‫العنصرية المعادية للسوريين، والعنصرية المضادة، وموت الأوهام

الخميس 14 آب 2014

(نشر هذا المقال على موقع المنشور بتاريخ ١٣ آب ٢٠١٤)

بقلم مازن كم الماز

أصبح السوريون اليوم، خاصة في أماكن لجوئهم، الهدف الأسهل لعنصرية البلاد التي استضافتهم، وأيضا لألاعيب الساسة وتوهيمات المثقفين، بمن فيهم السوريين أنفسهم. كحال الفلسطينيين على مدى عشرات السنين، توفر آلامهم ودماؤهم مادة خصبة للخيال، للتحريض، وللتلاعب بمشاعر الناس، سواء معهم أو ضدهم. ‬

‫لقد أنتج المخيال المعادي للسوريين، الرسمي والسائد، السياسي والثقافي، في بلدان اللجوء، كما هائلا من الأوهام والأساطير عنهم، و صنفهم في نماذج تقوم على التعميم والتبسيط تنسب إليهم أنماط سلوك متخلفة أو إجرامية متأصلة الخ. والنتيجة المنطقية لهذا التنميط هو تبرير المجزرة التي يتعرض لها بسطاؤهم على يد النظام.‬

بعد فترة انقطاع تخللها نقد قاس، عادت مفردات ثقافة البعث للتداول وبنفس الحماسة الممانعجية، لكن من قبل “منظري” الثورة هذه المرة، وعاد السوري من جديد إلى مكانته التي حددتها له ثقافة البعث

‫في مواجهة هذه العنصرية ظهرت عنصرية مضادة، أنتجت هي الأخرى أوهامها وأساطيرها عن السوريين، كحالة فوق إنسانية، خاصة عند مقارنتهم “بالشعوب” التي استضافتهم، تستخدم نفس التنميطات والأفكار المسبقة المهينة لهم بعد أن توجهها ضد “الآخر”. بعد فترة انقطاع تخللها نقد قاس، عادت مفردات ثقافة البعث للتداول وبنفس الحماسة الممانعجية، لكن من قبل “منظري” الثورة هذه المرة، وعاد السوري من جديد إلى مكانته التي حددتها له ثقافة البعث التي دبت فيها الحياة من جديد: مجرد لا شيء أمام الحضور الطاغي للوطن أو الطائفة أو الأمة أو القضية… ‬

‫كان فعل الثورة الذي قام به السوريون أجرأ خطوة ممكنة نحو تحطيم أوهام الثقافة السلطوية السائدة، وخاصة تهميشها للأفراد وتشييئهم (تحويلهم إلى أشياء) كتبرير لواقع استعبادهم. لقد فرضت الحرب الدائرة اليوم في سوريا، ونتائجها الكارثية، خاصة نزوح ملايين السوريين عن ديارهم، وشهوة السلطة عند النخب، فرضت منطقها المعاكس. تقوم ثقافة الحرب، خاصة الحروب الأهلية، على تنميط الخصم بهدف نزع إنسانيته. وتخلق ثقافة الحرب الأهلية أوهامها وأساطيرها عن “الأنا” و”الآخر”، ورغم منطقية وجود رد فعل على أي فعل، فالمشكلة في الأوهام الجديدة، كما القديمة، ليس فقط في كونها مجرد أوهام أو تزييف للواقع. ليس للأوهام والأساطير من هذا النوع، أو أي نوع، أية سمة تحررية، مهما حاولت: الأوهام أيا كانت ليست في النهاية إلا سلاحا لخداع الجماهير، أو وسيلة دفاعية تقوم على خداع النفس. عندما يرددها “الطيبون” لن تكون تلك الأوهام أكثر من خداع للنفس بحثا عن عزاء ما، وعندما يرددها المهووسون بالسلطة، فإنهم يريدون خداع الآخرين. ‬

‫على الصعيد النفسي المرضي، من المعروف أن جنون العظمة يترافق دوما مع جنون الاضطهاد. ليس هذا فقط، بل إن الآلية أو الميكانيزم الأهم لهذه العملية النفسية العقلية المعقدة هي إلغاء أنا الفرد: لا تقوم فكرة “تفوق” مجموعة ما على سواها على احتقار الآخر فقط، بل أساسا على احتقار أنا الفرد وإلغائها، الأنا الخاصة بكل أفراد الجماعة، وتحويل كل فرد من أفرادها إلى رقم، مجرد صورة مكررة عن نموذج محدد سلفا، أي باختصار إلى شيء، أو في الواقع، إلى لا شيء. كل فرد من هذه المجموعة إذا أخذ بمفرده ليس إلا صفرا كبيرا، لا شيء، كحال أو كحكم كل من يوجد خارجها. ويستمد كل فرد “أهميته” فقط من استسلامه الكامل للجماعة، للصورة النمطية التي تلقنه إياها عن “هويتها” وعن “الآخر”، واستسلامه الكامل لهرميتها، وكلما اقترب سلوكه وتفكيره من مستوى سلوك وتفكير الروبوت أو الببغاء كلما زاد تقمصه لفكرة تفوق جماعته على من سواها. دون أن يفقد فرديته ويصبح مجرد رقم من أعداد لا حصر لها عن نموذج واحد يفترض تكراره بكل غباء، لن يمكنه أو يحق له أن يتقمص ذلك الشعور باحتقار وامتهان الآخرين. ‬

‫باختصار، لم يتغير شيء: الوهم أو الوعي الزائف لن ينتج إلا تحررا زائفا، وما زال تحطيم الأوهام شرط لا بد منه ليحرر الإنسان نفسه.‬

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية