أنا سَلَفي: أو صورة السَلَفي عن نفسه

الأربعاء 08 تشرين الأول 2014

(ظهر هذا المقال على مدونة الكاتب في 3 تشرين أول 2014).

يهتم الكتاب الأخير للباحث الدكتور محمد أبو رمان “أنا سلفي”* في تحليل الهوّيات وتعبيراتها عند “الجماعات” السلفية في الأردن، التي يقسمها إلى ثلاث: السلفية التقليدية، الحركية، والجهادية.

“سوسيولوجية الهوية”، أداة التحليل في الكتاب كما أفهمها، هي البناء الاجتماعي للهوية بوصفها هويات غير ثابتة، متحولة حسب السياقات، تمثل رديفًا للانتماء إلى فئة اجتماعية معينة وتماثل الهوية كعملية تكيف للفرد داخل المجموعة من جهة، وعملية تمايز يتميز أو يميز بها الفرد نفسه عن الآخرين متخلقَا صفات خاصة به، محاولًا التاثير في محيطه الاجتماعي.

انطلاقا من هذه الأداة، ومستعينًا بمقابلات مع عينات “مقصودة” من “التيارات” السلفية الثلاثة إضافة إلى مقابلتين مع “عابرين” من السلفية الى العلمانية والإسلام اليساري، و33 استمارة بحث، يحاول كتاب أبو رمان البحث في “صورة السلفي عن نفسه”، لكن الكتاب سينتهي برسم صورة للسلفي، كما يراها أو يحللها الباحث.

يلعب الدين دورًا فاعلًا في تكوين هوية “السلفي” بوصفه أهم عناصر “روح المجموعة” والانتماء إلى المتحد. لكن هذا العامل تشترك فيه “جماعات” أخرى كالإخوان المسلمين وجماعة التبليغ، فبماذا تتميز هوية السلفي؟

صراع التصانيف

وفق الكتاب، يتجند السلفي ويتأثر بدور المسجد وأبناء الحي وبعض الشيوخ كطريق للتعرف على السلفية. ويتوقف انخراط السلفي التقليدي في المجموعة على الدور الحيوي للمشايخ من خلال طلب العلم وعلى رحلات الحج والعمرة، بينما نجد الأشرطة والمعسكرات الصيفية والفضائيات الدينية تلعب دورًا اكبر في انخراط الحركيين، فيما اللقاءات المنزلية لها الدور الأكبر في انخراط السلفي عند الجهاديين.

ويسرد الكتاب عددًا من المحكات التي يتمايز أو يتفق عندها السلفيون من المجموعات الثلاث. فهم يتفقون سياسيًا على تعريف الدولة الإسلامية بأنها الدولة التي تحكم بشرع الله، يضيف بعض الحركيين إليها الالتزام بمعايير العدالة والنزاهة، والجهاديين إعلانها الجهاد والنفير العام. وينقسم السلفيون في الموقف من العمل السياسي الحزبي البرلماني ومفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. فالتقليديون والجهاديون يميلون غالبًا لرفض العمل السياسي. والحراكيون منقسمون تجاه هذا العمل وإن كان بعضهم يقبل به بشروط.

الهوية السلفية (..) هي في المجمل “رد فعل” وآلية للدفاع عن “الذات” في مواجهة العولمة والتحديات الخارجية.

اجتماعيًا، يتفق السلفيون على رفض الاختلاط بين الرجل والمرأة، مع وجود أقلية تقبل به بشروط. لا يستمع السلفي للموسيقى والغناء، ويحرمون لعب الورق وكرة القدم والشطرنج، مع وجود أقلية محدودة تتقبل كرة القدم وبدرجة أقل الشطرنج وبشروط أيضًا. يرى بعض السلفيين أن اطلاق اللحية واجب، وبعضهم يراها سنة، ويتفقون على ضرورة التزام المرأة باللباس الشرعي ويختلفون على تغطية والوجه واليدين. يكاد السلفي لا يشاهد التلفزيون، خاصة الأفلام والمسلسلات، مع أن بعضهم وخاصة التقليديين يشاهدون الفضائيات الدينية، وبعض الحركيين يشاهدون الأخبار والبرامج الحوارية. ويحرم السلفي مشاركة المسيحيين أعيادهم الدينية، ويختلفون في الموقف من الصداقة والتحية والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية.

تتباين مواقف أفراد وحتى الجماعات السلفية الثلاث في السياسة. فهم يختلفون في الموقف من تطبيق الشريعة، إذ يرى الجهاديون ضرورة تطبيقها فوًرا، والحراكيون منقسمون بين تطبيق على المدى القريب والبعيد، أما والتقليديون فمع مفهوم “التربية والتصفية”، أي تربية المجتمع على الإسلام وتصفيته من الشرك.

السلفي، ككل، شخص “متدين، ملتزم، طقوسي، في الأغلب يهتم بالمظاهر الدينية والظاهرة أو الشكلية”. شخصية السلفي مرتبكة، عمومًا، خاصة إزاء التعامل مع الواقع الراهن والعمل السياسي. ومرتبكة في ترتيب أولوياتها الأساسية. وهذه “محاولة” للبحث عن النقاء الديني. يمنح السلفي النصوص الدينية، القرآن والحديث، والفتاوى الشرعية درجة أكبر من الأهمية مقارنة بغيرهم من التيارات الإسلامية الأخرى. تطبيق الشريعة الاسلامية أحد أهم “تماثلات” الهوية، بغض النظر عن الخلاف على الحكام والسياسيين. وترتبط الشخصية السلفية بالتراث والخبرة الإسلامية، أي العودة إلى عصر الصحابة والتابعين والفقهاء والعلماء المسلمين السابقين.

هذه “التماثلات” تكوّن “هوية” السلفي العابرة للجماعات الثلاث، لكن هناك “تمايزات” بينها. فشخصية السلفي التقليدي تتسم بالبساطة والحسم وتعطي النصوص والفتاوى مرتبة عليا، وتضع العقل في مرتبة ثانوية. شخصية “محافظة تنفيذية”.

أما الجهادية فهي شخصية حدّية في خطابها ومواقفها وسلوكها الاجتماعي، الدين مطلق، وهي في حالة صدام دائم مع المحيط الاجتماعي. ولذلك فالجماعة “الجهادية” تتسم بالتظافر فيما بينها وإقامة علاقة وطيدة بين أفرادها. وهي دائمة التطلع إلى الخارج الى المشاركة في الجهاد في الساحات الخارجية.

الشخصية الحركية، تبدو كهوية أو شخصية انتقالية، غير مستقرة، فهي على حد تعبير أبو رمان شخصية أقل وضوحًا، وأكثر ارتباكًا وقلقًا من التقليديين والجهاديين. ارتباكها هذا ناتج عن “تذبذب” مواقفها من العمل السياسي ومن مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.. إلخ.

 السلفية ليست كتلة صماء، بل هي في “حراك” دائم وتحولات ولا يمكن فصلها عن الشروط الواقعية المحيطة بها.

الهوية السلفية أو “هوية البدايات” تعاني من “أزمة”، وهي في المجمل “رد فعل” وآلية للدفاع عن “الذات” في مواجهة العولمة والتحديات الخارجية، كأنها تعيش معاناة “جرح الهوية النرجسي”. تنظر للآخر بوصفه مهددًا لهوية الذات لا بوصفه “مماثلًا”. وهي “انطواء على الذات” ليست مرتبطة بجذور نفسية محضة تعود للطفولة أو التاريخ الشخصي وحسب، بل لها أيضًا إطار اجتماعي وأسباب موضوعية في التاريخ متمثلة في الخسارات المادية واضطرابات العلاقات وتغيير القناعات الذاتية.

إن السلفية رد فعل على مرحلة صعبة تمر بها المجتمعات وتمثل “تصدعًا في التوازن بين مكونات متباينة”. لكن هذا ليس حكمًا على السلفية بوصفها تفاعلًا خاطئًا مع الظروف والتحديات، فالسلفية ليست كتلة صماء، بل هي في “حراك” دائم وتحولات ولا يمكن فصلها عن الشروط الواقعية المحيطة بها، والأزمة الراهنة هي محاولة لفهم الحالة السلفية بوصفها طريقًا في البحث عن الذات والهوية وسط هذا الواقع المتخم بالتحديات والاسئلة.

حاولت سابقًا، أن أعرض أهم ما فهمته من الكتاب، متجنبًا التكرار، وكان ما يهمني أساسًا هو ما أراد الكتاب أن يصل إليه رسم أو تحديد “هوية السلفي” أو “صورة السلفي عن نفسه”، طالما أن الكتاب عنوانه “أنا سلفي”.

في النهاية، هوية السلفي هي صورة متخيلة عن الذات، لكن أليست كل هوية “متخيلة”؟

جيت بوقتك

يأتي كتاب أبو رمان في وقته، حيث “ظاهرة التسلّف” باتت الشغل الشاغل للناس، وهي حالة قوية قائمة ومنتشرة في المجتمعات العربية، وليست مستحدثة ولا غزوًا دينيًا لمجتمعاتنا وثقافتنا، بل تيار عريض له تراثه الفقهي والفكري والدعوي، وهي حالة بدأت أيضًا أو أثّرت على أحزاب وحركات دينية قائمة منذ عقود مثل الإخوان الذين اتجهوا إلى “التسلف”.

رغم بعض التكرار أو التشابه مع كتب أخرى للباحث، إلا أن الكتاب مهم جدًا وخاصة للقارئ العادي، فهو إحاطة تكاد تكون شبه شاملة بالحالة السلفية في الأردن ويساعد القارئ في فهم هذه الظاهرة التي رغم انتشارها لا تزال ملتبسة في الذهن.

وأعتقد أن الفهم الأفضل للظاهرة السلفية قد يساعد في التخفيف من “فوبيا السلفية” أو الزينوفوبيا، التي أخذت تسيطر على عقول البعض.

في الواقع، الكتاب رغم المقابلات القصدية، حرم القارئ من فرصة المساهمة في رسم هوية السلفي بشكل أكثر وضوحًا، إذ أن الكاتب، وللأسف، لم يضع نص المقابلات كما هي لا في المتن ولا في الهوامش، مما كان سوف يمنح القارئ فرصة أفضل لـ”تخيل” هوية السلفي أو صورته عن نفسه، بل حرّر المقابلات بلغته الخاصة.

الأمر الآخر الذي افتقده الكتاب كان صوت “السلفيات”، إذ لم نر أي مقابلة مع “سلفيات”، كما أن الكاتب لم يشِر إذا شملت الاستمارات إناثًا أم لا، خاصة وأن الدراسات تؤكد أن “السلفية” والتدين منتشر أكثر بين النساء، فانعكاس الخطاب الذكوري على النساء أعلى منه لدى الذكور ضمن آليات إعادة إنتاج الهيمنة الذكورية، بحسب قول بورديو، وإلصاق صفة التدين يكسب الفتاة اعتبارًا ذاتيًا – مجتمعيًا. ونحن نرى اليوم مدى انتشار هذا “الفكر” السلفي بين النساء، وكذلك مدى مساهمة المرأة ودورها في “القتال” مع “داعش” أو “النصرة”، أو في إعادة إنتاج السلفية وفي ترسيخ الصورة النمطية أيضًا.

كان الكتاب بحاجة لجهد أكبر في التحرير ليس لتجنب التكرار مع ما ورد في كتب الباحث أبو رمان السابقة، بل في تجنب التكرار الكثير في الكتاب نفسه. وكذلك في ضبط أكثر لبعض المفاهيم، أو في تنسيق بعض الفقرات، فالقارئ شعر بأن بعض فقرات الكتاب كتبت في وقت سابق ثم أضيفت للكتاب بدون “تجديد”.

كنت أتمنى أو أن الباحث، أو ربما في بحث آخر، يعطي جهدًا أكبر في تحليل الأمكنة التي تحدث عنها مثل الرصيفة وحي نزال والبقعة وغيرها، كأمكنة “هوياتية” أو منتجة لهويات، لإلقاء مزيد من الضوء حول دور العوامل الاجتماعية والاقتصادية والجهوية في إنتاج الحالة السلفية.

* هناك علاقة طريفة بين كلمة “أنا سَلفي” العربية التي اختارها الباحث عنوانًا للكتاب وكلمة selfie الإنجليزية التي انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعية كـ”صورة للذات” في تحولاتها، أو كما يرغب الفرد بأن يُرى من الآخرين.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية