غزّة: مع الإنسان .. ضدّ العالم

الإثنين 04 آب 2014

محمود عمر

(في الصورة أعلاه، يجلس حسام حمدي على صاروخ إسرائيلي لم ينفجر، عقب غارة دمرت منزله في تل الهوا بمدينة غزة. تصوير باسل اليازوري).

شمل «الموجز العام لخطّة فك الإرتباط» الذي أصدرته وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة إبّان تفكيك مستوطنات غزّة وإعادة الإنتشار التي قام بها الجيش الإسرائيلي في آب من العام 2005 تركيزًا واضحًا على أنّ الخروج من غزّة سيفتح الباب أمام تحقيق «السيطرة بدون احتكاك». لم يكن هذا هدفًا سياسيًا وعسكريًا فحسب، بل واقتصاديًا أيضًا، حيث اختبرت صناعات التقنية الدقيقة انتعاشًا هائلاً في إسرائيل في عقد التسعينيّات لأسباب داخليّة وخارجيّة وقد مثّل الانسحاب من غزّة، في هذا السياق، فرصة ذهبيّة لتحقيق التطوير عبر التجربة المفتوحة على الأرض، وتدعيم تسويق منتجات الأمن والمراقبة الإسرائيليّة بالتغذية الرّاجعة من الاختبار الميداني للأنظمة على المختبر الذي اسمه غزّة.

فبالإضافة إلى سيطرتها المطلقة على شبكات الاتصال الفلسطينيّة الأرضيّة والمحمولة (لا يمكنك أن تجري مكالمة واحدة بين محافظتين فلسطينتين في الضفة وغزّة من غير أن تمر الإشارة عبر إسرائيل)، نفّذت إسرائيل برامج سيطرة وإخضاع عسكريّة كان من بينها نظام شاهد-صوّر الذي طوّرته شركة رافائيل لأنظمة الدفاع في العام 2009 والذي يسمح، ببساطة، لجنديّ يجلس في تل أبيب من أن يشاهد، ويصوّر، ويطلق النّار على أي خرق محتمل للمنطقة العازلة بغزّة. (راجع ورقة “الاحتلال الرقمي الإسرائيلي لغزّة” لهلجا طويل الصوري).

إنّ المكالمة التي تقوم بها إسرائيل لهاتف البيت المُنوى قصفه في العدوان القائم ما هي إلا مثال بسيط للنفاذ الإسرائيلي إلى كلّ ما يتحرك، أو ينتقل عبر سلك نحاسي، في غزّة أو حولها.

هذا، طبعًا، بالإضافة إلى الحسّاسات، وكاشفات الارتجاج، والمسح الجوّي، وطائرات الاستطلاع، والمنطادات، والروبوتات. إنّ المكالمة التي تقوم بها إسرائيل لهاتف البيت المُنوى قصفه في العدوان القائم ما هي إلا مثال بسيط للنفاذ الإسرائيلي إلى كلّ ما يتحرك، أو ينتقل عبر سلك نحاسي، في غزّة أو حولها.

في دراسة قام بها عن غزّة و«تأديب المجتمع»، أورد الباحث مايكل دان ما نصّه: إن حالة غزّة بفرادتها كسجن مفتوح وكمثال حيّ للتقنيّات البصريّة الشاملة [..] ذات دلالة على مستويين: تحقيق سيطرة طيفية شاملة وكليّة بالمعنى الدولوزي [نسبة إلى دولوز، وهو فيلسوف وناقد فرنسي]، وأن تكون في الوقت حقل تجارب لتقنيات مماثلة سوف يتم تطبيقها في المجتمعات المتقدمة.

وهنا يجب أن نركّز على الجملة الأخيرة. «تطبيق تقنيات مماثلة في المجتمعات المتقدمة». ذلك أنّ إسرائيل ليست نظام قهر محليّ رجعيّ للفلسطينيين فحسب، بل ومحطّة تصميم ورفع وإنتاج متّصلة تمامًا بكلّ منظومات إنتاج القهر والإخضاع من أقصى العالم إلى أقصاه. إنّ كل ما من شأنه أن يقتل الإنسان، أو يسلبه هوّيته، أو يفسد وعيه، أو ينزع منه فتيل المقاومة، أو يثّبته، قد مرّ، بطريقة أو بأخرى، من خلال إسرائيل توزيعًا أو تحسينًا أو تجريبًا. 

نشرت مجلّة الفورين بوليسي مؤخرًا تقريرًا مطوّلاً بالغ التشويق والكَشف لصناعة الماتريكس-القاهر بالمعنى الحرفيّ للكلمة. يصحب التقرير قارئه في رحلة تبدأ من العام 2002، حيث قام بيتر هُوـ، وزير داخلية سنغافورة، بزيارة إلى وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة الأمريكيّة التي قامت بتطوير بندقية الـM-16 وطائرة الشبح وشبكة الانترنت (وهذا يفتح الباب، ربّما، لحديث لاحق عن أسطورة التطوير الخاص أو الذاتي – في الواقع، كلّه بتاع الحكومة).

كان سبب زيارة وزير داخلية سنغافورة للوكالة بسيطًا جدًا وواضحًا: أراد أن يجلس مع الأدميرال الأمريكي المتقاعد جون بويندكستر الذي طوّر، ضمن الوكالة آنفة الذكر، مشروعًا سمّاه مشروع «الوعي المعلوماتي المطلق Total information awareness». عرض الأدميرال بويندكستر المشروع على وكالة مشاريع أبحاث الدفاع، غير أنّ انكشاف سرّه عبر تقارير صحفيّة دفع الوكالة إلى وقف المشروع في صيغته المقدّمة. 

إنّ كل ما من شأنه أن يقتل الإنسان، أو يسلبه هوّيته، أو يفسد وعيه، أو ينزع منه فتيل المقاومة، أو يثّبته، قد مرّ، بطريقة أو بأخرى، من خلال إسرائيل توزيعًا أو تحسينًا أو تجريبًا. 

لاحقًا، في العام 2003، تمّ تقسيم مشروع الوعي المعلوماتي المطلق إلى عدّة مشاريع سريّة ضمن وكالة الأمن القومي الأمريكيّة NSA وجرى البدء في تطبيقها عبر الولايات المتحدة. بعض المعلومات عن هذه المشاريع خرجت ضمن الملفات التي سرّبها، في العام 2013، إدوارد سنودن. لكن الأسباب التي دفعت إلى تقسيم مشروع الأدميرال بويندكستر (الحريات الشخصيّة، الصحافة) غير موجودة بنفس الحدّة في البلد الذي جاء منه الوزير بيتر هُو. أراد بيتر أن يأخذ المشروع ويطبقه في سنغافورة، الجزيرة الصغيرة التي صُنِّفت في العام 2012 كأغنى بلد في العالم. وقد كان للوزير ما أراد.

طبّقت السلطات في سنغافورة المشروع الأمريكي وقد أعادوا تسميته ليصبح نظام «تقييم الأخطار ومسح الأفق». المشروع، ببساطة شديدة، وهو نظام ربط لينابيع المعلومات ومراقبة لكلّ شيء: الحوالات البنكيّة، كشوفات التسوّق، التقارير الطبيّة، المكالمات الهاتفيّة، مدخلات الفيس بوك وتويتر، حجوزات الفنادق، وكلّ شيء. يربط المشروع بين ينابيع المعلومات ويوقفها عنده للفحص. إنّه يشبه، بالمعنى الفيزيائي، السّد العالي في مصر. 

بعد سنوات على تطبيق المشروع في سنغافورة لأسباب أمنيّة، بدأت السلطات تفكّر في استعمال المشروع لغايات أخرى وقد تمّ ذلك بالفعل. مشروع تقييم الاخطار ومسح الأفق يستعمل اليوم في سنغافورة لتعديل المزاج العام، خلق مجتمع أكثر تجانسًا، استكشاف امكانية الاستعاضة عن العمالة اليدويّة بأنظمة إنتاج آلية محوسبة، ودراسات حالات «الحنين» لدى الشعب إلى أسلوب حياة أقلّ سرعة وأخفّ وطأة. 

يقدّم التقرير، والتمعن فيه، جزيرة سنغافورة الصغيرة (3.8 مليون نسمة) باعتبارها قمّة جبل الجليد التي تشكّل فيه إسرائيل، دون شك، جانبًا أساسيًا. ولا تسمح المعرفة بكلّ ما تقدم بنزع الغشاوة أو فتح الباب أمام آفاق أوسع للرفض فحسب، بل ولفهم أكثر عمقًا لمُنجزات المقاومة الفلسطينيّة. 

إنّ إسرائيل تنتمي للعالم الذي تمكّن، في سنغافورة على سبيل المثال، من تحقيق ألوهيّة تكنولوجيّة مُطلقة تسمح حتّى بإحداث تنقلات نسبيّة في المزاج الشعبيّ العام. ألا يحقّ لنا، إذًا، أن نفخر بغزّة ومقاومتها التي لم تستطع إسرائيل، ووراءها عالمها المسلّح بكل شيء، من أن تمنعها من قتل الجنود وحفر الأنفاق وضرب الصّواريخ؟

ألا يحق لنا أن نفخر بغزّة التي لم تتمكّن إسرائيل، ووراءها العالم، من أن تنزع فكرة واحدة اسمها المقاومة من رأسها، وتزرع مكانها فكرة أخرى؟
بلى، يحقّ لنا ذلك، وبشدّة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية