انتحارات نموذجية

الأربعاء 13 آب 2014

“الذي يجعل الحياة محتملة: هي الفكرة بأننا نملك الحرية لمغادرتها وقتما نشاء”. – فيلا ماتاس

اليوم، تمر الذكرى الأولى لرحيل صديقي الدكتور جمال الخطيب، الذي اختار طوعاً مغادرة الحياة، مجسداً أقصى لحظات الحرية التي عاشها بملء ما فيها، وكان طبيعيا أن ينشد ذروتها، فما يجعل الحياة محتملة هو الفكرة بأننا نملك حريتنا الكاملة في مغادرتها، ووضع حد لها وقتما نشاء.

ليس الانتحار رفيقا للكآبة. قبل يومين أقدم الممثل الشهير روبين وليامز على الانتحار، وهو الذي قدم لنا أفلاما أسعدتنا وأضحكتنا في أشد لحظاتنا كآبة. هل كان وليامز مكتئبا حقا عندما اختار الانتحار؟

أم هل كان الروائي الشهير والخالد ارنست همنغواي مكتئبا عندما فجر رأسه برصاصة في ضيعته الجميلة في كوبا، حيث كان يعيش بسلام وطمأنينة يمارس هواية صيد الأسماك الكبيرة؟

قصص انتحار المشاهير كثيرة، في الاردن انتحر الروائي تيسير السبول، صاحب الرواية الشهيرة “أنت منذ اليوم”، والذي ينقل عنه الروائي وابن محافظته الطفيلة، سليمان القوابعة، بأنه انتحر بعد أن سقط في الكآبة إثر المحادثات التي جرت بين العرب وإسرائيل بعد حرب 1973.

إذا كان ما نقله القوابعة عن السبول صحيحا، فهو لم يكن الأول أو الأخير من بين الكتاب والشعراء الذي أنهوا حياتهم احتجاجا على الأوضاع السياسية المزرية، فالشاعر خليل حاوي، أنهى حياته بعد اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982.

يبدو أن البعض لا يحتمل فكرة حساسية بعض الأشخاص تجاه الأوضاع العامة، ويعتقدون بأن الجميع أصيب بتلك البلادة الثقيلة، فاستكثروا على الموتى موتهم لأمر عظيم.

لكن يبدو أن البعض لا يحتمل فكرة حساسية بعض الأشخاص تجاه الأوضاع العامة، ويعتقدون بأن الجميع أصيب بتلك البلادة الثقيلة، فاستكثروا على الموتى موتهم لأمر عظيم.

الروائي الياباني ميشيما، الأشهر عالميا، لم يحتمل فكرة هزيمة بلاده في الحرب العالمية الثانية، أصابه حزن شديد، وغربة لا تحتمل، وهو يرى دستور الجنرال الاميركي المنتصر يجرد الامبراطوري من ألوهيته، فانتحر على طريقة السيبوكو، أو الساموراي.

الكآبة قد تفسر بعض حالات الانتحار، مثل المترجم المصري المعروف فخري أبو السعود، الذي انتحر في حديقة منزله وحيدا معزولا بعد وفاة زوجته الانجليزية وولده غرقاً أثناء سفرهم بحراً إبان الحرب العالمية الثانية.

لا أدري، ولا أريد أن أجري بحثا عن عدد هؤلاء المجانين الأحرار الذين اختاروا أن يجسدوا قمة حريتهم التي عاشوها. لكن هناك من الكتاب من تتبع قصصهم وكتب عنهم.

الكاتب والروائي الإسباني المعروف، على الأقل للناطقين بالاسبانية، انريكي فيلا ماتاس، كتب بأسلوب روائي قصص 12 شهيرا اختاروا مغادرة الحياة طواعية في كتابه “انتحارات نموذجية”. في عمل يقع بين الرواية والتوثيق، أراد ماتاس فقط أن يكتب عن لحظاتهم الأخيرة، أن يتتبع خيط الحرية هذا في أعمالهم، بدون أحكام وبدون استنتاجات.

“لا أدري ما الذي ينتظرني بالتأكيد، لكني ساتوجه نحوه باسماً”، يقول ستاب، في رواية هنري مالفيل، موبي ديك. كما قال محمود درويش “يصعدون إلى حتفهم باسمين”.

ستاب هو الشخصية الثانية في الرواية، رجل يحب أن يضحك في وجه الخوف والمصير، يشعل غليونه بهدوء أثناء معاركة الحوت، معاركة الموت.

في عمله يربط ماتاس بين الشخصيات الكوميدية والميل إلى الانتحار، ربما هو “المهرج الحزين”، ربما كحالة روبين وليامز، وغيره من الممثلين مثل راي كومبس.

هل انتحرت ساندريلا الشاشة العربية، سعاد حسني، التي أتحفتنا بأفلام جميلة، لم يخلو أكثرها من خفة الدم والروح، مثل خلي بالك من زوزو؟

إنها “نوستالجيا الموت”، الحنين إلى ما ليس معروفا، إلى ما هو غامض.

قد يكون الموت تتويجا للقمة، وخوفا من السقوط كما فعل المخرج الجزائري مالك بن جلول صاحب فيلم “البحث عن شوغرمان”، الفائز بأوسكار أفضل فيلم تسجيلي عام 2013. ربما هي كآبة الخوف من أن لا يبقى في القمة، الخوف من “الاختفاء” أو “متاهة الاختفاء” بعد النجاح كما يقول ماتاس في كتابه. أو أن الانتحار قد يكون خلاصة “الملل العام”، ربما هي حالة همنغواي، وآخرين، حيث بعد حياة غنية جدا ومثمرة لا يجد الإنسان ما يفعله سوى تغيير جرة غاز أو تبديل قناني الكولر.

الشاعرة اللبنانية جمانة حداد، كتبت عن هؤلاء الشجعان في كتابها “سيجيء الموت وتكون له عيناك”، قصص 150 شاعرا انتحروا في القرن الماضي.

أي شعور يراود المنتحر حين يفجر رأسه أو يشد الأنشوطة حول رقبته أو يختار سببا من أسباب الموت العديدة. لا أدري لكنها شجاعة لا يمتلكها الكل. شجاعة الكاميكاز الياباني.

صديقي الدكتور جمال الخطيب، كان مناضلا ، قضى أعواما عديدة من حياته في السجون. وبقي على عهده. كان مثقفا وأصدر عدة كتب ودراسات، وكان طبيبا نفسيا شهيرا يعالج الكآبة، وربما أنقذ حياة العشرات من الانتحار، وكان متعدد المواهب والهوايات. فأي داع دفعه إلى الانتحار سوى شجاعة الحرية، شجاعة امتلاك اللحظة التي نقرر فيها المغادرة، درة تاج الحياة الحرة التي عاشها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية