لماذا قررت أن تغطية الحروب لم تعد تستحق المجازفة

الجمعة 29 آب 2014

بقلم توم أ. بيتر (ترجمة دعاء علي)

(نشر هذا المقال بالإنجليزية على مجلة New Republic في 26 آب 2014)

قبل حوالي سنة ونصف، وجدت نفسي في غرفة جلوس في مجمع سكني فاخر يطل على الشاطئ في نايبلز بفلوريدا. كنت عائدًا إلى بيتي في الولايات المتحدة لزيارة، بعد أن أمضيت سنتين في تغطية الشرق الأوسط كصحفي. وكنت أجري مع عائلتي جولات استجمام جلبتنا إلى هذا المكان الفخم، الذي يملكه أقارب صديق أخي الأثرياء. تأملت أن أستمتع بالمنظر ببساطة، لكنني حوصرت بالأحاديث والدردشات.

مستضيفتنا سألتني أين أعيش، فأجبت: “في بلدة صغيرة جنوب تركيا”. بطبيعة الحال، سألتني ما الذي أفعله هناك. “أنا صحفي أغطي سوريا”.

دون أدنى تردد، سألت بعنف: “إذن، هل تغطيتك صادقة؟”. لقد أقحمت السؤال بطريقة قد تستخدم لمواجهة مصارع أمريكي حول ما إذا كان ما يحصل على الحلبة حقيقة أم تمثيل. كلنا نعرف أن الأمر مختلق. اعترف بذلك.

استمرت بالضغط علي، قائلةً إنها على يقين بأن الإعلام لا يقول القصة كاملة، ومطالبةً بأن تعرف سبب ذلك. كانت تعرف أن الرئيس بشار الأسد سيء، لكن من هم بالضبط المعارضون؟ (كان ذلك في ديسمبر 2012، حين كان للمعتدلين وزن في المقاومة السورية).

“كتبت تقريرًا عن هذه المسألة بالتحديد قبل أسبوع من مجيئي”، قلت لها. كان هنالك أيضًا مقال عن الموضوع ذاته في صحيفة النيويورك تايمز لذلك اليوم، التي كانت ملقاة على طاولتها. أشرت إلى الصحيفة وقلت “بوسعك أيضًا قراءة مقال مطوّل يجيب عن هذا السؤال في صحيفة اليوم”.

لطالما تساءلت بشأن المخاطر التي يتحملها الصحفييون، بما فيهم أنا، ليغطّوا الحروب. عقب موت جيم، باتت هذه الأسئلة تجثم على صدري أكثر من أي وقت مضى.

كان جيمس فولي أحد الذين كتبوا ليجيبوا على هذا السؤال. أحد آخر المقالات التي كتبها لموقع غلوبال بوست، في أكتوبر 2012، شرح الشرخ المتعاظم بين مقاتلي المعارضة والمدنيين في حلب. بعد وقت قصير من إرسال ذلك المقال، اختطف فولي ليبدأ أسرًا دام أكثر من 600 يوم انتهى بإعدام الدولة الإسلامية له ونشرها فيديو يوثق ذلك في 19 أغسطس الحالي.

لطالما تساءلت بشأن المخاطر التي يتحملها الصحفييون، بما فيهم أنا، ليغطّوا الحروب. عقب موت جيم، باتت هذه الأسئلة تجثم على صدري أكثر من أي وقت مضى.

بعد أن قضيت سبع سنوات في العمل في الشرق الأوسط وأفغانستان، عدت إلى الولايات المتحدة في أكتوبر الماضي، وهذه المرة بقيت هناك. في الشهور التي تلت ذلك، قابلت عددًا لا يحصى من مستهلكي الأخبار كتلك المرأة في فلوريدا، محاصرين في مبانٍ شاهقة وفاخرة، ومحاطين بمعلومات يرفضون تلقيها أو التفكير فيها.

لم يبغض الأمريكيون الصحفيين في أي وقت مضى مثلما يبغضونهم الآن. التغطية السياسية، التي عادة ما تكون الأكثر جدليةً والأكثر تأثيرًا على التصورات عن الصحافة بفضل موقعها البارز، بقيت متوازنة بشكل ثابت، كما أظهر تحليل واسع لعقود من تغطية حملات الانتخابات الرئاسية أجراه البروفيسور ديفيد داليسيو من جامعة كونيتيكت. لكن القراء مقتنعون بالعكس. في استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للبحوث عام 2011، قال أكثر من ثلثي المستجيبين إن الأخبار عادة ما تكون غير دقيقة. حوالي الثلث قالوا إن وسائل الإعلام الإخبارية “غير مهنية”. ووصف 42% وسائل الإعلام بغير الأخلاقية، بينما رأى 38% فقط أن مهنة الصحافة هي مهنة أخلاقية.

كوني كنت أعمل بعيدًا عن الولايات المتحدة، نادرًا ما فكرت في كيفية تلقي الناس للأخبار. في الحقيقة، لم أتخيل يومًا أن الناس يقبلون بنهم على تغطيات بلدان أخرى. كنت أفترض أن معظم الناس لا يبالون بالأمر، لكنني كنت أعزّي نفسي بفكرة أن مهنتني توفر أرشيفًا عامًا متاحًا في أي وقت إذا قرر أحدهم تخصيص وقته للتعرف على قضية ما. فوق كل ذلك، عملت كصحفي لأنني أحببت الصراع اليومي. ولعل هذا السبب هو ما جعلني أقتنع بأن الأمر يستحق العناء حتى حين تسوء الأوضاع، كأن أعلق وسط غارة جوية، أو أرى الشاحنة التي أمامي مباشرة تتفجر بفعل عبوة ناسفة.

كنت أعزّي نفسي بفكرة أن مهنتني توفر أرشيفًا عامًا متاحًا في أي وقت إذا قرر أحدهم تخصيص وقته للتعرف على قضية ما. فوق كل ذلك، عملت كصحفي لأنني أحببت الصراع اليومي.

في نوفمبر 2012، كنت أغطي الأحداث في حلب، أكثر مدن سوريا ازدحامًا. في ذلك الوقت، كان النزاع لا يزال في مراحله الأولى. لم تكن الدولة الإسلامية قد شُكّلت رسميًا بعد، وبشكل عام كان مقاتلو المعارضة المعتدلة متعاونين مع الصحفيين، ويساعدونهم على الوصول إلى خطوط النار. عندما انتشر خبر سيطرة المعارضة على مستشفى مهم استراتيجيًا في محيط المدينة، خرجت مع ثلاثة صحفيين آخرين ومترجم واستقللنا ظهر شاحنة لأحد الثوار لنرى الحدث بأنفسنا.

لم يكن المشهد في المستشفى جديدًا على الحرب الأهلية السورية. كان القتال قد انتهى وكل ما تبقى كان ثقوب الرصاص والزجاج المحطم والمؤن الطبية المنهوبة، فيما يستعرض الثوار سعيدون بالتقدم الذي أحرزوه. دعانا مقاتلو المعارضة لمرافقتهم وهم يستمرون في محاولة تحقيق المكاسب ويقاتلون للاستيلاء على تلة في قرية قريبة موالية للنظام. رفضنا الدعوة لمشاهدة ما توقعنا أنه سيكون حتمًا (ولاحقًا كان بالفعل) معركة دموية قاسية.

فيما كنا عائدين إلى المدينة، محشورين هذه المرة في سيارة صغيرة، استوقفتنا سيارة أخرى، ليندفع منها رجال ملثمون يوجهون كلاشينكوفاتهم إلينا. للحظة، لم أشعر بشيء. كان المشهد يشبه أي مشهد اختطاف مأخوذ من أفلام الإثارة التي تابعتها. لكن بعد أن اختفت الصدمة الأولى تذكرت ما حصل قبل بضعة شهور، حين تعرفت مجموعة موالية للنظام على الصحفية اليابانية في حلب، ميكا ياماموتو، وأردتها قتيلة. حينها انتظرت الطلقات التي ستنهي حياتي.

لكن عوضًا عن ذلك، سحب المسلّحون سائقنا من السيارة ودفعوه إلى سيارتهم، فيما كان مسلح آخر يقفز خلف مقود سيارتنا وينطلق بها. فكّرت في القفز من الباب، ظانًا أن التدحرج من سيارة مسرعة أفضل من الانتظار لمعرفة ما ينتظرنا في نهاية الطريق. لكن نظرًا إلى أن السيارة كانت تقطع شوارع المدينة بسرعات جنونية، متبوعةً بسيارة آخرى محمّلة بالمسلحين، كان الهروب مستحيلًا. ارتخيت في مقعدي، مدمرًا بفكرة أنني أهدرت حياتي. هذا ليس بلدي. هذه ليست سيارتي. والآن سأموت لأجل ذلك بطريقة مروعة. في أفضل السيناريوهات، سأعتقل إلى ما لانهاية.

لكن لحسن حظنا أنا وزملائي، كان قدرنا مختلفًا تمامًا. لأسباب ما زلت لا أفهمها، أُخذنا إلى قاعدة خاطفينا، وأعطينا طعام الغداء، وقيل لنا ألا نقلق: لقد كان مجرد سوء تفاهم. بعد بضعة ساعات عصيبة، ساقوا بنا إلى كشك قهوة على الطريق واشتروا لنا المشروبات، ثم أنزلونا في مكان آمن نسبيًا من حلب.

لماذا يجب أن أخاطر بكل شيء لإيصال الحقائق لأناس يبدو بازدياد أنهم يبحثون عن المعلومات التي يريدونها ويصمون الحقائق والقصص التي لا توافق آراءهم بأنها منحازة أو غير دقيقة؟

بعد قرابة شهر، كنت جالسًا في كرسي وثير في ذلك المبنى الفخم في فلوريدا، أستجوَب حول المعايير الصحفية.

لقد دمّرت تغطية الحروب لبلد مستقطب المهمة المدنية التي كنت أراها يومًا في الصحافة. لماذا يجب أن أخاطر بكل شيء لإيصال الحقائق لأناس يبدو بازدياد أنهم يبحثون عن المعلومات التي يريدونها ويصمون الحقائق والقصص التي لا توافق آراءهم بأنها منحازة أو غير دقيقة؟

ودون أن يكون لها هدف أسمى، ما الذي يتبقى من الحياة المهنية لصحفي؟ قد تكون الصحافة معدودة على ما يسمى “مهن الشهرة” التي يلاحقها الخريجون الجدد، لكن أحد مواقع المهن صنّف مراسَلة الصحف على أنها ثاني أسوأ مهنة في أميركا، بناءً على معايير كالضغط، الأجور، وانعدام اليقين الوظيفي. أن تكدح كآذن أو منظف أواني أو جامع قمامة كان أعلى مرتبة بحسب التصنيف. حتى لو كنت تحب عملك، فمن الصعب ألا تنهكك المهنة التي تتطلب أحيانًا أن تجازف بحياتك من أجل قراء يتساءلون إذا ما كنت قد مررت بكل هذه المعاناة والمخاطر من أجل تحقيق أجندة خفية ما.

قابلت جيمس فولي مرة أو مرتين خلال عملنا في الشرق الأوسط، لكنني عرفته بشكل أساسي من خلال سمعته: شاب ودود وهادئ يمكنه أن يجعل الناس تضحك حتى في أسوأ الظروف. الآن وقد رحل، أتمنى لو كنت قادرًا على الاعتقاد بأن شخصًا استثنائيًا كهذا قد مات وهو يناضل لإعلام جمهور أمريكي يتحرق لمعرفة الحقيقة. الأصعب هو أن أقبل ما حدث فعلًا، وهو أنه مات فيما الناس يشكلون بحماس آراءً عن مهنته والمواضيع التي غطاه دون أن يتكلفوا عناء قراءة القصص التي وضعها أمامهم.

* توم أ. بيتر هو صحفي حر غطى الشرق الأوسط وأفغانستان لسبع سنوات. يكتب الآن حول أمن الحدود والهجرة كزميل في منحة روبرت نوفاك للصحافة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية