاضبة التي امتدت في كل العالم تقريبًا على هذا النهج.

في النهاية، نحن أمام كتاب تحليلي بحثي، يهدف في الأساس إلى التوصل إلى ضرورة التنوع في الدراسات الاقتصادية، وعدم الاقتصار على منهج أو مدرسة واحدة، كما يشير الكتاب في الفصل الرابع، حيث يجري تعميم “فكر وحيد” وشمولي وأبدي، في الدراسات والجامعات والدول، دون أخذ المدارس الأخذ بالاعتبار المدارس الاخرى، وتفاوت مستوى التطور والتنمية في اقتصاديات دول العالم. يقول المؤلفان في الفقرة الأخيرة من الكتاب: “لا توجد نظرية اقتصادية وحيدة، إنما مركب من الأفكار، تمحورت دائمًا حول البحث في توزيع دخل الدول والتطور الاجتماعي للشعوب، وقد تم تطوير هذه الأفكار على مر السنين منذ بدأت بالتبلور في أواخر القرن السابع عشر. كما لا يوجد سياسة اقتصادية واحدة، صالحة لكل مكان وزمان”.

على أي حال، فإن الكتاب لا يدعو بحال للثورة على النهج الاقتصادي السائد، النيوليبرالية، فهو ما أشرنا في الفقرة السابقة، يؤكد بأنه ليس هناك نظرية اقتصادية وحيدة، أو سياسة اقتصادية واحدة. لكنه يدعو إلى مركب من الأفكار لتجاوز الأزمة والوصول إلى اقتصاديات أكثر عدالة. ويدعو المؤلفان إلى ما يطلقان عليه “توزيع لأجل التنمية”، أي إعادة توزيع أكثر عدلًا لتحقيق التنمية، وهي أفكار قريبة جدًا لما يدعو إليه المفكر الاقتصادي العربي سمير أمين.

ويعتقد مؤلفا الكتاب بأن شمول السكان في التأمين الصحي الشامل، مثلاً، ممكن أن يؤدي إلى إعادة توزيع أفضل وبالتالي إلى تنمية، فمع تأمين صحي، يستطيع المواطن توفير مبالغ ممكن استثمارها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية