داعش: صورة لتهديد يجتاح بلدي

الأربعاء 20 آب 2014

يتجذر صعود الدولة الإسلامية في مزيج من السياسة، الشعور السنّي بالعزلة، والاهتزازفي العقيدة السلفية. يقوم محللّ شهد موطنه في سوريا بعضاً من أكثر التجاوزات دمويةً للجماعة بتفسير صعودها المثير.

بقلم حسن حسن (ترجمة رانيا عجيلات)

نشر هذا المقال بالانجليزية في ١٦ آب  ٢٠١٤ في “الأوبزيرفر” (The Observer)

انضم أبو المعتصم، وهو فتى في الثامنة عشرة من بلدة حدودية سورية في محافظة دير الزور، إلى الثورة ضد نظام الرئيس بشار الأسد في مطلع العام 2012. ترك أبو المعتصم منزل عائلته في البحرين حيث يعمل والداه وحارب في الجيش السوري الحر لبضعة أشهر قبل أن ينضم إلى جماعة “أحرار الشام” المتشددة. مع نهاية العام، وفي خيبة أمل، ذهب إلى زيارة عائلته التي منعته من السفر مجدداً إلى سوريا. لكنه مع ذلك عاد الصيف الماضي لينضم إلى داعش، الدولة الإسلامية في العراق والشام (والتي غيرت اسمها إلى “الدولة الإسلامية”).

سألت أبا المعتصم عما كان سيفعله لو أن أباه كان عضواً في جبهة النصرة، الفرع الرسمي للقاعدة في سوريا، وتقابلا في العراك. رد علي بحزم، “أقتله. أبو عبيدة (الصحابي) قتل أباه في المعركة.” ما هو الدافع لدى أشخاص كأبي المعتصم؟ واجهت هذا السؤال مؤخراً بشكل مباشر عندما شاهدت دير الزور، مسقط رأسي أنا أيضاً، تسقط في أيدي داعش، التي اقترفت هناك فظائع من أشدها ترويعاً في النزاع السوري.

تطورت داعش، وهي قوة سلفية جهادية، من مجموعة أسسها أبو مصعب الزرقاوي، أردني متطرف انتقل إلى العراق بعد غزو الولايات المتحدة لأفغانستان عام 2002. تزعم الزرقاوي بعد ذلك فرع تنظيم القاعدة في العراق، والذي كان مسؤولاً عن تفجير ضريح العسكريين في سامراء عام 2006 الذي أشعل فتيل الحرب الأهلية في العراق في 2006-2007. بعد تغيير اسم التنظيم إلى “الدولة الإسلامية في العراق” عقب مقتل زعيمه الزرقاوي بغارة أمريكية عام 2006، بدأت قوة التنظيم تضعف عام 2007 بعد تحالف قوات أمريكية مع عشائر من العراقيين السنة لمواجهته.

أدى اندلاع الأزمة السورية إلى إعادة إحياء الدولة الإسلامية، التي قدمت الدعم لأحد أعضائها وهو أبو محمد الجولاني لإنشاء جماعة في سوريا عقب ثورة 2011. في نيسان من عام 2013، أعلن زعيم الجماعة الحالي أبو بكر البغدادي دمج جماعته مع جبهة النصرة تحت مسمى “دولة الإسلام في العراق والشام”. بيد أن جبهة النصرة رفضت هذا الاندماج، وانشق معظم مجاهديها الأجانب إلى داعش. ومنذ ذلك الحين وداعش في حرب مع الثوار السوريين لتفرض نفسها كدولة لا تقبل بأي جماعة أخرى تحارب في المناطق المستولى عليها قبل أن تقسم بالولاء لداعش. وفي يوم 29 حزيران، أول أيام شهر رمضان، أعلنت داعش مبايعة أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين من قبل مجلس الشورى، وتغيير اسمها إلى “دولة الإسلام”.

دير الزور هي خامس محافظة في سوريا والعراق تخضع لنموذج الدولة الإسلامية في الحكم، وهو تدبير كان من فرط شدته أن أصدرت القاعدة في شباط بياناً رسمياً نأت فيه بنفسها عن الجماعة. جاءت أولى موجات الانتصارات الساحقة لداعش في محافظتي نينوى وصلاح الدين السنّيتين في شهر حزيران. ثم استفادت من المخزون الهائل الذي استحوذت عليه من الأسلحة، إضافى إلى الزخم الذي أنتجته من المعنويات والخوف، في الاستيلاء على مناطق جديدة في سوريا، دون مقاومة تذكر في كثير من الأحيان. وبعد سيطرتها على دير الزور، تتقدم داعش الآن شمالاً في ريف حلب.

أما جبهة النصرة، التي كانت أكثر الجماعات المتمردة فاعلية، فهي الآن تجاهد لوقف انجراف مقاتليها ومناصريها نحو داعش، خصوصاً بعد خسارتها لقبضتها القوية في دير الزور.

من وجهة النظر العسكرية، ازدهرت داعش بفضل التفكك بين المتمردين السوريين والتناقضات لدى داعميهم. عندما أعلن البغدادي دمج جماعته في العراق مع جبهة النصرة، أخذت داعش تتصرف كدولة في المناطق المستحوذ عليها. على الرغم من أعدادها المنخفضة، استطاعت داعش أن تؤسس حكماً من الإرهاب في مناطق سورية عديدة. وقد أدى إنشاؤها لنقاط التفتيش الخانقة، ومصادرتها للأسلحة، وفرضها لأيديولوجيتها على السكان المحليين (الأمر الذي تجنبته جبهة النصرة) إلى نفور معظم الجماعات المتمردة. مع نهاية العام الفائت، أعلنت جميع الجماعات المتمردة الحرب على داعش ودفعتها خارج إدلب، معظم حلب ودير الزور. لكن الحرب كلفت الثوار غالياً: أدت المعارك مع داعش إلى مقتل نحو سبعة آلاف شخص وبدء تفكك تحالفات الثوارنتيجة القتال. لم يتبق من الجبهة الإسلامية إلا قوقعتها بعد أن كانت أكثر التحالفات الثورية قوة. أما جبهة النصرة، التي كانت أكثر الجماعات المتمردة فاعلية، فهي الآن تجاهد لوقف انجراف مقاتليها ومناصريها نحو داعش، خصوصاً بعد خسارتها لقبضتها القوية في دير الزور.

ما سارع من تفكك هذه الجماعات هو أن الكثير من أعضائها وقاداتها كانوا إما متعاطفين مع داعش أو مترددين في توجيه بنادقهم ضد أي طرف غير النظام السوري. فعلى الرغم من كل شيء فإن جماعاتٍ كأحرار الشام كان لها صلات بالقاعدة وآراء مشابهة لداعش، وإن تنازع قادتها مع داعش حول الأراضي.

في هذا السياق من استنفاذ المتمردين، تنبئ عودة داعش الأخيرة بالبقاء. قبل أن يرتكب التنظيم مجازره الأخيرة في دير الزور، قام بفرض حالة من الهدوء رحب بها السكان الذين نفروا من سيطرة المليشيات على الموارد المغرية للمنطقة. بوصول داعش هُزمت هذه الميليشيات، ووفقا للمصادر اعتزمت داعش توزيع عائدات النفط لتوفير الخدمات والبدء في مشاريع التنمية، مثل إصلاح الجسور وتوفير المياه النظيفة وإقامة مشاريع الري. قال لي أحد السكان: “لم تشهد المنطقة حالة أكثر أمانا منذ شهور، ولم نعد نسمع إطلاق النار لأن الاقتتال بين المتمردين توقف- الجميع إما أقسموا بالولاء لداعش أو هربوا إن كانوا قد جنوا المال من حقول النفط.”

إن السيل الجارف لداعش قوي وليس من الصعب رؤية أن القادم أسوأ. لكن فيما هو أبعد من العوامل السياسية والعملية، ينبغي أن نرى ظاهرة داعش كجزء من اتجاهين واسعين داخل الإسلام السني من شأنهما أن يجعلا من داعش تهديداً أيديولوجياً طويل المدى، حتى لو تم كبح جماحه عسكرياً.

يجب النظر إلى صعود داعش في سياق الشعور بالاغتراب لدى السنّة

بداية، يجب النظر إلى صعود داعش في سياق الشعور بالاغتراب لدى السنّة، خصوصاً في المنطقة من لبنان إلى اليمن ومن مصر إلى إيران. هذا الشعور بالطرد وبالظلم يعرف بالعربية ب”المظلومية”، وهو مفهوم مرتبط تاريخياً بالشيعة. من الجدير بالملاحظة بأن السنّة في هذا الجزء من المنطقة يتصرفون كأقلية: مذعورون، يشعرون بعدم الأمان، محاصرون. أما الشيعة فهم أكثر حسماً، ثقةً وتنظيماً. بدعم إيراني للميليشيات في العراق، لبنان، والجزيرة العربية، فإن الشيعة أكثر نشاطاً وصخباً من أي وقت مضى. لأول مرة في التاريخ يعبر المقاتلون الشيعة الحدود للمشاركة في الجهاد، كما حدث في سوريا بحجة الدفاع عن المراقد الشيعية. في المقابل يشعر السنة بأنهم مهاجَمون من دون دفاع، وبدأت فكرة القتال كالطريقة الوحيدة لتحصيل حقوقهم تكتسب جاذبية لديهم. على الرغم من أن المجموعة التي تتولى هذا القتال شرسة، يؤمن البعض بأن هذا ثمن ينبغي دفعه قبل تشكيل ميليشيات عظيمة من شأنها أن تشكل خط الدفاع عن السنّة، نظراً لأن الميليشيات الشيعية تصرفت بطريقة مشابهة خلال الحرب الأهلية في العراق. في الوقت ذاته ينظَر للقوى التقليدية السنية، سياسية كانت أم دينية، على أنها واقفة في صف الظالمين، فاقدة تماماً للمصداقية، صامتة.

من هذا الوضع اليائس تخرج داعش بإمكانية ملء الفراغ. يمكن استشفاف هذا الموقف من حقيقة أن إرهاب داعش لاقى رداً خافتاً من قبل رجال الدين والعلماء، وأن استيلاءها على المحافظات السنية في العراق قوبل باحتفالات واسعة. هنالك قلق لدى بعض الحكومات في المنطقة من وجود متعاطفين مع داعش ضمن المنظمة الدينية. على سبيل المثال، ندد الملك عبد الله بن عبد العزيز مؤخراً ب”الكسل والصمت” من قبل العلماء المسلمين في مواجهة التطرف (من قبل داعش). كان ذلك توبيخاً علنياً غير مسبوق لكبار العلماء، بثه التلفزيون الرسمي.

أما الاتجاه الثاني الذي يجعل من داعش ظاهرة أكثر خطراً هو الهزه الأيديولوجية المتجاهَلة لدى السلفية التقليدية للسنّة. بدأ ذلك بشكل ملحوظ منذ الربيع العربي عندما بدأ السلفيون تدريجياً بأخذ منحى سياسي. تقليدياً، كانت السلفية (التي ينبغي عدم الخلط بينها وبين الوهابية) منغلقة وموالية للمؤسسة السياسية. من ناحية دينية يحمل السلفيون أفكاراً متشددة، إلا أنهم يميلون للمواقف السياسية البراغماتية. بدأ الجهاديون، وهم متأثرون بشكل كبير بالسلفية لكنهم متأثرون بالقدر نفسه بالإسلام السياسي، باستقطاب المشهد السلفي، مما سبب في تآكل السلفية التقليدية بشكل مطّرد وإن كان بطيئاً.

إلى جانب داعش، يتضح هذا الاتجاه من خلال المزيج بين السلفية والإخوان المعروف بالسرورية. تأسست هذه الحركة في الثمانينيات في السعودية من قبل عضو سابق للإخوان المسلمين في سوريا والذي تأثر بالأفكار الوهابية. في مقابلة أجريت مؤخراً، قال شيخ السلفية محمد سرور زين العابدين لجريدة القدس العربي أن حركته قد قلبت السلفية رأساً غلى عقب و”نقلتها من عالم إلى آخر”.

داعش ليست مرضاً بل عرَضاً- عرَض لفراغ سياسي، لشعور بالرفض لدى السنّة، ولاهتزاز أيديولوجي لدى السلفية. 

لأن الجماعات الثورية مثل السرورية وداعش تستمد مفاهيمها الدينية بشكل شبة حصري من السلفية، فإنها تؤدي بالتالي إلى تنشيط واستقطاب وإحياء هذا التيار. تجتذب هذه الجماعات كذلك السنة التقليديين الذين اعترضوا على ممارسات السلفية، كالطاعة العمياء للحكام.

داعش ليست مرضاً بل عرَضاً- عرَض لفراغ سياسي، لشعور بالرفض لدى السنّة، ولاهتزاز أيديولوجي لدى السلفية. ينبغي مع ذلك التأكيد أن هنالك أسباباً للتفاؤل. في حين لا يجوز الاستخفاف بقوة وجاذبية داعش، أشعل صعود الحركة جدالاً فريداً من نوعه في المنطقة.

منذ استيلاء داعش على مساحات واسعة من العراق على وجه الخصوص، أنتجت وسائل الإعلام العربية بكافة أشكالها التقارير عن طبيعة الجماعة ومصدر أيديولوجيتها. هنالك حالة جماعية من البحث عن الذات تشهدها المنطقة، تشمل الجميع، من الناس العاديين إلى رجال الدين والمثقفين. بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، جاءت هذه الأسئلة من الخارج وتم صدها على أنها “امبيريالية” أو “استشراقية”. اليوم تأتي هذه الأصوات من الداخل، وهي أكثر قوة. اليوم، يسعى أنصار الجماعة إلى تجذير سلوكها فى التقاليد الإسلامية والاعتراض على فكرة اعتبار جرائمها تجاوزاتٍ شاذة.

لكن نقّاد التنظيم استجابوا كذلك. محمد حبش، وهو رجل ديني من سوريا، يلوم صعود داعش على أئمة المساجد قائلاً: “لم نتحدث عن الخلافة كمشروع تدبير سياسي، يعتوره الخطأ والصواب، بل تحدثنا عنها رمز وحدة مقدسة… داعش لم تحضر من المريخ، إنها بنت طبيعية لثقافتنا وخطابنا المتخلف.” وغرد المعلق السعودي ابراهيم الشعلان على تويتر بأن داعش ليست إلا “خلاصة ما درسناه في مناهجنا الدراسية ، فإن كانت المناهج سليمة فداعش على حق وإن كانت خاطئة فمن يتحمل مسؤولية الأجيال؟”

إن نقاشاً كهذا يمكن أن يؤدي إلى تغيير إيجابي. لكن ماذا عن أشخاص كأبي المعتصم وضحاياهم؟ إن العوامل التي أدت إلى صعود داعش لا زالت غير متناولة، في حين أن التنظيم لم يصل بعد إلى نصف ما يمكن أن يبلغه.

(حسن حسن محلل في مركز “دلما” للدراسات، وكاتب في صحيفة ذا ناشيونال)

— الصورة لجبهة النصرة في سوريا —

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية