الأزيديون.. أيامهم تؤرخ بالمذابح

الأربعاء 13 آب 2014

(نشر هذا المقال في جريدة السفير في ١١ آب ٢٠١٤)

عماد الدين رائف

تنقطع صديقتي جميلة عن المحادثة المستمرة عبر الانترنت منذ نحو تسع سنوات. وبعد أيام ترسل عبارة يتيمة “ماذا تفعلون بنا أيها الوحوش؟”. ثم تصمت ليوم، قبل أن ترسل بلائحة طويلة من المجازر والنكبات التي تصيب شعبها الكوردي الايزيدي في سنجار العراق.

لقد دنّس الإرهابيون مقدسات الأقلية الايزيدية في العراق. هرب منهم عشرات الآلاف خوفاً، ومن بقي، مورست عليه طقوس الإبادة الجماعية. ذبح الإرهابيون الرجال أمام أطفالهم ونسائهم تحت لافتة “لا إله إلا الله”. ذبحوهم في حفلة جنون، ورقصوا بالرؤوس المقطوعة. وسبوا النساء والأطفال، ونقلوهم في طوابير طويلة. وضعوا السلاسل في أيديهم، فما هم إلا إماء وعبيد في دولة الخلافة. وبالفعل عُرضت النساء مع أطفالهن للبيع في سوق نخاسة.

محادثاتنا الطويلة مع جميلة، بدأت في العام 2005، كانت قد تناولت مقاعد دراستنا المشتركة، الإلحاد والدين، صراع الحضارات وتلاقيها، صعوبات الإلمام بالكورمانتشية، أشعار جكر خوين، أغاني شيفان برور، روايات أَرَب شاميلوف وترجماتها المختلفة، وحياتنا اليومية القاسية في عالمين مختلفين.

كانت المحادثات قد بدأت على موقع “أدنوكلاسنيكي”، ثم انتقلت إلى “الماسنجر”، لتحط رحالها في “ف كونتاكتي”، قبل أن يحتكرها “الفايسبوك”. جميلة، الشابة الايزيدية التي تقطن في العاصمة الجورجية تبليسي، لا تمارس طقوس ديانتها. تراها بالية ومعقدة، أو على الأقل، كانت تراها كذلك، قبل استهداف “الإرهاب المتأسلم، المتدثر بعباءة الخلافة” لمقدسات الأقلية الايزيدية في العراق. باتت تضع مكان صورتها الشخصية رمز الطاووس المقدس.

ولعل انتهاكات حقوق الإنسان هي ما يؤسس لتاريخ الأقلية الايزيدية، بغض النظر عن أماكن تواجدها وانتشارها. وبالرغم من المجازر والحملات التي بدأت مع تسلط العباسيين على بلاد ما بين النهرين، وتمددهم شمالاً، فإن هذه الأقلية لم تترك أماكنها المقدسة، حيث يعتبر “معبد لاش” من أهمها. ويقع في منطقة جبلية شمال غرب الموصل، وهو مقر المجلس الروحاني الأعلى للديانة الايزيدية في العالم. ويحج المؤمنون الايزيديون إليه مرة واحدة خلال حياتهم على الأقل، وتستمر طقوس الحج إلى لاش لسبعة أيام. أما الايزيديون القاطنون في سنجار فيحجّون سنوياً إلى ذلك المعبد كل خريف.

تهجير الايزيديين من محافظة نينوى العراقية، والتجاء عدد كبير من الأطفال والنساء إلى المناطق الجبلية، في ظل هجوم معاكس من “البيشمركة” الكوردية لاستعادة أجزاء من سنجار، ليس الأول من نوعه. إذ يتمركز الايزيديون في مناطق شاريا وخانك وديره ‌بون في دهوك. أما في سوريا فلهم تجمعات في القامشلي، وعفرين ومنطقة الجراح والقرى التابعة لها. كما ينتشرون في مناطق ماردين وسيرت واورفا وقارس وأغري وأردهان التركية، وعلى تخوم أردهان في قرى جبل أرارات وداخل العاصمة الأرمنية‌ يريفان. وبالإضافة تبليسي الجورجية، لهم مناطق تجمع في القوقاز الروسي، ومقاطعة ستافروبل. ذلك فضلاً عن استقرار عائلات كثيرة في المهاجر كألمانيا والنمسا وفرنسا والولايات المتحدة.

لطالما تم الاعتداء على تلك الأقلية في السابق، وقد أقر مجلس النواب العراقي في آب 2012، بتأسيس ديوان “أوقاف الديانات المسيحية والايزيدية والصابئة المندائية”. وباعتراف رسمي بهم في عراق ما بعد صدّام، بات للايزيديين مقعد في مجلس النواب العراقي، ومقعد آخر في مجلس محافظة نينوى ومجلس قضاء الموصل. وكانت النائبة من كتلة التحالف الكردستاني فيان دخيل، قد أطلقت صرخة قبل أيام فحواها أن “المكون الايزيدي يتعرض لإبادة جماعية، على يد داعش الإرهابية، التي استباحت دماء الأطفال والشباب وهتكت أعراض النساء بعد محاصرتهم في جبل سنجار”. وبللت الدموع أوراق دخيل، وهي تقول: “500 شاب ورجل ايزيدي ذبحوا، وتسبى نساؤنا وتباع في سوق الرق”. وأكدت دخيل تهجير ثلاثين ألف عائلة من قضاء سنجار، ووفاة 70 طفلا ومئة شيخ وامرأة بسبب الوضع الإنساني السيّء.

دخيل، بصوتها المتهدج، وبرغم مقاطعات متكررة من رئيس الجلسة في البرلمان العراقي، ظلت تصرخ وتطلق نداءات استغاثة: «أنقذونا… أطفالنا يموتون، شيوخنا يموتون، نساؤنا تسبى وتباع. هناك دين يباد باسم دين، ونقتل على وقع “الله أكبر”.

وظلت دخيل تنادي وتصرخ وتبكي، غير آبهة بالمقاطعة. حتى انهارت بين زميلاتها وزملائها من النواب. وفي لحظة احتشاد السكون والذهول، بدا صوتها يتيماً في عراق تتناهشه الوحوش.

هي آخر الحلقات في مسلسل استهداف الايزيديين، وربما تكون الأخطر، إذ تتهددهم بإبادة جماعية في أحد أهم معاقلهم. وقد ترافق الاضطهاد الطويل للازيديين مع إصدار فتاوى دينية إسلامية تتهمهم بالكفر والخروج عن الدين، كان آخرها ما أدى إلى نكبة سنجار سنة 2007.

وقد بدأت تلك الحملات مع الخليفة العباسي المعتصم، يوم كان أمير الازيديين جعفر الداسني، واستمرت حتى القرنين السادس والسابع عشر. وقد تفنن الولاة العثمانيون في قتل وتعذيب وتشريد الايزيديين طوال القرن الثامن عشر، حتى أنهم سعّروا النعرات الطائفية بينهم وبين بقية الكورد السنّة. إلا أن “القومية الكوردية كانت تتغلب على المؤامرات”.

ويحفظ تاريخ الإرهاب الطويل حملات منها حملة حسن باشا سنة 1715، وحملة أحمد باشا سنة 1733، وحملة سليمان باشا سنة 1752. كما تم استهدافهم من الشرق بين العامين 1732 و1743 على يد جيوش نادر شاه الفارسي. وقد تصدّرت فتوى مفتي الأستانة أبو السعود العمادي بقتلهم القرن التاسع عشر، فاستهدفهم علي باشا بحملة شرسة في العام 1802، تلتها حملة سليمان باشا الصغير سنة 1809، وحملة اينجه بيرقدار سنة 1835، وحملتا رشيد باشا وحافظ باشا في العامين التاليين. وقد شهدت الأعوام 1844 ـ 1847 مجازر متعددة بحق الازيديين على أيدي محمد شريف باشا، ومحمد باشا كريدلي اوغلو وطيار باشا، إلى أن اختتم ذلك القرن بثلاث حملات بين العامين 1891 و1894.

وكانت للازيديين حصة كبيرة من التنكيل والتشريد إبان مذابح الأرمن في العام 1915. ذلك السجل الحافل بالمذابح تَوَّجَهُ النظامُ البعثي في العراق بحملات الأنفال، التي شكلت إحدى قضايا محاكمات النظام العراقي البائد.

لكن تلك الأقلية “الغريبة الأطوار”، التي رُسمت عنها صورٌ كاريكاتورية، ونال من معتقداتها أصحاب الديانات السماوية ومذاهبها، لطالما تحاورت مع السكين بابتسامة.

في إحدى جلسات الرصيف المسائية قرب مبنى السيرك في مدينة روستوف على الدون ـ بوابة القوقاز، روى لي الصديق الايزيدي عزيز، حكاية وصول الإسلام إلى قريته. كان قد اعتنق الإسلام جندي من أبناء القرية أثناء خدمته في إحدى الفرق العثمانية. عاد ذلك الجندي إلى القرية، وارتقى أعلى سطح فيها، وصدح صوته بالأذان. استغرب سكان القرية من مربي الأغنام والمزارعين ذلك التصرف، ولم يفهموه. توجهوا إلى كبير القرية وعرضوا عليه أن فلاناً يصرخ على السطح كل يوم خمس مرات. سألهم كبيرهم: “هل صراخه يؤذي الماشية أو يؤثر في الزرع؟”. قالوا: “لا”. قال: “دعوه. فليصرخ كما يشاء”. صرخ الجندي وصرخ حتى تعب. ثم قرر الانتقال من القرية إلى حيث يمكن لصراخه أن يلقى صدى.. “واستمرت الحياة مع الماشية ومواسم القمح والشعير بدون صراخ”.

انتهاكات حقوق الإنسان هي ما يؤسس لتاريخ الأقلية الايزيدية، بغض النظر عن أماكن تواجدها وانتشارها، وبرغم المجازر والحملات التي بدأت مع تسلط العباسيين على بلاد ما بين النهرين، فإن هذه الأقلية لم تترك أماكنها المقدسة في العراق، وتحديداً في الموصل وجوارها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية