“جبت آخري”: رسالة مفتوحة من علاء عبد الفتاح

الخميس 28 آب 2014

(نشر هذا المقال على مدى مصر في 26 آب 2014. بعد يوم واحد على النشر، توفي والد علاء عبد الفتاح)

الساعة الرابعة مساء اليوم احتفلت مع زملائي بآخر وجبة لي في السجن. قررت بعد أن رأيت والدي يصارع الموت حبيساً في جسد لا يطاوع إرادته أن أدخل اضراباً مفتوحاً عن الطعام حتى أنال حريتي، فسلامة جسدي لا قيمة لها طالما ظل خاضعاً لسلطة ظالمة في حبس مفتوح المدة وفق إجراءات لا علاقة لها بالقانون أو العدالة.

راودتني الفكرة وأجّلتها أكثر من مرة حتى لا أكلّف عائلتي مشقة مضاعفة، خصوصاً مع اعتياد وزارة الداخلية التنكيل بالمضربين عن الطعام والتضييق عليهم، ولكني أدركت أن مشقة أهلي تزداد مع كل يوم يمر عليَّ في السجن؛ فما سُجِنَت أختي الصغرى سناء، هي ومعتقلي الاتحادية، إلا لمطالبتهم بالحرية للمعتقلين. حَبَسوا أختي لأنها طالبت بحريتي!

تشتتت جهود العائلة بين سجينين، وأنهِك قلب والدي بين محكمتين؛ والدي الذي أجّل الجراحة الضرورية أكثر من مرة بسبب قضية مجلس الشورى المشؤومة! خطفوني من حضن ابني خالد وهو لا يزال يناضل للتغلب على الأثر النفسي للحبسة الأولى.. ثم جاء الأداء غير الإنساني للداخلية أثناء تنفيذها اللفتة الإنسانية (زيارتي لأبي في العناية المركزة) ليؤكد لي أن الانتظار لن يساعد أمي ليلى وأختي منى وزوجتي منال. حاولَت مديرية أمن القاهرة إخلاء عنبر المستشفى من المرضى والأطباء والأسرة والتمريض حتى يسمحوا بزيارتنا، حددوا مواعيد وأخطرونا بها ثم ألغوها أكثر من مرة، وفي النهاية خطفوني من زنزانتي فجراً بنفس حنية زوار الفجر.

واحتار اللواء في كيفية ضمان عدم هروبي لاقتناعه التام بأن كل ما يحدث مسرحية وأنه لا أحد مريض وأننا نتآمر فقط لحرمانه من ساعات الراحة. انتهى بي الحال مكبلاً في حديد سيارة الترحيلات، و كانت الذروة حين تم إدخال كاميرا عنوة لتصوير مسجون احتياطي ومريض رعاية مركزة ضد إرادتهما. أدركت لحظتها أن الانتظار لا يرفع عن عائلتي مشقة بل يجعلهم مساجين مثلي، خاضعين لإملاءات و مزاجات مؤسسة خالية من الإنسانية وعاجزة عن الرحمة.

أيامي في السجن لا تقربنا من دولة ملتزمة بقوانينها ولا محاكم معنية بالعدالة، فلا يزيدني السجن الآن إلا كراهية.

في كل مرة واجهت فيها المحاكم والسجون كنت أرحب بها، ليس فقط كثمن ضروري ومتوقع لمواقف معارضة، وإنما كفرصة للنضال من أجل مبادئ وضمانات المحاكمة العادلة؛ كل جلسة تحقيق أو تجديد أو محاكمة فرصة للضغط ضد القضاء الاستثنائي، وفرصة لدعم قضاة منحازين للعدالة تصورنا أنهم كثر. وكان كل يوم في السجن فرصة لتذكير المجتمع بالمظاليم في السجون، وفرصة للضغط على الجماعات السياسية والإعلام للسعي لوقف الهدر اليومي للعدالة. لكني حين وقفت أخيرا أمام قاضيَّ الطبيعي وجدت عدالة أقل من أعتى المحاكم الاستثنائية، أُهدِرَت الإجراءات والقوانين والمعايير، ورغم فضْحِنا لكل التفاصيل في عشرات القضايا لم نسمع صوتاً لقاضي واحد يعترض على ما يحدث في معهد أمناء طرة. واكتفى السياسيون باستجداء الرأفة لنا بناءً على تاريخنا الثوري دون أي إشارة للإهدار الفج للعدالة.

أيامي في السجن لا تقربنا من دولة ملتزمة بقوانينها ولا محاكم معنية بالعدالة، فلا يزيدني السجن الآن إلا كراهية.

منذ اندلاع الصراع الدامي بين الدولة والإسلاميين عبّرت أكثر من مرة عن ضرورة ألا ننخرط فيه. عندما تنخرط القوة المحافظة المنوط بها تقليدياً التمسك بالاستقرار في استقطاب وصراع لا تبدو له نهاية إلا بإخضاع أو إبادة طرف لآخر، عندها يكون دور المنحازين للثورة -في الغالب- هو محاولة فرملة المجتمع ووقف الصراع. لذا عبرت أكثر من مرة ليس فقط عن ضرورة الوقوف في وجه انتهاكات وجرائم الطرفين والانحياز للضحايا أياً كانت هويتهم، ولكن ضرورة أن ننأى بأنفسنا عن الصراع تماماً بألا نرفع مطالب إلا في حدود الحق في الحياة وكرامة الجسد وحرية الفرد، فاليوم مقومات الحياة نفسها مهددة.

لا أناضل لإنقاذ مقومات الحياة وحيًدا، رفاقي كثيرون وإن خفتت أصواتهم وسط ضجيج الصراع إياه. لكن أقرب رفاق النضال للحق في الحياة وكرامة الجسد وحرية الفرد كانوا دائماً أفراد أسرتي: منى تنظم المتطوعين لوقف المحاكمات الاستثنائية، أمي تتواصل مع ضحايا التعذيب وتضفي بوجودها على الأرض حماية للشباب وشاهد عيان عصي على التكذيب، سناء توفر الإعاشة والرعاية للمظاليم في السجون الذين يترافع أبي عنهم وعنا فيُسقط قوانين بدفوع عدم دستوريتها ويحرر مظاليم ببراءات كما المعجزات، ومن حين لآخر يحبِس أحد الجلادين في أحكام إدانة أندر من المعجزات، منال تشاركني في دعم وتمكين الضحايا والنشطاء بالخبرة والتقنيات اللازمة لتنظيم الحملات وتوثيق الانتهاكات. حبسي المتكرر كان حلقة من حلقات نضال عائلتي، نحاول معا إكمال نضال آلاف لا تيأس أبداً وملايين تنتفض أحياناً.

اليوم انفرطت السلسلة.. فسناء في سجنها تحتاج من يرعاها بدلاً من أن ترعاني، ومنال تكافح وحيدة لحماية خالد من تبعات الحبس ووقف الحال، ومنى وأمي تتناوبان رعاية أبي المغيب عن الترافع عني! لذا أستأذنكم أن أناضل اليوم ليس لحريتي فقط، ولكن لحق عائلتي في الحياة. بدءاً من اليوم أحرم جسدي من الطعام حتى يتسنى لي أن أبات بجوار والدي وهو يصارع جسده، فلا كرامة لجسد محروم من أحضان أحبائه.

أسألكم الدعاء.. أسألكم التضامن.. أسألكم الاستمرار فيما توقفت أنا عنه من نضال وحلم وأمل.

علاء عبد الفتاح
ليمان طرة
١٨ أغسطس ٢٠١٤
اليوم الأول من الإضراب

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية