هل رفعت ويكيبيديا العربية من جودة التاريخ العربي الرقمي؟

الأربعاء 29 تشرين الأول 2014

نظرًا للظروف الصعبة التي كان يمر بها الأردن من النواحي الاقتصادية والسياسية والعسكرية، كان عقد معاهدة السلام مع إسرائيل خيارًا استراتيجيًّا لضمان عدم خسارة مزيد من أراضي المملكة.

ليست هذه كلمات مسؤول إسرائيلي أو كلمة لأحد المشاركين في توقيع المعاهدة، بل هي وجهة نظر مَن تبرع بتعديل مقال معاهدة «وادي عربة» في موسوعة ويكيبيديا التشاركية كما يظهر الآن في آخر نسخة منشورة من المقال (عند كتابة هذا المقال). تحذف هذه الجملة تارة. تسترجع تارة أخرى، أو تعدل عدة مرات ما بين الحذف والإضافة:

فمِن «كان عقد معاهدة السلام مع إسرائيل خيارًا استراتيجيًّا لضمان عدم خسارة مزيد من أراضي المملكة» إلى«كان عقد معاهدة السلام مع إسرائيل خيارًا استراتيجيًّا لضمان خسارة المزيد من كل شيء»، إلى التعديل الذي ما زال بانتظار موافقة أحد المحررين ليتم نشره: «كان عقد معاهدة السلام مع إسرائيل خيارًا استراتيجيًّا لضمان عدم خسارة مزيد من أراضي المملكة، وعلى عكس مصر التي حصلت بموجب المعاهدة مع اسرائيل على كل اراضيها المحتلة، فإن الاردن لم يحصل على أي تنازل مقابل هذه المعاهدة، وخرجت اسرائيل من هذه المعاهدة منتصرة؛ إذ أمّنت نهائيًّا الجبهة الشرقية لتتفرغ لباقي الجبهات».

Wikipedia edits

عند البحث في جوجل عن«وادي عربة» أو«أحداث محمد محمود» أو «الشيعة» أو حتى «البقلاوة»، نجد أن مقالات موسوعة  ويكيبيديا على رأس  قائمة النتائج، إن لم تكن من النتائج العشر الأولى. أصبحت ويكيبيديا الآن من المراجع الأساسية لأي معلومة، شخصية كانت أم عامة، أما آلاف النتائح المتبقية، فإما أن تكون أخبارًا أو مقالات رأي أو منتديات أو فيديوهات توفّر تعليقًا حول لحظيات هذه الأحداث أو الشخصيات أو الأماكن. فرصك في أن تجد رابطًا لأجزاء رقمية من كتاب أو بحث منشور كمرجع شامل متخصص عن «اتفاقية وادي عربة» في النتائج، ضئيلة جدًا. ولا تستمر فرحتك عند وصولك إلى رابط كتاب «معاهدة وادي عربة: دراسة تحليلية : بحث مستفيض في اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية وإمكانية إلغائها من قبل الجانب الأردني» على Google Books، فهناك فقط ثلاثة أسطر من هذا الكتاب متاحة لك. بالمقابل عند بحثك عن «Jordanian Israeli Peace Agreement» ستجد أنه بإمكانك تصفح الكثير من الكتب التي تناولت هذا الموضوع، أو على الأقل، يمكنك تصفح المراجع التي اعتمدت عليها.

في ظل الشح العظيم لمراجع التاريخ الشمولية المتوفرة على الإنترنت؛ هل يمكن أن تكون ويكيبيديا – وبالمنصب التي تتصدره الآن كمرجع أساسي للمعرفة، هل يمكن أن تكون قد رفعت من جودة وإتاحة التاريخ العربي الرقمي؟

مصدر أم مرجع؟

كسرت تقنية الويكي وموسوعة ويكيبيديا سلطة النص المؤرّخ المطبوع في الكتب والجرائد، أو المنشور بتمكينها نوعًا من السرد الجماعي المستمر. فلا تنتهي رواية الحدث في أي لحظة على الصفحة نفسها. وإن كنت ممن يريدون أن يبنوا مرجعًا للأحداث الآنية، فأمامك خياران: إما أن تنتظر ليقوم كاتب وباحث بتوثيق الحدث بعد سنوات في كتاب، أو أن تبدأ بالتوثيق اللحظي معتمدًا على مصادر الأخبار ووسائل الإعلام الاجتماعي. فمثلًا، بدأت صفحة «25 يناير» على ويكيبيديا بنفس تاريخ هذا اليوم عام 2011، واستمرت لتكون من أكثر المقالات التي تم تعديلها في مصر في السبعة شهور الأولى من عام 2011. في ذلك اليوم، لم يكن هنالك إجماع من المحررين على التسمية حسب ما ورد في اليوم نفسه على صفحة نقاش المقال:

wikipedia edits

يكفي قراءة النقاشات في صفحة «عبد الفتاح السيسي» أو صفحة«الشيخ عدنان ابراهيم» أو «عرب ال48»، لتلاحظ أن الصراع على من يملك القصة قد انتقل إلى هذه  المساحة؛ المساحة التي من أهم أسس التوثيق فيها «الموضوعية والحياد» حسب القوانين التي وضعها مجتمع المحررين بأكمله في ويكيبيديا. لكن في ظل غياب وعدم إتاحة الوثائق الرسمية والأبحاث والمصادر العربية، تعمل ويكيبيديا كمساحة يعاد فيها تدوير الأخبار الموجودة على الانترنت، لا كمرجع لمحتوى مروي أصيل، حسب المحرر ميسرة عبد الحق.

حسب ميسرة، حتى عند تسجيل الأحداث اللحظية، فإنه ما زال هناك تردد وعدم ثقة بمصداقية ووزن الشهادات على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر توثيقي. فيلجأ معظم الويكيبيديين إلى الاعتماد على مصادر الأخبار بشكل أولي ليتم قبول تعديلاتهم.

تأتي هنا صفحة «أحداث محمد محمود» مثالًا بالنسبة لميسرة. وعلى الرغم من أنها تتوافق مع  معايير ويكيبيديا السريعة (تقسيم المقال، الإطار، المراجع) لما يمكن تسميته بالمقال الموثوق، إلا أنّ بوابة الأهرام فيها تشكل 52 من 240 مصدرًا، مما يوثق الرواية الحكوميّة المهيمنة لبعض الأحداث. يقول أحد محرري المقال في صفحة النقاش: «حاولت اضافة التعديل بالمصادر لكن تم اعتباره spam لكثرة الروابط، كما ذكرت سابقًا أنا أعتمد على مشاهدتي الشخصيّة وأصدقائي في الاحداث، لكنني عثرت على بعض المصادر والأخبار (معتمدًا في الاغلب بصراحة على البحث في اخبار بوابة الاهرام)».

قد تنفذ الكثير من النصوص من التحرير اللغوي والتوثيق، مثل إدلاء رأي ما، حول إن كانت معاهدة وادي عربة «خيارًا» استراتيجيًّا في الصفحة المعرّفة بها. يرجع هذا إلى أسباب كثيرة منها قلة المحررين في ويكيبيديا العربية، ولكن تأتي الصدمة عند مقارنة عدد محرري ويكيبيديا الذين قاموا بأكثر من خمس تحريرات لكل مليون مواطن عبر لغات ويكيبيديا المختلفة.  فهناك:

69 محررًا لويكيبيديا السويدية لكل مليون متحدث بالسويدية. 18 محررًا لويكيبيديا الصربية لكل مليون متحدث بالصربية. 145 محررًا لويكيبيديا العبرية لكل مليون متحدث باللغة العبرية. بالمقابل فإن لكل مليون متحدث باللغة العربية، محرر واحد.

Infographic wireless wikipedia

معظم هؤلاء المحررين من مصر والسعودية، إذ يحررون ما يقارب 42% من المحتوى، ولكن الجدير بالذكر أن محرري إسرائيل قاموا بتحرير 2% من ويكيبيديا العربية، وتفوّقوا بهذا على المساهمات التحريرية لتسع دول عربية أخرى.

لا تعترف وكيبيديا بدولة فلسطين لتعريف المحررين على الصفحة نفسها، ولكنها أسمتهم «الفلسطينين».

الصراع حول السرد ينعكس بمدى تحرير ويكيبيديا العالمية. فنرى أن إسرائيل التي تشكل 0.1% من سكان العالم، وذات الـ 5.6 مليون مستخدم للإنترنت حررت ما يقارب 0.6% من محتوى ويكيبيديا بأكمله، مقارنة بمصر ذات الـ 37 مليون مستخدم التي حررت 0.4%.

يأتي مثال النقاش الدائر على صفحة «عرب الـ 48» على حاجة ويكيبيديا للمزيد من المحررين من ذوي الاختصاص حتى تعكس المعلومات المسرودة على الصفحة التاريخ الواقعي لهذه المجموعة دون الوقوع في اللغويات السياسية:

wikipedia edits

تقود ويكبيديا الآن مصادر المعرفة الرقمية، خاصة في أي بحث على جوجل. على الرغم من أن هناك إجماع من الأكاديميين وحتىمنظمة ويكيبيديا الأم، «ويكيميديا»، على عدم اعتبار الموسوعة مصدرًا موثوقًا، بل خطوة بدائية للبحث؛ ولا يتم الأخذ بهذا في ظل غياب المصادر المتخصصة العلمية والأكاديمية على الإنترنت. خاصة وأن منظمة ويكيميديا تقوم الآن بإبرام شراكات مع قطاع الاتصالات لجعل الوصول إلى الموقع مجانًا دون تكاليف اشتراك الانترنت؛ كما هو الحال مع شركة أمنية في الأردن على سبيل المثال.

حسب ويكيبيديا، يتم تصفح صفحات ويكيبيديا العربية، ذات الـ 530 مليون متحدث، ما يعادل 143 ألف مرة في الساعة الواحدة.  لكن بالنسبة لويكيبيديا الإسبانية؛ اللغة ذات الـ 500 مليون متحدث، تحصل صفحاتها على 105 مليون مرة تصفح في الساعة الواحدة. إنّ عدد المتصفحين المتحدثين بالعربية أقل بكثير من الإسبانية، وعلى الرغم من أن ويكيبيديا العربية تأتي في المرتبة الـ 15 بالنسبة لعدد مرات التصفح على مستوى لغات العالم، إلا أن هذا الرقم ما زال أساسيًّا في بيئة رقمية تفتقر إلى أي مصادر بحثية متوفرة على الإنترنت سواء كانت أكاديمية أو حكومية أو وثائق دولة.

Infographic wireless wikipedia

ربما نكون بالغنا في رومانسية تفتيت سلطة الرواية التاريخية الجماعية مع إتاحة الوصول إلى منابر التوثيق عبر الإنترنت وأدواته. فإذا توغلنا بعمق فيتوزيع محرري  ويكيبيديا على عدد تحريرات المحتوى، نرى أن 16,5% من التحرير على ويكيبيديا العربية كان من خلال 15 محرّرًا متحدثًا للغة العربية. تذكرنا هذه الأرقام بأنه حتى في هذه المنابر الشعبية، قلة هي التي تساهم في إنتاج المعرفة وإعادة تدويرها. ويرجعنا هذا إلى القليل من المركزية في المرويات التاريخية.

هناك فجوة كبيرة بين سرعة استهلاك التاريخ العربي الرقمي (المتوافقة مع سرعة انتشار الإنترنت)، وقلة المصادر المنتجة للمعرفة الأصيلة المتخصصة. إن افتقار البيئة الرقمية للمحتوى الأكاديمي والتاريخي بسبب تقييد قوانين الملكية الفكرية، أعطى لويكيبيديا سلطة تجميع التاريخ العربي على الرغم من شعبوية هذا التجميع أو التوثيق، أما الروايات الأخرى للذاكرة العربية سواءً كانت على المطبوعات غير المتوفرة رقميًّا، أو على وسائل الإعلام الإجتماعي، لن تجد لها مكانًا في موسوعة تجمعها وتوثقها، مثل ويكيبيديا، على محرك جوجل.

تأتي هنا أهمية دفع تحرير المعرفة المغلقة في الجامعات، وإتاحة الوثائق رقميًّا وإن كانت على موقع وكيبيديا؛ وأهمية ابتكار أدوات قد تجعل من وسائل الإعلام الاجتماعي والشهادات المنشورة مسوعات بحد ذاتها. عندها يمكننا القول إن الأدوات والمنابر الرقمية ذات التكلفة البسيطة قد أثرت وأتاحت معرفة أكبر تجمع بين أبحاث الأكاديميين وكتب المؤرخين والمحللين، وشهادات المستخدمين الناشرين على مواقع الاتصال الاجتماعي، وموسوعة ويكيبيديا الشعبية.

(سيعقد نقاش موسّع حول أزمة التوثيق الرقمي للذاكرة العربية ضمن جلسات لاسلكي الحوارية، يوم الاثنين في حبر. لمزيد من التفاصيل، اضغط/ي هنا).

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية