وأقوام لا تُعرف إلا بمصائبها

الثلاثاء 16 أيلول 2014

هلا أبو طالب

هذا هو حال الإيزيديين حاليا. الإيزيديون (الذين يُعرفون أيضا باليزيديين) هم مجموعة دينية، يعيش أغلب أفرادها في منطقة جبال سنجار وقرب الموصل في العراق. كما تعيش مجموعات منهم في تركيا وسوريا وجورجيا وأرمينيا، عدا عن أزيديي المهجر. ينتمي الازيديون إالى الأكراد ومن المثير للاهتمام بأن الإيزيديين مُغيبون أيضا حتى لدى الأكراد أنفسهم، فلا يعلم الكثيرون عنهم رغم تمسك الأكراد بهويتهم الكردية ولغتهم وانتمائهم لقوميتهم الكردية رغم اختلاف دياناتهم.

هناك مقولة تقول: “ليس للإيزيديين من أصدقاء غير الجبال”، ونستطيع فهم هذه المقولة إن تتبعنا تاريخ الاضطهاد والمجازر التي تعرض لها الإيزيديون على مر التاريخ وهي في مجملها تعود الى فتاوي التكفير منذ 224 هجري الى حملات القرنين السادس والسابع عشر إلى حملات العثمانيين الكثيرة والمتتالية والتي تخللتها المذابح والتهجير الى هجمات الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين عليهم في محاولته لسحق الأكراد. والان يستمر مسلسل الاضطهاد بهجمات “داعش” التي استهدفت شيعة العراق والأقليات المسيحية والإيزيدية فهجرتهم وهدمت بيوتهم وتفننت في قتلهم.

ينسدل ستار الغموض على هذه الديانة لغياب المصادر المكتوبة والموثقة عنها، فهي ديانة يتناقل أفرادها تعاليمها شفهيا وعبر الطقوس في مجتمعهم المغلق، فهم ممنوعون من التزاوج من غير الإيزيديين إضافة الى وجود بعض القوانين التي تمنع التزاوج بين المراتب المختلفة فيما بينهم أنفسهم. كما أنهم كالدروز والعلويين لا يسمحون لغير من ولد إيزيديا بأن يعتنق هذه الديانة. ولهذا السبب، فقد غمرت هذه الديانة الكثير من الشائعات والأقاويل الخاطئة في أغلبها، منها الاعتقاد بأن الإيزيديين يعبدون الشيطان وبذلك يعبدون الشر. وأنهم يشركون بالله، أو بأنهم (لتسميتهم باليزيديين أيضا) يقدسون يزيد بن معاوية ويعبدونه. وكل هذه الشائعات لا تمت لهذه الديانة بصلة وسنرى ذلك فيما يلي.

يؤمن الإيزيديون بالإله الواحد وقد يكون اسمهم عائدا أصلا ل”إيزدا” وهو اسم لاله بابلي قديم. ولهذا نرى ارتباطا بين معتقدات الإيزيديين والمعتقدات السومرية والبابلية القديمة. وعندما تُرجم هذا الاسم من الكردية الى العربية ترجمه البعض الي ال”يزيدية” مما أثار اللبس مع اسم يزيد بن معاوية  ثاني حكام الدولة الأموية (647-683 ميلادية). وأما اللبس في عبادة الشيطان فهي تكمن في نظرة الإيزيديين لقصة الخلق عامة و سجود الملائكة لآدم خاصة.

يؤمن الإيزيديون بأن الله الواحد خلق سبعة ملائكة من نوره، وخلق آدم الانسان فأمرهم بالسجود له. وهنا نرى تشابها مع قصة الخلق لدى ما يعرف بالديانات “السماوية” الثلاث. غير أن الاختلاف يكمن في بقية القصة؛ إذ يسجد ستة من الملائكة لآدم إلا أن أحدهم يرفض السجود ويقول بأنه لا يسجد لغير الله تعالى. وهنا يكمن الاختلاف الجوهري في قصص الخلق هذه ففي قصص الديانات “السماوية” يسخط الله هذا الملاك فيصبح الشيطان الذي يبعث الشر في نفوس الناس، أما في قصة الإيزيديين فيقوم الله بمكافأة هذا الملاك  إذ أنه يجتاز اختبار الله وبذلك يكرمه فيكون طاووس ملك رئيسا للملائكة كلهم وحاكم الكون. وبهذا فلطاووس ملك قداسة ومحورية لدى الايزيديين. ولا يؤمن الايزيديون بوجود الشيطان كمنبع أو محورالشر بل يؤمنون بأن الشر يخرج من خيارات الانسان نفسه وليس هناك كائن آخر يُلام لذلك. كما يؤمن الإيزيديون بأن الروح لا تفنى أبدا، وبأن الجسد ليس إلا رداءً مؤقتا يتغير بما يسمى الموت لتجد الروح رداءً اخر وبهذا فهم يؤمنون بالتناسخ أو تقمص الروح، فليس هناك موت بمعنى الموت الموجود لدى الديانات السماوية.

يتناثر الإيزيديون في أكثر من منطقة غير أن المنطقة الأكثر قداسة لديهم، وأساس الخليقة كلها تقع في منطقة جبلية قرب عين سفني حوالي 60كم شمال غرب مدينة الموصل في شمال العراق وهي لاليش. وهذا ما اختاره أسو حجي صانع الفيلم الوثائقي “لاليش ميهراني” عنوانا لفيلمه الذي كان جزءا من فعالية “الإيزيديين: ماض وحاضر ومستقبل” في  30\8\2014  ضمن فعاليات مهرجان لندن للسينما الكردية في جامعة “سواس SOAS” البريطانية لتعريف المجتمع الدولي بالمأساة التي يتعرض لها الإيزيديون الان على ايدي ما يسمى بالدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش).

لاليش_ وهي كلمة كردية تعني الخميرة_ هي مركز الكون لدى الإيزيديين، حيثما “تخمرت” الأرض وصارت ترابا بعد أن كانت مغمورة بالبحار ونزل عليها طاووس ملك، فتلونت الدنيا وصار فيها نبات وحيوان.  في لاليش معبد لالش النوراني ومقام شيخ شمس إضافة الى قبرالشيخ عَدي بن مسافر المقدس وهو متصوف مسلم من القرن الخامس الهجري قدم من بعلبك في لبنان الى لالش وتعبد فيها فتبعه الناس لأنه “عرف الله” ويُعرف لليوم بكونه مجدد الإيزيدية.

هناك قداسة للعناصر الطبيعية لدى الإيزيديين وبخاصة الشمس وهي قبلتهم في الصلاة، فهي تجلي لنور الله وهذا يعود أيضا لجذور مثرائية قديمة كانت قد انتشرت في بلاد فارس في الألف الأول قبل الميلاد، وقد كان مثرى اله الشمس الذي عُبد حينها.

تحدث الفيلم عن هذه الديانة القديمة وسكان لاليش وطقوسها ولكن الجو كان يسوده الحزن الشديد عندما علق أحدهم بأن لاليش قد تهدم بمن فيها وبأننا لا نعلم إن بقي أيٌ من الشخوص الذين ظهروا في الفيلم على قيد الحياة.

تحدث الفيلم عن هذه الديانة القديمة وسكان لاليش وطقوسها ولكن الجو كان يسوده الحزن الشديد عندما علق أحدهم بأن لاليش قد تهدم بمن فيها وبأننا لا نعلم إن بقي أيٌ من الشخوص الذين ظهروا في الفيلم على قيد الحياة. رغم كل نكبات الإيزيديين بقيت لاليش صامدة غير أن ظهور داعش في الآونة الأخيرة بات يهدد وجود لاليش كلها وبذلك يهدد جوهر الإيزيدية وبقاء هذه الديانة القديمة وهذه الثقافة من أصلها.

تناول فيلم “لاليش” الوثائقي حياة الإيزيديين في لاليش ومعتقداتهم الدينية وعاداتهم وطقوسهم. وعرض جزءا من هذه الطقوس على الرغم من السرية التي تكتنف هذا المجتمع المحافظ، إضافة الى التحدث مع مشايخ الإيزيديين وأفرادهم. وامتاز الفيلم بالشاعرية في السرد والتصوير .

تلا ذلك عرض تقريرين إخباريين قصيرين يستعرضان حال الإيزيديين في رحلتهم الجهنمية من بيوتهم في جبال سنجار وعبر الصحراء هربا من عصابات داعش، ومأساة الأطفال الذين قضوا جوعا وعطشا في الجو الحار، فلم تكن الجبال حتى صديقا لهم  كما قيل في الامثال ولم يحتضنهم غير الثرى الذي دُفنوا فيه.

الفعالية كانت بدأت بعرض رسومات الألماني أوليفير كوغلر التي تستعرض بعض قصص الايزيديين المهجرين في مخيم دوميز للاجئين في مدينة دهوك في كردستان العراق. تشعرنا الرسومات التصويرية بالتواصل مع شخوصها ونكاد نراهم كما رآهم الرسام في بيئتهم في المخيم وعبر عنهم من خلال قصص مصورة جاءت من وحي سردهم لقصص معاناتهم نقلها في رسوماته.

وانتهت الفعالية بندوة كان عريفها الصحفي جوناي يلديز من البي بي سي  الذي ذكّر الحضور بعدد المذابح التي تعرض لها الإيزيديون وهي أكثر من سبعين مذبحة على مر التاريخ، ثم لفت انتباه الحضور للمفارقة في لجوء أكثر من عشرة آلاف شخص من العراق إلى سوريا الان بعدما كان  قد لجأ آلاف الأشخاص في العامين الماضيين بالاتجاه المعاكس، أي  من سوريا إلى العراق، بسبب الأحداث هناك ولكن الظروف انقلبت والحال من سيء الى أسوأ.

بدأت المتحدثة الأولى الأستاذة كريستين أليسون من جامعة “إكسيتير” البريطانية بالحديث عن معتقدات الايزيديين وخصوصياتهم في تقديس بعض الشخوص في مجتمعاتهم ومقاماتهم كشيخ شمس وشيخ حسن، و عن معتقداتهم عن الطهارة والنقاء في الطعام  واللباس والزواج وما الى ذلك. وأما عن الوضع الحالي فأبدت المتحدثة تخوفا شديدا من فكرة وصول داعش الى سنجار وهي بعيدة عن كردستان ومنطقة شيخان (وفيها لاليش) وهي في الجهة المقابلة من الموصل. كما تخوفت من الدمار الذي لحق المقامات المقدسة فقد فُجر مقام شيخ ماند وهو الشيخ المرتبط بالأفعى المقدسة والذي عُرف بامتلاك قوتها هو ومجموعته.

تعتبر لاليش القلب النابض للإيزيديين فإن اختفت لاليش اختفت الايزيدية حسبما قال أحد شيوخها، كما لفتت المتحدثة إلى أهمية التفكير بالايزيديين وعدم نسيان المسيحيين الذين عاشوا على أرضهم منذ آلاف السنين واذ بهم يُهَجرون ويقتلون الان من قبل أشخاص أتوا على حين غرة من مختلف الأنحاء لتكوين (في رأيي الشخصي) ما قد يسمى “أرضهم الموعودة” وهي دولتهم الاسلامية على حساب الأبرياء. ثم تحدث السيد يلماز غوناي، سكرتير اتحاد الجمعيات الايزيدية في ألمانيا، عن رحلته مؤخرا شمال كردستان حيث عبر الحدود حوالي خمسة آلاف وستمئة لاجئا خلال الأحداث الأخيرة. وتحدث أيضا عن سيناريوهات ممكنة للمستقبل الإيزيدي في المنطقة وكلها تتضمن اعتراف واحتضان المجتمع الدولي للايزيديين والأكراد وحمايتهم. وعبر عن رأيه بأن أفضل حل لمستقبل مزدهر للإيزيديين هو في اطار كونفدرالية ديمقراطية حيث تُمنح كل مجموعة عرقية ودينية (كالإيزيديين) حكما ذاتيا مع الابقاء على التضامن والتفاعل مع المجموعات الأخرى.

وختمت الفعالية بتعليقات وأسئلة الحضور، التي عكس بعضها جهلا وتحاملا ضد العرب عموما والاسلام خصوصا، غير أن آخرين ركزوا في تعليقاتهم على نقطة الانتماء للهوية الكردية بعيدا عن التحامل والانتماء الديني.

عانى الإيزيديون كالكثير من الأقليات الدينية من التكفير والاضطهاد، ما يدفعني للتفكير في المناهج الدراسية وكتب الدين في مدارسنا. فحبذا لو نتخلص من ثقافة التكفير المتوارثة في حصص الدين وكتبها فهي البذرة الصغيرة التي قد تعشش وتصبح غشاء كبيرا يغطي عقول بعض الأشخاص الضعفاء فيصبحوا أرضا خصبة للأفكار الداعشية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية