في تعريف “الإرهاب”

الخميس 24 تموز 2014

هديل بدارنة

(نشر هذا المقال على موقع المنشور بتاريخ 21 تموز، بعنوان “مين إرهابي؟! أنا إرهابي؟“)

في الوقت الذي تنهمر به المشاهد الدموية وتتعاقب أمامنا صور القمع الاستعماري الوحشية في أنحاء فلسطين عامة وفي غزة خاصة، يحيي كل من اللوبي الصهيوني ووسائل الإعلام الأوروأميركية خطاب “إرهاب المتطرفين” من جديد. وبه تُرفع “مظلة أمنية” تزدحم تحتها شتى الفئات والأجسام السياسية، دون أن يكون بينها أي قاسم مشترك أو مصالح جامعة؛ فإذا وجدْتِ بالأمس الأسود السود في إثيوبيا، الجيش الإيرلندي الجمهوري، الجبهة الشعبية، ووحدات القتال الفليبينية، تجدين اليوم حماس، الاتحاد الإيراني الشيوعي، “الشباب المجاهدين”، حركة نسور الحرية الكردية، حزب الله.. ومؤخرًا داعش. ذلك بالإضافة إلى كل من مرّ إلى جوارهم، عرفهم، جلس معهم، أو تنفّس “هواءهم”. كل هؤلاء يغدون في غضون لحظات أهدافاً عسكرية شرعية في ساحة “الحرب على الإرهاب” – “Global war on terror”؛ ساحة “بوشيّة” افترشت العالم بأكمله بعد أحداث سبتمبر. وما أسهل أن تتحوّل هذه الأهداف العسكرية إلى ذريعة لنهب الأراضي والموارد وكسب المنافع الاقتصادية والسياسية لدول الشمال وأنظمة الاستعمار الاستيطاني.

ففي خطاب هذه الدول المستهلَك تتكرر كلمة مفتاحية، مدجّجة بأجندات سياسية وألاعيب نفسية: “الإرهاب”. لكن عند تفكيكها سرعان ما نجد أنها كلمة جوفاء غائرة لا تحتمل نظريات سياسية أو فلسفات عنف أخلاقية، وما هي في الواقع إلا بدعة ابتدعتها الدول الحديثة لتخلق صفة شيطانية تقترن بكل ما هو خارج منظومتها وفي تضادّ مع مصالحها. فبينما يرافق العنف المُمأسس العسكري شرعية دولية أوتوماتيكية، يتم اختزال كل الردود غير السلمية، كانت شعبية أم فئوية مسلحة، بخانة واحدة أحادية الأبعاد – “الإرهاب”. (سنسمي الصنف الأول “الإرهاب المشروع” والثاني “الإرهاب المرفوض”).

وبهذا تتحول التعريفات القانونية التي سنّتها مختلف الدول في محاولاتها للقبض على هذا “المفهوم الزئبقي” إلى أداة سيادية قمعية لا غير. ففي الكيان الأميركي على سبيل المثال، يُعتبَر اعتداء “مجموعات غير رسمية” على أي من جنود الجيش الأميركي، وإن كانوا مسلحين، إرهابًا. في البيرو، يغطي التعريف القانوني للإرهاب “أي انحراف عن النظام الدستوري”. في سيريلانكا إذا قمت  بـ”تخريب اللافتات العامة” ستجد نفسك على لوائح المطلوبين، وحسب تعريف مسودة القانون العسكري المصري الجديد فهو “استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بالمواصلات أو بالأموال أو بالمباني (..) أو الاقتصاد الوطني”. وهكذا قد يصبح العصيان المدني اللاعنفي إرهابًا لإلحاقه الضرر بالاقتصاد الوطني. وأخيرا في السعودية فالإرهاب مصاب بداء أبوي يشمل “المسّ بالشرف وانتهاكه” حتى “يحمي” المرأة، ذات المرأة التي لا يجوز لها أن تقود؛ في داخل السيارة أو خارجها.

أما التعريف الأكاديمي الليبرالي المتّبع ينص على أنّه بواسطة “الإرهاب المرفوض” يتم “زرع الخوف الجماعي بين فئة من المدنيين في مكان ما لمدة مطوّلة من الزّمن”. أفلا يكون خوف المدنيين في غزة تحت التضييق والحصار، الاغتيالات المستمرة “الروتينية” والرقابة الجماعية كافٍ، حتى للمحافظين منّا، أن يصل حد الإرهاب؟ إرهاب مدعوم ببنى تحتية اقتصادية-سياسية تقاس بمليارات الدولارات تسندها دول وتحركها شركات خاصة عملاقة؟

إضافة إلى هذا الإرهاب اليومي الذي تمارسه معظم الأنظمة القامعة، دعونا لا نُغفل حملات العنف الشرسة التي تشنها الدول تحت شعارات “الأمن والأمان” والتي تتعدّى تعاريف الإرهاب الكلاسيكية بأشواط صهيوفاشية لا توصف. ألا يحق إذا لمن تحت القصف وحملات العدوان وآليات الاستبداد أن “يرهب” القامع إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً بالرغم من موازين القوى؟ ألا يعتبر ذلك في مراحل معينة عملاً ضروريًا في مكافحة وحشيات الأنظمة هذه؟  أنسينا مقاومة النظام الأبيض الذي حوّل أصحابَ الأرض إلى عبيدٍ بنزعهم الملكية عن ثلاثة ملايين ونصف مليون أفريقي في جنوب إفريقيا؟ هل مسح الإعلام الأبيض عن ذاكرتنا كيف اضطر مانديلا (عبر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي) في بداية الستينات إلى شن مئة وتسعين هجوماً مسلحاً سقطَ على إثرها عدد من الضحايا المدنيين؟ أيعقل أن يقف الجيش الإيرلندي الجمهوري الشعبي ساكنًا أمام المحتل – الشرطي البريطاني – الذي قتل المارّين في الطريق وعذّب الأسرى السياسين في السجون و”زرع الخوف بين المدنيين لمدة مطولة من الزمن” طالت ٨٠٠ سنة؟ أنُدينه عندما قاوم في السبعينيات وزرع القنابل والمفخخات مستهدفاً رجال النظام مصيبًا أحيانا مدنيين؟

غالباً ما تُولّد عمليات المقاومة ردود فعل دفاعية عند مناصريها فيُصرّون على أنها ليست “إرهابا” خاضعين بذلك للتعريف الأبيض للإرهاب؛ تعريف ذو اتجاه واحد يجعل من منفّذيه عصابات منحطة أخلاقيا دون أرضية تجمعهم في عنفهم السياسي ضد قمع اجتماعي اقتصادي أو نير استعماري. الحقيقة هي أنه قبل تحوّل كلمة ‘إرهابي/ة’ لشتيمة إقصائية على لسان الأنظمة التوتاليتارية كانت كلمة تحمل إيحاءات تمجيدية تطلق على مقاومي الثورة الفرنسية لاتخاذهم العنف السياسي سراطا نضاليا وكان “الإرهاب الثوري” هو ما اعتنقه لينين في إرثه الفكري عن اليعقوبيين.

في وقتنا هذا لربما خيرٌ لنا أن نبتعد عن كلمة “الإرهاب”، إذ أصبح لها وقع ثابت على الأذن المُعَولَمة وشكل لغوي مُجمّد هَندَسَته وسائل الإعلام التجارية. لكنّ ذلك لا ينفي وقوعنا في مطبّ خطابي ذوتنا عبره أن هناك آليات مقاومة شرعية وغير شرعية، أن هناك معايير لـ”الثورة السليمة” وأن هناك حد بين الاحتجاج الليبرالي الموسمي المحمول والتمرّد الراديكالي الجماعي المرفوض، كان عنفيّاً أو لا عنفيّاً. وهكذا أخرجت مؤسسات العنف المتجسدة في أجهزة الدول وانظمة الاستعمار العنف غير الممؤسس من حيّز الشرعية القانونية والأخلاقية.

بالمقابل مأسس المجتمع المدني اللاعنف وعمل كحاضنة له، وأخذ يخاطب المعنفين بالسلميّة والانسانية وورشات اليوغا من جهة، ويلوّح بصور جَلدِهم لحملات تمويلية من جهة أخرى. وكأن على الإنسان أن يطلب من النظام بأدب أن “يكف عن تصرفاته غير اللائقة هذه” ليعمّ الإصلاح، تمامًا كما يُطلَب من المرأة المعنّفة مهادنة زوجها “تاج رأسها” ليعمّ السلام في بيتها.

إضافة إلى ذلك، وظّف قطاع المجتمع المدني المقيّم ببلايين الدولارات، نخبة متعلمة تبدأ مهمتها وتنتهي بمنظومة القوانين الدولية لتعرية هذه الدول المشاكسة (كون “أنظمة إرهاب” مصطلح معدوم قانونيا). كما نرى على شاشتنا اليوم، تعلمت هذه النخبة التقوقع في سلطة القانون النصيّة والتلاعب في بنود معاهدات جنيف ومستندات هاج معوّلة عليها وحدها. فهل تخاف الأنظمة من التصريحات الإصلاحية أو التنديدات الدبلوماسية؟! أكثر من ذلك، ألا تنتفع الأنظمة من لغة حقوقية عمياء لا ترى أمامها علاقات قوى بين سكان أصليين لماكنات الاستعمار الذكوري (عسكرية، اقتصادية، واجتماعية)؟! بين المواطنين وأجهزة الدّول المُعنِّفة؟

كيف سيُهدم بيت السيّد بأدواته التي تصونه؟ يكفينا أن نمعن النظر في بنود القانون الإنساني لنجد، دون أن يكون ذلك مفاجئا، أنّه يجسّد استمرارية الخطاب المحافظ الذي قوننته الدول لتُشرعن سيطرتها وتسنّها في نصوص فضفاضة حافلة بمخارج عسكرية واستثناءات “أمنية”. وبالتالي لم يكن ولن يكون هناك أي رد دولي لأقوال آفي ديختر، رئيس المخابرات الصهيونية (الشاباك) السابق، إن “محاربة حماس كجيش غير رسمي، أي جيش إرهابي، تشرعن لنا قانونيا سحق بناهم التحتية حتى الحطام مهما كلف الأمر”. لم تتغيّر إنسانية ديختر كثيرا فهو أيضا صاحب المقولة “إذا لم تنفع القوة مع العرب فسينفع المزيد من القوة”.

بعد كل هذا عندما يُقال إنه من الأفضل أن نرتقي أخلاقياً ونترك هذا العنف والشغب، أو أن نعود للسكينة الروحانية الغاندية على إيقاع هدم المدارس وتفجير المنازل وتحليق طائرات الحرب لا يبقى إلا أن نقول ما قاله فرانس فانون: “ما أشدّ سذاجة اللاعنفيين: لا هم ضحايا ولا جلادون! لنكن جديين!”.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية