أول أزمة لاجئين حديثة في بلاد الشام: المهاجرون الشراكسة في الأردن العثمانية

الأربعاء 03 أيلول 2014

فلاديمير ترويانسكي*

تشهد الأردن حاليًا أزمة لاجئين كبيرة بسبب الحرب الأهلية المدمرة في سوريا. اعتبارًا من شهر أيلول عام 2014، يعيش أكثر من 600,000 سوري كلاجئين في الأردن. مخيم الزعتري للاجئين السوريين في شمال البلد هو من أكبر المخيمات في العالم. ليست هذه المرة الأولى التي تستضيف الأردن الصغيرة لاجئين من بلدان أخرى. بحلول عام 2007 خلال الحرب الأهلية العراقية في أعقاب الغزو الأمريكي، عاش ما يصل إلى 700,000 عراقي في الأردن. قبلت الأردن أكبر حصة من اللاجئين الفلسطينيين في عامي 1948 و1967. وكانت الأردن بمثابة ملجأ للاجئين الأرمن الذين نجوا من الإبادة الجماعية عام 1915.

حدثت أزمة اللاجئين الحديثة الأولى في الأردن في أواخر العهد العثماني. خاضت الإمبراطوريتان العثمانية والروسية حربًا ضد بعضهما البعض في عامي 1877-1878. فر مئات الآلاف من الناس من البلقان والأناضول الشرقية من منازلهم بسبب الأعمال العدائية العسكرية وتم توطينهم في ولايات عثمانية أخرى. وكان العديد منهم مهاجرين شراكسة تركوا وطنهم في شمال غرب القفقاز عندما اندمجت تلك المنطقة في الإمبراطورية الروسية. وقد وصلوا إلى الإمبراطورية العثمانية في الستينات من القرن التاسع عشر. الحكومة العثمانية قامت بتوطين معظم اللاجئين لعام 1878 في الأناضول ولكن جزءًا صغيرًا وصل منهم إلى المحافظات العربية.

حملت الموانئ الفلسطينية واللبنانية وطأة أزمة اللاجئين في عام 1878. بعد الانتظار عدة أشهر في موانئ سالونيك أو أدرنة أو اسطنبول، استقل المهاجرون السفن المكتظة التي اقتادتهم إلى بلاد الشام.

حملت الموانئ الفلسطينية واللبنانية وطأة أزمة اللاجئين في عام 1878. بعد الانتظار عدة أشهر في موانئ سالونيك أو أدرنة أو اسطنبول، استقل المهاجرون السفن المكتظة التي اقتادتهم إلى بلاد الشام. وعينت جميع الموانئ الساحلية بين عكا واللاذقية لاستقبال المهاجرين لولايتي دمشق وحلب. لم تكن لسلطات الموانئ الخبرة في التعامل مع أزمة بهذا الحجم. وجد الآلاف من المهاجرين ملاذًا مؤقتًا في مساجد ومدارس وتكايا، وعندما لم تكن هناك مساحة أكبر، أجبر اللاجئون على الانتقال إلى الشوارع والأسواق. كما هو الحال في العديد من أزمات اللاجئين أخرى، كانت العلاقات بين المهاجرين والسكان المحليين متناقضة. من جهة قدم السكان المحليون الدعم للمهاجرين عن طريق التبرع بالمال والمواد الغذائية. وتزامن هذا السلوك الخيري مع سياسة الوحدة الإسلامية من قبل السلطان عبد الحميد الثاني، وقد شددت هذه العقيدة السياسية على مسؤوليات الأمة تجاه إخوانهم المسلمين المحتاجين.

ومن جهة أخرى، ظهرت بعض التوترات الاجتماعية بسبب المظالم الإنسانية والاقتصادية. بعد أن قضى اللاجئون أسابيع على السفن المكتظة عانى العديد منهم من أمراض وبائية معدية. بعد وصول اللاجئين دمرت أوبئة التيفوس والجدري المدن الساحلية، ففي شهر كانون الاول عام 1878 تم دفن ما يصل إلى ستين لاجئ يومياً في طرابلس الشام. وعلاوة على ذلك تفاقمت أزمة اللاجئين في التضخم الهائل. أثرت الحرب بين منتجي القمح الكبيرين على سعر الخبز. بعد وصول اللاجئين أدى ارتفاع الطلب على الخبز إلى رفع أسعار السوق. في شهر آذار عام 1878 بلغت قيمة أوقا (1.28 كجم) الخبز 175 پارة في طرابلس الشام مقابل 60-63 پارة في بقية سوريا.

أمرت الحكومة العثمانية سلطات الميناء بنقل المهاجرين إلى مناطق داخلية هي الآن سوريا والأردن في أقرب وقت ممكن. ظهرت أول مستوطنة دائمة شركسية في إقليم الأردن في عام 1878. استقر الشراكسة من قبيلة الشابسوغ، الذين لجأوا من البلقان، في أنقاض المدرج الروماني في عمان. على غرار الصراعات الإنسانية الجارية في سوريا والعراق كانت أزمة اللاجئين الشراكسة عملية تدريجية، إذ وصل المهاجرون في أفواج. بعد أن استقر اللاجئون الأوائل انضمت مجموعات المهاجرين الجديدة إلى قراهم أو أقامت مستوطنات قريبة لهم. واستوطنت مجموعات لاحقة من الشراكسة في وادي السير (1880) وجرش (1885) وناعور (1900) وصويلح (1905) والرصيفة (1909). وأنشأ شعب الشيشان، وهم مجموعة عرقية مسلمة من شمال شرق القفقاز، قرى الزرقاء (1902) وصويلح (1905) والسخنة (1911) والأزرق (1931). استمرت الهجرة من الأناضول بسبب لم شمل الأسر وفرص العمل في الخط الحديدي الحجازي والإدارة العثمانية، وكذلك مباشرةً من القفقاز بسبب الظروف الداخلية في الإمبراطورية الروسية على مدى عدة عقود.

تطور النظام الدولي لحقوق اللاجئين بعد الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأمم المتحدة، لذلك يوجد رغبة بعدم استخدام مصطلح “لاجئ” لمهاجرين من العهد السابق.

تطور النظام الدولي لحقوق اللاجئين بعد الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأمم المتحدة، لذلك يوجد رغبة بعدم استخدام مصطلح “لاجئ” لمهاجرين من العهد السابق. ومع ذلك ينطبق التعريف الأساسي للاجئين على مهاجري الشراكسة، فهو يعني الأفراد الذين أجبروا على مغادرة بلدهم وغير قادرين على العودة. على الرغم من أن الدوافع الدينية للانتقال إلى “دار الإسلام” كانت مهمة جدًا، غادر المهاجرون الكثيرون القفقاز بسبب اضطرابات عسكرية واجتماعية واقتصادية في المنطقة. لم يتمكنوا من العودة بسبب المخاوف من الاضطهاد وإنكار حكومة روسيا القيصرية حق العودة لهم.

في المراحل المبكرة من أزمة اللاجئين اعتمد المهاجرون على الدعم من الدولة المضيفة. تأسست لجنة اللاجئين في إسطنبول في عام 1860 لتوفير الغذاء والمسكن والدواء للاجئين. ونفذت هذه المنظمة وظائف كثيرة من التي تنفذها المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA) في الأردن حاليًا. على غرار العديد من الجمعيات الخيرية الحديثة، عانت لجنة المهاجرين من نقص العمالة (كان أقرب مكتب لها في حلب) ونقص التمويل. وفي ذروة أزمة اللاجئين استطاعت اللجنة أن توزع الغذاء مجانًا فقط للأطفال وكبار السن في بعض المناطق الساحلية. في المستوطنات الزراعية الداخلية انتظر اللاجئون من البلقان لسنوات للحصول على الماشية والبذور التي وعدت بها الحكومة لهم.

غالبًا يحرّف تصوير الحرب والنزوح البشري ومخيمات اللاجئين في وسائل الإعلام المعاصرة فهمنا للخبرات المتنوعة ومتعددة الأوجه للاجئين، فاللاجئ هو وجه واحد فقط من هوية الشخص المهاجر. كان الشراكسة في الأردن لاجئين من شمال غرب القفقاز أو البلقان ولكنهم كانوا أيضًا مهاجرين (مع كل الآثار الدينية لمصطلح الهجرة) ومستوطنين ومواطنين عثمانيين من الجيل الأول ومزارعين وحرفيين. بنوا أول كتاتيب ومساجد وطرق في منطقة عمان. وكانوا أول نجارين وطحانين وحدادين وصياغ في عمان. إلا أنه بعد أن أثبتت قرية عمان نجاحًا زراعيًا فإن التجار العرب من السلط ودمشق ونابلس انتقلوا إلى هناك وانضموا إلى الشراكسة في بناء العاصمة المستقبلية للأردن. هذه قصة مثيرة للإعجاب أيضًا لأنه في بداية الحرب العالمية الأولى بلغ عدد الشراكسة في الأردن حوالي 5,000 فقط، وهو جزء ضئيل من أكثر من مليون مهاجر في الإمبراطورية العثمانية.

اختبر التاريخ قدرة الأردن الملحوظة على استيعاب موجات لاجئين من أنحاء مختلفة من الشرق الأوسط. بالنسبة لكثير من اللاجئين أصبحت هذه الأرض البيت الثاني والوحيد الذي من شأن أبنائهم أن يعرفوه. لا يمكن التقليل من مساهمتهم في تاريخ الأردن لأن مجتمع واقتصاد وربما استقرار الأردن يعودون في نواحٍ كثيرة إلى طابعها المركب. وبالتزامن مع فترة أزمة اللاجئين السوريين يجدر بنا أن نتذكر أصول الأردن الحديثة وروح ريادة اللاجئين.

—-

*فلاديمير ترويانسكي هو طالب دكتوراه في مجال تاريخ الإمبراطورية العثمانية والشرق الأوسط الحديث في جامعة ستانفورد. تستكشف أطروحته هجرة وتوطين المهاجرين من شمال القفقاز في الدولة العثمانية في العهد بين عامي 1860 و1914. سيتحدث في حبر حول هذا الموضوع في جلسة فنجان قهوة يوم الأربعاء ١٠ أيلول ٢٠١٤. يمكن الاتصال به على: [email protected].

الصورة لعمان في بداية القرن العشرين. استوطن أول المهاجرين الشراكسة حول المدرج الروماني في عام 1878. المصدر: مكتبة الكونجرس، F) 13755)

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية