المدنيون والمقاتلون وتاريخ القانون الدولي

الخميس 07 آب 2014

بقلم كريستيان ويلكه، ترجمة دعاء علي

(نُشر هذا المقال بالإنجليزية في 28 تموز، على “موقع التفكير القانوني النقدي” Critical Legal Thinking)

في التغطية الإعلامية للحرب، سواء كانت من خلال تقارير عن أحداث منفصلة أم من خلال إحصاءات صمّاء لأعداد الضحايا، عادة ما يحتل التمييز بين المدنيين والمقاتلين موقعًا أساسيًا ويثير نقاشات متكررة. قتل الأطفال الأربعة الذين كانوا يلعبون كرة القدم على شاطئ غزة أصبح رمزًا للعنف الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين لأن التعرف على هؤلاء الأولاد كأطفال وبالتالي كمدنيين كان ممكنًا بوضوح. حين تنقل وسائل الإعلام حصيلة القتلى في هذا الصراع غير المتكافئ، فهي تقدم تفاصيل تعزز التفريق بين المدنيين والمقاتلين، وتشوّشه في الوقت ذاته.

على سبيل المثال، نقلت صحيفة الواشنطن بوست أنه بحلول 26 تموز، قُتل 41 جنديًا إسرائيليًا وثلاثة مدنيين إسرائيليين خلال الحرب الحالية، بينما قتل 129 مسلحًا فلسطينيًا، و119 فلسطينيًا لم تعرف أدوارهم، و676 مدنيًا فلسطينيًا، بينهم 111 امرأة و132 طفلًا وطفلة. تفصيل المعلومات حول الضحايا الفلسطينيين يلمّح بوجود شك حول من هم الفلسطينيون الذين يعدّون مدنيين. في هذا التقرير وفي غيره، يتم تسليط الضوء على النساء والأطفال لأنهم مدنيون بما لا يدع مجالًا للشك: إنهم يبدون أبرياء، بلا حيلة، وبحاجة للحماية.

لكن مدنية الرجال الفلسطينيين لم تكن يومًا بذات الوضوح، كما تشير خانة من “لم تعرف أدوارهم”. لا يوجد غموض مشابه فيما يتعلق بالإسرائيليين الذين قتلوا: لم يكن هناك حاجة لتحديد صفات المدنيين الديموغرافية، ولا منطقة رمادية بين المدنيين والمقاتلين. ورغم أن المدنية مفهوم ينتمي للقانون الدولي، إلا أن التاريخ يزخر بحرمان جماعات غير أوروبية من هذه الصفة. تقويض المدنية في هذا الحالات يتماشى مع حالة أكثر وضوحًا هي رفض المسلحين الأوروبيين والشمال-أمريكيين لاعتبار خصومهم مقاتلين شرعيين. بروز مصطلحات مثل “محارب غير معترف به” و”مقاتل خارج عن القانون” يصاحب بروزًا مماثلًا لمصطلحات حول مدنيين مشبوهين، لا شرعيين، وغير أبرياء.

يتم تسليط الضوء على النساء والأطفال لأنهم مدنيون بما لا يدع مجالًا للشك: إنهم يبدون أبرياء، بلا حيلة، وبحاجة للحماية.

قانون النزاعات المسلحة لا يعرّف المدنيين بشكل مباشر، بل يعرّف المقاتلين، ومن ليس مقاتلًا فهو مدني. للمقاتلين أن يستخدموا العنف ضد مقاتلين آخرين، لكن ليس لهم أن يستهدفوا المدنيين بشكل متعمد. لكن “المدني” ليس مجرد مصطلح قانوني رديء التعريف، فهو مرتبط بتصورات عن الحروب الخيّرة الفاضلة. وهناك سرديات تاريخية مختلفة تتكرر حول المدنيين، وتساعد في فهم الروايات المتضاربة حول الضحايا المدنيين في غزة وفي غيرها.

التاريخ الرسمي للمصطلح يقول إنه منذ تدوين قوانين النزاعات المسلحة في اتفاقيات لاهاي وجنيف، ازداد الاعتراف بالمدنيين وحمايتهم حسب القانون الدولي. أصبحت القوات المسلحة تقرّ علنًا بضرورة حماية المدنيين وتجنيبهم النزاع وتحريرهم. فإصرار الجيش الإسرائيلي على سبيل المثال على أن سقوط المدنيين الفلسطينيين هو نتيجة لاستخدام حماس لهم كدروع بشرية -رغم كونه غير صحيح- هو دليل على انتشار فكرة أن قتل المدنيين هو فشل عسكري. وحين يُقتل المدنيون، يجب إلقاء اللوم على الآخر، أو التشكيك بمدنية القتلى.

لكن الجانب المظلم من اهتمام القانون الدولي بحماية المدنيين هو أنه يتوقع من هؤلاء الذين تجب حمايتهم أن يكونوا سلبيين، أبرياء، وخانعين. فصورة المدني هي صورة امرأة أو طفل عاجزين ولا يشاركان في السياسة. هذا المدني المثالي غير موجود في ساحات الحرب، فحين يعيش الناس تحت احتلال عسكري متنكر في هيئة تحرير، ينخرطون في العمل السياسي ضد هذا الحكم الأجنبي بدلًا من انتظار الفرج بصبر. مع ذلك، في غزة وفي غيرها، فإن الذين ينشطون سياسيًا ضد الاحتلال يصنفون بسهولة كغير مدنيين.

وراء الرواية التاريخية الاحتفالية بحماية القانون الدولي للمدنيين، تتخفى رواية أخرى: تزامنَ تدوين القانون الدولي للنزاعات المسلحة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع فظاعات هائلة، ليس فقط خلال الحربين العالميتين، بل أيضًا في حروب استعمارية لا حصر لها لم يعترف حتى بها كحروب. لم يفعل القانون الدولي سوى القليل لمنع هذا العنف، لكنه فعل الكثير ليخفيه. على سبيل المثال، عام 1925 وفي ردٍّ على الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي الذي خرج من كنف عصبة الأمم، قصفت القوات الفرنسية دمشق التي لم تكن [نظريًا] بحماية أحد غير القوات الفرنسية نفسها، لتقتل مئات السكان. هذا الهجوم الذين شنته قوة محتلة ضد شعب تحت الاحتلال يشابه بشدة الحالة البنيوية في غزة، حيث تدعي إسرائيل الدفاع عن نفسها ضد مجموعة من الناس وضعتهم تحت حصار خانق.

في عشرينيات القرن الماضي، ناقش المحامون الدوليون قصف دمشق. وعلى صفحات مجلة القانون الدولي الأمريكية (American Journal of International Law) دافع الضابط الأمريكي إيلبريدج كولبي عن القصف في مقال بعنوان “كيف تحارب قبائل همجية”. أصر كولبي على أن قوانين الحرب لا تنطبق على النزاعات مع شعوب “غير متحضرة”:

“حين يكون المقاتلون وغير المقاتلين متطابقين بوضوح وسط شعب ما، وحين يستغل الهمجيون أو شبه الهمجيين هذه الصفة لخلق الحيل والمفاجآت وإحداث المجازر في صفوف العدو “الطبيعي”، فإن على القادة العسكريين معاملة المشاكل أمامهم بطرق مختلفة تمامًا عن تلك التي يستخدمونها ضد شعوب غربية”.

فوق ذلك، يكمل كولبي: “حين تكون الشعوب الشرقية معتادة على أن تَنهَب و تُنهَب، وعلى أن تُعذّب وتسلخ جلود أسرى بارزين أحياءً، فنحن نتعامل مع خصوم لا تعني لهم قوانين الحرب شيئًا”، وحينها تصبح إدارة الحرب بالكامل تحت حرية تصرف القادة العسكرين.

وبينما يتم اقتباس مقال كولبي الفاقع تكرارًا، يتم عادة صرف النظر عن مقال آخر يبدو أكثر عقلانية. محرر المجلة ذاتها المحامي الدولي البارز كوينسي رايت قدّم تحليله لقصف دمشق، شاجبًا العنف، لكنه خلُص إلى أنه نظرًا إلى أن سوريا ليست دولة، فليس هناك علاج قانوني للعنف الذي كان سحقًا لتمرد أكثر منه حربًا بين دول. نبرة رايت المتأنية، العقلانية وغير الإقصائية تذّكر أن استثناء الشعوب غير الأوروبية من القانون الدولي ليس فقط من عمل عنصريين هائجين مثل كولبي، بل أيضًا من عمل مفكرين بارزين ومهذبين ونقديين مثل رايت.

 يجب أن نتذكر أن القانون الدولي للنزاعات المسلحة لم يُقصد منه حماية الشعوب المستعمَرة من قامعيها، باتفاق بين القوى الاستعمارية. 

لقد قطعنا شوطًا طويلًا منذ العشرينيات حتى اليوم، إلا أننا يجب أن نتذكر أن القانون الدولي للنزاعات المسلحة لم يُقصد منه حماية الشعوب المستعمَرة من قامعيها، باتفاق بين القوى الاستعمارية. فمثلًا، تعريف المدني انطبق على العاملين الأوروبيين البيض غير المسلحين الذين شاركوا حينها في الحكم الاستعماري.عملت القوى الاستعمارية على حماية مدنييها هي، لكنها لم تعترف قانونيًا بالمدنيين في الشعوب التي حكمتها. قبل أن يُقتل المدنيون، تُمحى صفتهم المدنية أو يُشكك بها، ولطالما كان القانون الدولي مطالبًا بتفسير هذا المحو.

إننا نسمع صدى هذا التاريخ في جهود الجيش الإسرائيلي المتكررة لحرمان الفلسطينيين من الصفة المدنية. الفلسطينيون في غزة يعيشون في قرب شديد لمقاتلي حماس. تحدّق بهم طائرات الاستطلاع الإسرائيلية التي يساوي مشغّلوها بين القرب المكاني من جهة والمسؤولية والذنب من جهة، ويتعرضون للقوة المرعبة للصواريخ الإسرائيلية، كما يتعرضون لسياق دولي يجعل الكثيرين يسارعون لإدانة العنف الذي تمارسه جماعة مسلحة كحماس، بينما يترددون في إدانة العنف الذي تمارسه قوات مسلحة تابعة لدولة كالجيش الإسرائيلي. حين ظهرت صور وفيديوهات الأولاد المقتولين على الشاطئ، شاهدناها برعب. لا يجب قتل الأطفال، هذا واضح. لكن علينا أن نعترف أيضًا بالطرق التي شيطنّا عبرها ونزعنا فيها إنسانية عائلات هؤلاء الأطفال وأصدقائهم الذين لم يعودوا أطفالًا، والذين أصبح موتهم أقل أهمية لأننا لسنا مقتنعين ببراءتهم بالقدر ذاته. إذا أصبحت الأرواح الوحيدة التي تستحق الحماية والميتات الوحيدة التي تستحق الرثاء هي أرواح وميتات الأطفال، فقد أصبحنا شركاء في “بُنى الشعور” (بتعبير إدوارد سعيد) التي تجعل القمع ممكنًا في المقام الأول.

يتم إعلاء القانون الدولي كأداة ضد العنف ونزع الإنسانية، لكن تاريخ القانون الدولي محبوك بتواريخ الاستعمار والقمع والعنصرية. ليس القانون الدولي وصفة سحرية، وليس سبيلًا أوتوماتيكًا للتحرر. وحين نخرج ورقة القانون الدولي، علينا أن ندرك ماضيه ونسأل أنفسنا كيف نستخدمه ونستخدم تاريخه: لتقليل العنف أم لتبريره؟ لتحليل القمع أم للتغطية عليه؟ وعلينا أن ننتبه كثيرًا للضحايا المدنيين، وللطرق التي تتجسد فيها تصنيفات المدني والمقاتل، وتستخدم فيها هذه التصنيفات لتوزيع الفضيلة القتالية، أو للتأثير على كيفية عدّ الضحايا.

* كريستيان ويلكه بروفيسورة مشاركة ومشرفة في برنامج الدراسات العليا في قسم الحقوق والدراسات القانونية في جامعة كارلتون. حسابها على تويتر: @jaanewilke

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية