الكتابة عن داعش

الأحد 03 آب 2014

مرسيل شحوارو

(هذا المقال نُشر أولًا على موقع الأصوات العالمية، في 31 تموز 2014)

عندما طُلبت مني الكتابة عن داعش، تركت الصفحة البيضاء على حاسوبي مفتوحةً لأيام. كيف نكتب عن داعش ليقرأنا الآخرون؟ الذين لم يعاينوا ذات المقدار من العنف والفوضى؟ كم مقدار المسؤولية التي نتحملها كسوريين نسبة إلى المسؤولية التي يتحملها العالم في تكوّن ما أسميناه نحن بداعش؟

بداية ً يتوجب عليّ أن أوضّح أن الشعب السوري لم يذهب إلى سوبر ماركت “النصر”، لم يكن لديه على الرفوف خيارات كأن يرحل الأسد كبن علي، أو أن يتنحى كمبارك، لم يمتلك ما يكفي من النفط ليشتري خيار الناتو كليبيا. لكنه أصرّ على شراء “القاعدة” لأنه وجدها ملفوفة بشريط العروض الأصفر ضمن زاوية “التخفيضات”. ببساطة، لم يكن لدينا رفاهية الاختيار، وكان لدى الآخرين أحلام أخرى بخصوص “البضائع الفاسدة” التي يجب التخلص منها على أرضنا وبدماء شبابنا. الثورة السورية التي تناضل منذ أربع سنين، أطلقت نداء استغاثة في جمعة “الحماية الدولية” بعد ستة شهور من انطلاقتها، لتطلب بعدها الحظر الجويّ وإيقاف المهل وطرد السفراء ودعم الجيش الحر والتدخل الدولي.

لقد دعونا الجميع ليكونوا أمام مسؤولياتهم تجاه الإنسانية، لقد كانت الدعوة عامةً و”القاعدة” للأسف الشديد هي التي لبّت النداء. فهل كنّا كسوريين وحدنا المسؤولين عن ظهورها؟ هي لم تنتج في شوارعنا ولا في أحاديثنا. لم نحتجها لنثير ذعر أحد، هي لم تحتج إذننا لتأتي إلينا عبر مطاراتنا “المغلقة”. عبرت إلينا من حدود مفتوحة على وسعها “رغم تحجج البعض بغير ذلك”، عبرت إلينا من مطارات الآخرين وبجوازات سفرهم. عبرت إلينا من عنصرية “خائفة” من لحية رجل ما ومشغولة عن رؤية دم الطفل الذي يحمله ذاك الرجل دامعًا بين يديه.

لا أريد ولو للحظات أن أتنصّل من مسؤوليتنا، كسوريين، عن استمرار هذا الكيان “السرطاني” داخل أراضينا. ففي النهاية، بعضنا بايعه فقرًا، ورجال الأسد القدماء عاشقو السلطة ومتملقو الأحذية بايعوهم طمعًا بالسلطة الجديدة، فأن تتسلط باسم داعش أو باسم الأسد لا فرق كبير.

استمرت داعش بسذاجة ثوارنا الذين ظنّوا أنها قد أتت لنصرتنا وأن من نكران الجميل الحديث عن أخطائها التي تحولت إلى جرائم. استمرت بآلاف المنافقين والاستغلاليين وتجار الدين والحرب. استمرت بالجبن الذي أفرزه العديد من علماء الدين، فخشوا أن يحذروا شبابنا من مبايعة داعش. استمرت بانبهار مقاتل “فقير” في الجيش الحر بعتاد يشبه ما اعتاد أن يراه في ألعاب الكاونتر سترايك بالمقارنة مع بارودته التعيسة. استمرت بتنصل البعض من انتمائه للوطن، ومن انتماء البعض للسفاح. استمرت من انقسامنا السياسي الدموي الحاد، وانقسامنا الأيديولوجي وإنهاك معظمنا برائحة الدم حتى استعداده للتحالف مع الشيطان كي ينهي المعركة، وهذا ما كان وتحالفنا مع الشيطان. استمرت بإخفائنا لعلمانيتنا بحجة عدّم شق “وحدة الصف”، بإخفائنا لأحلامنا بدولة مدنية ديمقراطية حفاظًا على أولويات المعركة. وهكذا استمرت داعش.

وإن كان ذاك كله مسؤوليتنا، فنحن مجددًا من دفع الدم “كله” في محاربة هذا الكيان، ونحن -حتى اللحظة عالأقل- نعاني آثار تطرفه واحتلاله لأرضنا، نعاني محاولته أدلجة شبابنا ويافعينا. نحن الذين أصبحنا بلحظات كثوار مطلوبين من الدولتين، نستجدي على أعتاب الدول الآخرى اهتمامًا بما نثق أنه مستقبلًا سيكون جريمة، لا بحقنا كشعب فقط، بل جريمة تستهدف الإنسانية أجمع. فعمّ سيثمر هذا التطرف مستقبلًا؟ وأي أبرياء في العالم سيستهدف؟

إنهم احتلال يعتبر أن لا وطن للسوريين، وأن ما هم فيه هو “صنيعة الغرب الكافر”، أعلن غزوه لأرضنا على قناة الجزيرة في 9-4-2013 ومنذ تلك اللحظة وهو يحاربنا أولًا. يحاربنا كثورة لا يعترف بها، وكعلم يصّر على حرقه، وكثوار يختطفهم ليغيبهم. وعلى عكس الآخرين، لا يطالب بهم أحد. لا زلت أذكر، تلك المرّة التي مررت بها على الطريق الريفي الواصل من تركيا إلى حلب، وذلك في زمن وجدت فيه حواجز داعش على الطريق بكثافة. الملاحظة المؤلمة جدًا التي ستشد انتباهك حتمًا أنهم قد نزعوا عن ريفنا أسماء قراه، لا شيء ليدل أن هنا أرضٌ سورية. دهنوا كل أعلام الثورة باللون الأسود، مسحوا أسماء القرى، واستبدلوها بحجار سوداء كبيرة تقول: “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ترحب بكم. وأخشى أن أسخر من احتلالهم الوقح، أخشى أن الفلسطينيين بدورهم قد سخروا يومها مما اعتقدوه مشروع دولة لا يمكن تحقيقه فوق أرضهم، أو أن الثوار الإيرانيين قد سخروا بدورهم من مشروع الدولة الدينية التي قد تبتلع ثورتهم. أخشى أن أسخر، وأخشى كذلك أن أدخل أولى مراحل الحزن وهي النكران، لأنتهي بالتقبل والمساومة.

ويرنّ في أذنيّ قول سائق الباص العمومي وهو يلحظ حزني، وأنا أتابع الدهان الأسود يغطي الأرض السورية: بكرة بينزل المطر وبيروح هالسواد كله. عسى أن ينزل المطر على الرقة والباب ومنبج والموصل وكافة المناطق التي احتلتها داعش. لكن أولًا وأولًا وأولًا .. كي يصل الغيم إلى هناك عليها أن تمطر في دمشق.

* رصيد الصورة أعلاه لرويترز، وتظهر غرفة استخدمها مقاتلو داعش في مدينة اعزاز قرب الحدود السورية-التركية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية